قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
-----------------------------------------

من بين العديد من القصص التي طرحتها علي مجلة العربي. أخذت هذه القصص الأربع التي تفصح كل واحدة منها عن جانب من جوانب القصة العربية المعاصرة.

خيوط الفجر:

قليلة أو ربما نادرة هي القصص التي تتمكن من تصوير الفاجعة الفلسطينية «الآن». فبما أن الجميع لايزال داخل التجربة الأليمة يبدو من الصعب اتخاذ المسافة الضرورية للإبداع. إلا أن هذه القصة تتمكن من تصوير حياة البشر العادية ومعايشتهم للألم والشعور بالفقد واحتمال خسارتهم لحياتهم في أية لحظة. ويتحول بقاء القطة على قيد الحياة بعد الانفجار الذي أودى بحياة العائلة بأكملها إلى فعل رمزي يؤكد القدرة على الاستمرار والإصرار على الوجود في وجه كل ما يشي بالفناء.

السندباد. ..أبدا!:

تبدو القصة وكأنها تتحايل على الشجب العلني لانعدام العدالة في الأوطان وذلك عبر تخفيها في ثوب الواقعية السحرية.

فالسندباد في هذه القصة ليس السندباد المعروف بترحاله في محاولة للاكتشاف واكتساب الخبرات، بل هو الإنسان المغترب الهارب من جميع الأوطان بحثا عن الأمان والاستقرار. يختلط الشخصي بالعام/ السياسي حتى يبدو هذا السندباد العصري وكأنه النفس العربية الآن.

مفارقة الزمان والمكان:

يبدو القهر السياسي كعامل تأثير مباشر في الشخصي. فالشخص الممنوع من مغادرة وطنه يظل يحلم بالمرأة التي أحبها والتي تقيم في بلد آخر. تظهر المفارقة في الزمن الذي يخونه بعد أن يتمكن من تحديد مكانها. قصة تصور الفجيعة الشخصية بسبب التعنت والسياسي الذي يبتر كل الأحلام المشروعة.

وجه:

بسبب التكرار الدائم تحول فعل الولادة- خروج طفل من الرحم الأمومي- إلى حدث عادي. تعيد هذه القصة القداسة لهذا الحدث، وذلك عبر تصوير آلام المخاض التي تحتاج فيها المرأة إلى المساندة التي يكون مصدرها الأم. وبذلك تنسج الكاتبة نسبا أموميا راسخا يستعيد للمرأة خصوصية إمكاناتها الجسدية، وقدرتها الهائلة على «الخلق». قدمت الكاتبة كل ذلك بسلاسة شديدة دون اللجوء إلى أى شعارات نسوية. تموج القصة بشخصيات نساء بعضهن يعضد المجتمع الأمومي وبعضهن يعيد إنتاج قيم الذكورة التي تستخف بفعل الولادة ولا تعير آلام المخاض أهمية.

-----------------------------------------

خيوط الفجر
نبيه إسكندر الحسن (سورية)

عائدة طفلة جميلة وجهها أسمر ينبعث من قسماته بريق محبب، وعدتها جدتها بقطة جملية مثلها كهدية في عيد ميلادها السابع، لقد أوفت الجدة بوعدها، وذات يوم جاءت عائدة تتمايل تحت ظلال الياسمين،وكانت الجدة تنذر نفسها للزهد والتنسك، وقفت عائدة خلف جدتها وأطبقت عينيها بيدها وسألتها:

- من أكون؟

اغتم فؤاد الجدة حين لم تسمع مواء قطة عائدة، وتجمدت دمعة على كرسي خدها، وبدت مستغرقة ضجرة، وهي ترقب حركات حفيدتها، لا تدري كيف سألتها:

- أين القطة ؟.

وتنهدت بغيظ :

- محبوسة في غرفتي.

مطت شفتها السفلى، ارتعدت مفاصلها، فتبينت الجدة مدى الأثر الذي تركه سؤالها في نفس الطفلة، أشارت أن تلحق بها حيث شجرة الليمون، جلست الجدة وراحت تمتع ناظرها ببهرج شعاع يتخلل الأوراق المخضلة، لقد ألفت همسات الأغصان الجذلى، وحركات عصافير الصباح التي بنت أعشاشها بمهارة، هذه الحركات ذكرتها بمواء القطة عندما تنهض للصلاة مع ديكة تنقر خيوط الفجر، والقطة تموء. ..وتموء أصبحت أنيستها، رحلت بأفكارها بعيدا، وصلت إلى مقاييس جديدة، تطربها زقزقة العصافير ومواء القطط، بتعجب سألت ذاتها: «يا إلهي! ما مقدار قوة هذه الكائنات وانسجامها مع قسوة الطقس وما يحيط بها من عناصر الطبيعة الغضوب، رغم ذلك مازالت تتكاثر كغيرها من الكائنات».

كانت الجدة مستغرقة في التأمل حين دفنت عائدة رأسها تحت إبط جدتها لتسمع نبضات القلب العطوف، هذه النبضات ذكرتها بدفء قطتها الناعمة، بنبرة عطف:

- أريد قطتي.

أدركت الجدة ما يدور في ذهن عائدة من تساؤلات، شردت بعيدا، جمعت ركام الذاكرة. غيبها ملك النوم للحظات، انقض عليها الوحش وقبل أن يغرس أظفاره في جسد عائدة، اندفعت تقاوم بكل قواها لتدرأ الخطر القادم، بحركة من أظفار الوحش دوى صوت انفجار هائل، جعلها تنهض مذعورة، كانت الطائرات الرعناء تدور في الفضاء، ترتكب حماقاتها، نظرت الجدة إليها غاضبة ساخطة، قبضت على يد عائدة وحثت خطاها صوب بيت ابنتها وقع بصرها على المنظر المريع، صرخت:

- ويل لكم.

اندفعت عائدة إلى فسحة البيت، كانت ألسنة اللهب قد جاءت على كل شيء، بعث المنظر الرعب في قلبها، تبحث عن والديها وأشقائها فلم تعثر إلا على ثياب حرقتها ألسنة اللهب، يأتى لسمعها مواء القطة من الزوايا ومن بين النار المندلعة وثبت إلى صدر عائدة، وهي تموء مواء متواصلا بدا كأنها اللعنة على نازيي الألفية الثالثة.

السندباد.. أبداً!
حكم الكاتب ­ (سورية)

رأيتهما يتعانقان! احتارت الشمس أين تغيب، بات الأفق قريباً، صار يومي أطول من عمر الأرض..

استنزفت أفكاري، عصرت أيامي لأجد ما أخاطبهما به فلم أجد!

علي الفرار، أعلم أنه طريق الجبناء، ولكن لا سبيل، خرجت السفينة من شط العرب إلى عرض البحر فاتسعت دائرة الأفق، لم أرَ أمامي أو ورائي، عن يميني او يساري سوى الامتدادات، الأزرق يترجرج بي وفوقي الشراع الكبير ذو المسربين ككفين تملؤهما الرياح، علمتني غرسات المجاديف وأنا في الطريق الشيء الكثير، فكل غرسة في قاع المياه الضحلة تدفع للأمام، على المرء ألا يستوطن الأوطان، فالأرض عطشى والبلاد جائعة. ومملكة الذهب الأسود تلتهم الزرع والرجال وتطلب يوماً بعد يوم المزيد، ولن تهدأ حتى تقدم إليها دماء هذا الإنسان المشئوم الغريب، قلت لهم : (إنما سبب الظمأ هو سوء التدبير) فوضعوا حبلاً غليظاً حول عنقي وجرجروني في الطريق، ورأيت السياف مقبلاً في لهفة وقد امتشق سيفه. فقلت هل من صديق؟ وبعد الصراخ العنيف الذي كاد يخلع قلبي عن جسدي وقبل أن يأخذ السياف عنقي! ساد صمت غريب!

ففتحت عيني فوجدتهم مبهوتين كأن على رءوسهم الطير، رأيتهم يتطلعون الى السماء. فتطلعت مثلهم فلم أجد شيئاً، ولكن سمعت قصف رعدٍ مدوٍ، فتقت السماء وأضاءت كل شيء حولنا، وانهمر سيل رهيب شغل الناس عمّا هم فيه، وهكذا نجوت من عبث الإنسان بفعل الأقدار، وخرجت منهكاً تعباً هزيلاً وغفوت تحت شجرةٍ عاليةٍ أغصانها كمروحة، وبعد ساعة أو ربما نهار - لا أعلم كم من الوقت قد مر علي - استيقظت على صوت غريب ظننت نفسي في حقل للماشية أو ربما في «زريبة». خوار الثيران في كل مدى، فعندما تجولت لم أرَ إنساناً ولم أرَ حركة، تسللت من بعيد حتى وجدت قوماً يسجدون ويتضرعون إلى شيء ربما كان عجلاً أو ما شابه، لم أميّزه، ولكن كان يضيء بريقه كالذهب في الغرابة. هل من المعقول أن السامري بعث من جديد! فتسحبت خلسة خشية أن يراني أحدهم.

للرذيلة درجات كما للفضيلة، رأيت الأرض ذات ألوان ثلاثة أسودٌ وأحمرٌ ورمادي، فهل يشرق فيها لون أخضر؟ بدأت السفينة تترنح وفجأة اظلمت السماء وعصفت الريح وصكت أذني صرخة رمتني على أرض السفينة نظرت للسماء..آه.

إنه رخ عظيم هائل يصفق بجناحيه وقد حجب نور الشمس، وهو يهبط متهاوياً كأنه سفينة فضائية ربما ظن أنه وجد فريسته فانقضّ نحونا، حتى كسرت الصواري وانقلب المركب وجاء الماء من كل جانب، اندفعت نحو الرخ هرباً من الغرق وارتقيت أصبعه بأعجوبة، وحلق عالياً حتى ارتقى فوق السحاب وكاد يلمس بجناحيه الأفق وحط على تلةٍ أكاد أعرفها في قرية نزل عليها العذاب ثم رفع، هاهي الأقدار تلعب لعبتها مرةً أخرى، فأنا في بلدي؟!

ولكن ما كان قد كان لم تعد لي أيامي الخوالي، غيّرتني الرحلة وازدادت غربتي بين أهلي ومعارفي فقلت فلترحل من جديد لترى مالم تره، فلتجرب من جديد! وحرت في أمري، فهل قضي على الإنسان ألا يستقر أو يستكين؟.

مفارقة الزمان والمكان
لؤي صادق الزبيدي (العراق)

ثمانية وعشرون عاماً مرت منذ أن فطمت من رؤية عينيها الساحرتين اللتيين طالما وقفت أمامهما حائراً كما يقف العندليب أمام وردة. تركتها وتركت معها أرض السحر والجنان التي تجري من تحتها وفوقها الأنهار وغطاءها السحب البرونزية الراحلة إلى المجهول.

غادرت الساحرة في أرض السحر ومدن الورد ومساطر القرميد الممتدة على أطراف الشوارع الذهبية والسواقي الفضية.. وكم كنت أشتاق لعينيها. ولكن أين مني الزمان الذي انفلت من قبضتي الواهنة وتسلسل إلى الماضي ولماذا تمر الأيام الحلوة مثل البرق. بحيث لا يمكن أن نمسك بها.

لم يتسن لي حتى الاتصال بها.

فحتى الهاتف في بلدي كان يمر عبر مسامع السلطان.. ومهاتفة الأجنبي قد تعني له التجسس.

حبست في قمم لم أتمكن أن أخرج منه لعقدين من الزمن. منعت فيهما من السفر. وكان السفر حلماً بعيد المنال.

استسلمت لقدر العزلة والحصار الذي نال مني ما نال وبقيت سنوات أجتر العلقم وأعتاش على مرارته، لكن وفي كل الأحوال فإن دوام الحال من المحال. فقد انهارت الجدران وانفتحت أبواب السماء والأرض مرة أخرى، وشددت رحالي وسافرت إلى البلاد التي فيها من اختطف قلبي. غير أني فقدت العنوان الذي كنت أحتفظ به لكثرة تنقلي داخل وطني، لكن الموقع بقي مدفوناً في ذاكرتي المدفونة أيضاً، ولكن في قلب من أحب!

حاولت أن أجد المكان, ولكن هيهات, فقد تبدلت كل ملامح المنطقة ولم تتبدل في ذاكرتي ملامحها القديمة. ومرت أسابيع وأنا أستقصي وأسال عن البناية التي أسكنها وكانت تسكنها. ... الى أن سقطت عيني على بناية بقيت وسط غابة من البنايات الجديدة، لقد عثرت أخيراً على هدفي، وهرعت إلى البوابة الرئيسية أستقصي وأسال، وجدت رجلين نحيفين جالسين خلف طاولة، بادراني كلاهما بالسؤال.

تفضل.

ونظرت إلى أحدهما ودقات قلبي تتظافر دون أن أسيطر على إيقاعها.

أيكون هذا الرجل الكهل هو حقاً نفسه ناظر البناية

ومازال فيها منذ ثمانية وعشرين عاماً؟.

قلت له: ألست أنت؟ انتفض من مكانه ليسألني، من أنت؟

عرّفته بنفسي ورقم الشقة التي كنت أسكن فيها.

- صرخ يا ألهي !!

احتضنني وهو مذهول، أحقاً بعد ثمانية وعشرين عاماً أراك!

وبقي زائغ العينين، ضائع النظرات.

قلت له وقد نفد صبري، أين أجدها؟

صمت هنيهة ثم قال لي:

متى أتيت إلى هنا ؟

أجبته قبل أسابيع.

إلا أنني لم أتمكن من أن أجد المكان إلا اليوم.

تكسرت نظراته وأطرق إلى الأرض وقال لي:

كانت تذكرك كثيراً، وأنا آسف!

لقد توفيت منذ أسبوع إثر نوبة قلبية!.

«وجه»
حنان بيروتي (الأردن)

أتألم، ها هو الألم الذي كدتُ أنساه يعود أشد شراسة, وصورتكِ تنبض حولي بإلحاح.

تعرفين يا أمي! لم أقدّرك حقاً إلا عندما ولدت طفلي البكر، لا أنسى صورتك, ودموعك تنسلُ بصمت وحرقة, فيما أصرخ من أوجاع لم أذقها من قبل، ومن الفزع من الآتي من هذا الوجع المتصاعد الذي هوَّلته أحاديث النساء وقصصهن بحيث ارتسم في ذهني فيلم رعب دموي!!

يمًّه!... وحدك من ينتشلني، وكفاك مبسوطتان بدعاء: يا رب تسهلها! يا آآ... رب!!. وترجين الطبيب أن يساعدني، وسط أوجاعي أحسستُ بك تتمزقين معي، لا أنسى لحظة أعلن الطبيب بأنّه سيضطر لإجراء عملية إذا لم يطرأ تطور, رأيتك وقد افترشت البلاط في الزاوية وأخذتِ تبكين، شهقاتك تنسل على قلبي بلسماً، وحدك من يتألم لأجلي بصدق!

عند تحقق ما أعتبره معجزة، نظرت لجسد طفلي وأنا معلّقة بين الغيبوبة والصحوة,وكنت تقفين غير بعيد, حيث سُمح لك كونك ممرضة متقاعدة بدخول غرفة الولادة، أخذتُ أحملق فيكِ كأني أراكِ للمرة الأولى! وبدأت معرفتي بك تتعمّق بازدياد مسئولياتي تجاه طفلي, قطعة لحم تنبض وتزعق معتمدة عليّ كلياً, وأنا أنوء تحت حمل الأمومة مستشعرة خوفاً ما، أقرِّب وجهي حتى يكاد يلتصق بوجهه, وهو نائم لأتأكد من أنه يتنفس! كثيرة هي أحلامي الغامضة القلقة أشبه بكوابيس تحط عليّ في نومي المنغّص المتقطع ووجهك يطوف حولي، أتذكر النسوة وهن يفزعنني بصيغة تعليمية مرعبة: دشّية!. نيميه على جنبه!. لا ينخنق! لا ينملع!

لا تقلبي عليه.... لا....

استحضر في الليل ملامحهن المتجهّمة بأمومة غابرة لا أعرف كيف قضينها, وصوت البكاء يعلو دوائر. «لماذا تبكي؟!» أكرر بآلية فيما أتثاءب: جوع... أو مغص أو بلل؟!! تدور في ذهني المتعب أسباب البكاء المفترضة وأفشل أن أحدد أحدها!

لم أعرف الطمأنينة وقتها إلا بحضورك، حتى طفلي بات ينام نوماً متواصلاً وأنتِ تهمسين ووجهك يغمرني بدفء: «نامي عنومته... ارتاحي!» تتبعثر ملامح وجهك, موجة طلق جديدة تجتاحني ,أحسها أحمى، أمسك بالخليوي, أبحث عن اسم صديقتي, أتوقف للحظات لأمتص موجة أشد ضراوة تبدأ أشبه بنقطة متوهجة أسفل البطن لتتسع دوائر من نار, تندس بين العظم مسامير وهج... ينبثق صوت صديقتي من الخليوي, أرجوها أن ترافقني للمستشفى أحسني سألد الآن!

«أتذكر ولادتي الثانية لطفلتي، كنت أصرخ من ألمين اختلطا معاً، ألم الولادة وألم الغياب... غيابك أمي!!, لم تتمكّني من مرافقتي إلى المستشفى, أعرف أنّك تمنيتِ أن تكوني معي لكنك كنت تصارعين آلام السرطان الذي لا يعرف الرحمة أو الهدنة، كيف أنسى جسدك المنتفخ والكيماوي والمسكّنات والباروكة التي ثبتّها على رأسك على استحياء... وأنت تسأليني بوجه شاحب وقلق لا أعرف كيف استطعتِ إتقانه هكذا: أيمتى موعدك يمّه؟!

فأعطيك موعداً مغلوطاً متأخراً بأسبوعين عن الموعد الحقيقي,وأشعر بفرح ما لخدعتي الصغيرة. لم أشأ أن أزيد أوجاعك لكني افتقدتك كثيراً صدقيني، بحثت في يد الطبيب ووجوه الممرضات عن قطرة حنان صافية, فلم أجد, لا شيء غير الواجب والروتين والرغبة في الانتهاء بأسرع وقت. وفي أوجاعي في المرحلة الأخيرة لا أنسى صوت الممرضة وهي تزعق بعصبية: بدك أمك؟! أناديلك إياها ها؟! ما تيجي وتخلّصنا!!

ولم أكن أعي لحظتها أني أناديكِ وأطلبكِ, وانهمرتُ في دمعة كبيرة, وقد تدفقت صورتك دفعة واحدة، بأوجاعك ومرضك...آآه، لا أنسى فترة معاناتك الأخيرة وأنا أحمل طفليّ وآتيك، يا لها من أيام قاتمة! ما أصعب مواكبة الاحتضار لمن نحب! أجلس قربك, أتحسس انتفاخة قدميك وبطنك,أمازحك: بطنك زي الحامل بشهرها!! وأسكت وأنا أعي أنَّ مخاضك هذه المرة لموت لا لحياة!!

وأنتِ تشكين أوجاعك وتقولين إنه يصعب تصورها أو وصفها وأنها فوق احتمال البشر متمنية الخلاص: «شو بدي بالعيشة مع هالوجع؟!» لا أنسى اللحظة التي ومضت فيها في قلبي أمنية صغيرة: « أن يريحك الرب ولتهجعي بسلام»!

ماذا؟! هل بتّ أهذي مثل الأطباء وهم يصرون بحياد مهني بارد على تذكيرنا أنا وأخوتي بأنّك تحتضرين وأن لا فائدة إلا بمعجزة؟! وهذا ليس زمن المعجزات! هل بتُّ أقترف هذا الهذيان: رحيل أمي... هكذا مبكراً... أهناك دنيا دون أم؟!

صوت صديقتي وهي تقف قرب الباب: «يللا... أبو فادي ينتظر!» أقول لها بامتنان حقيقي فيما أخطو بتثاقل «الله يسعدك! الله يخليك!!»

أسمع صوتي يتناثر موجعاً، آلامي هذه المرة لا تحتمل، يقال إنَّ الولادة أسهل في البطن الثالث! أغبياء من يطلقون مثل هذه الأحكام! فليحسوا ما أعانيه الآن... آخ!... يتحدى وجعي إبرة البتادين، التي أفرغت الممرضة نصفها الأول في عروقي للتو، أعض شفتي السفلى، «يا رب! متى الخلاص؟! يمّه! يم... م... ه!!».

لا أحد ينظر إليّ باستغراب! معذورة! ثم من يعرف أنّها رحلت غيرها صديقتي التي بدأت تبكي معي، اللعنة على المرض والموت... ياه... كيف تُخلق حياة جديدة مع ذكر نقيضها الموت؟! يبدو أنَّ السر دائماً تلازم الحياة ونقيضها... آآه... ماذا أفعل بأوجاعي، دموعي تغرق وجهي وتختلط بالعرق، تمسح صديقتي وجهي بمنشفة وهي تهمس بتأثر: «ساعديهم!... ساعدي حالك!!!»

أتعلّق بيدها, أرجوها أن تبقى قربي، لا أعرف كيف يبدو صوتها شبيها بصوت أمي؟! أنظر إليها, وأنفّذ ما يطلبه الطبيب, اسمعه يشجعني، في خضم أوجاعي أتشبّث بوجه صديقتي بعطش! هي لا تعرف أني لم أكن أرى ملامحها تلك اللحظة... لم أكن أرى غير وجه أمي!!.

 

شيرين أبو النجا