الطاقة أداة تشكيل المستقبل.. د. أحمد أبوزيد

الطاقة أداة تشكيل المستقبل.. د. أحمد أبوزيد

التفكير والتأمل حول المستقبل يبدآن إلى حد كبير من خلال إعادة النظر في الماضي، أي ماضي المجتمع والثقافة، لتعرف القوى والعوامل التي تساعد على استمرار وجود ذلك المجتمع وتلك الثقافة، والتي تلعب دوراً أساسياً في نموهما وتطورهما، وتهيئ الأرضية التي ترتكز عليها الأوضاع الجديدة الناجمة عن تلك التطورات.

كانت الطاقة دائماً إحدى هذه القوى والعناصر التي انتبه إليها كثير من المفكرين والعلماء فرصدوا أشكال الطاقة المتغيرة على مر العصور وعلاقتها بدرجة التقدم أو التخلف وأسلوب الحياة المرتبط بتلك الأشكال، وذلك على اعتبار أن موضوع الطاقة هو في آخر الأمر موضوع اجتماعي وثقافي لارتباطه بحياة الفرد والمجتمع.

ولقد انتبه علماء الأنثروبولوجيا في أواخر القرن التاسع عشر إلى هذه الحقيقة، وأدركوا عمق العلاقة بين توفير الطاقة واستهلاكها من ناحية، والمستوى التكنولوجي من ناحية ثانية ودرجة التقدم الحضارى من الناحية الثالثة. فالطاقة والتكنولوجيا تتداخلان معاً في علاقة ترابط وتفاعل قوية على اعتبار أن التكنولوجيا تعتمد كلية على الطاقة، وأن عدم السيطرة على الطاقة وتوجيهها لمصلحة المجتمع قد تكون لها آثار سيئة، ويكفي أن نتذكر كيف أن ارتفاع درجة الحرارة في الموجة التي اجتاحت أوربا عام 2003 أدت إلى وفاة حوالي 52000 نسمة نتيجة الإخفاق في التحكم في الطاقة بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب.

ولقد كان عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي الكبير ليزلي وايت Leslie White من أوائل العلماء الذين كتبوا في الموضوع مميزاً بين مراحل التطور البشري عبر التاريخ على أساس نوع الطاقة المبذولة وبالتالي تبيين العلاقة بين درجة التقدم ونوع الطاقة وطبيعة التكنولوجيا الناجمة عن تلك الطاقة. وليس من شك في أن ليزلي وايت كان متأثراً في ذلك بالمفكر الأمريكي لويس هنري مورجان، وكتابه الذي أحدث ضجة هائلة وقت صدوره وهو كتاب المجتمع القديم Ancient Society الذي اعتبره الكثيرون بأنه المسئول عن توجه كارل ماركس الأيديولوجي، وكان ذلك سبباً في وضع القيود على تدريس الكتاب في الجامعات الأمريكية لعقود طويلة، وقد انعكس ذلك على حياة ليزلي وايت لبعض الوقت على اعتبار أنه من أشد أنصار التطورية الجديدة.

ولقد ميز ليزلي وايت في هذا الصدد بين خمس مراحل على أساس التفاوت في استخدام الطاقة أو على الأصح الاختلاف في نوع الطاقة المبذولة والمصادر التي تستمد منها تلك الطاقة ومدى فاعليتها في إشباع احتياجات المجتمع. ففي البداية كان الإنسان يستخدم قواه الفيزيقية والعضلية في العمل، ثم أعقب ذلك مرحلة كان يستعين فيها بطاقة الحيوانات المستأنسة قبل أن يعرف في المرحلة الثالثة طاقة النبات المرتبطة بظهور الثورة الزراعية الأولى، التي انتقل منها إلى الاستعانة بالطاقة المتولدة من بعض المصادر الطبيعية التي تحتاج منه إلى بذل كثير من الجهود لاستخراجها من باطن الأرض، والمتمثلة في الفحم وقيام الثورة الصناعية ثم العثور على البترول، وذلك قبل أن تجيء المرحلة الخامسة والأخيرة، والتي يعيش فيها الإنسان المعاصر، وهي مرحلة الطاقة النووية، التي لم تستخدم حتى الآن على الوجه الأمثل، والتي يبدو أنها تهيئ الطريق لظهور مرحلة جديدة لم يتكلم عنها كثيراً، ولكنها تثير خواطر المفكرين الآن، لأنها هي التي سوف تحدد صورة مجتمع وثقافة وإنسان الغد.

قياس التطور الثقافي

وقد أفلح ليزلي وايت في دفع نظرية التطور الثقافي خطوات إلى الأمام، على الرغم من ميل معظم أنثروبولوجي القرن العشرين إغفالها أو حتى التنكر لها بعد ظهور النزعة الوظيفية في كتاباتهم وانتهاء النزعة التطورية، التي سيطرت على فكر القرن التاسع عشر. وأفلح وايت في ترجمة نظريته إلى معادلة يقيس بها درجة التطور الثقافي والاجتماعي، حسب نوع وكمية الطاقة المستخدمة، وبالتالي نوع التكنولوجيا المرتبطة بذلك. وتظـهر هذه المعـادلة عـلى النحـو التـالي:

E X T = C على اعتبار أن (energy (E- الطاقة - أو مقدار الطاقة التي ينتجها الفرد ويتحكم فيها ويستنفدها خلال العام أو على مدار السنة الواحدة - مضروبة في (technology (T التكنولوجيا أي مدى كفاءة الآلات المستخدمة في تسخير تلك الطاقة والتحكم فيها واستغلالها في سد احتياجات المجتمع، بينما ترمز (culture (C إلى الثقافة، وبالتالي إلى درجة تقدم المجتمع وأسلوب الحياة ونوع الأنشطة السائدة فيه والتى تعبر عن ذلك التقدم. والنتيجة التي يخلص إليها ليزلي وايت هي أن تحكم الإنسان في الطاقة هو الذي يحدد درجة تقدمه. فالتكنولوجيا إذن هي محاولة لحل مشكلات الوجود واستمرار الحياة، ومن هذه الناحية وفي حدود هذا الفهم فإن هذه المحاولة تعني في آخر الأمر ضرورة الحصول على قدر كاف من الطاقة وتسخيرها لسد احتياجات البشر، وأنه كلما ارتفع وزاد مقدار الطاقة التي يحصل عليها المجتمع مع ارتفاع مستوى كفاءة استخدامها، أفلح المجتمع في تحقيق مستوى أعلى من التقدم والتميزعلى غيره من المجتمعات، وأن هذا هو المعيار الحقيقى الذي يجب أن يقوم عليه تصنيف المجتمعات الإنسانية خلال كل مراحل التاريخ من ناحية، وتصنيف المجتمعات الحالية من الناحية الثانية. ويلخص وايت نظريته بقوله «إن القانون الأساسي للتطور الثقافي هو أن الثقافة تتطور وتتقدم تبعا لزيادة حجم الطاقة الذي يتم التحكم فيه بالنسبة للفرد في السنة، وتبعا لكفاءة الوسائل الآلية التي تؤدي إلى تفعيل تلك الطاقة»، ولذا فإن التقدم والتطور يتأثران بمستوى ونوعية وكفاءة ودقة الأساليب الآلية التي يتم عن طريقها التحكم في الطاقة وفي تفعيلها، وتبعاً لازدياد حجم الطاقة المستخدمة .. فالنظرية تعتبرالعامل التكنولوجي أهم عنصر في عملية التطور الاجتماعي المعقدة.

ماذا بعد نضوب الطاقة؟

وقد استغرق التطور البشري مئات بل آلاف القرون منذ ظهور الإنسان الأول، إلى أن وصلت الحضارة إلى ماهي عليه الآن بفضل الجهود المتواصلة التي بذل فيها البشر كثيراً من الطاقة بأشكالها المختلفة، حتى وإن لم يدركوا كنه وطبيعة تلك الطاقة. ولذا فالسؤال الذي يشغل بال الكثيرين الآن هو؛ ماذا سيحدث لهذه الحضارة، بل وللجنس البشرى بوجه عام إذا مانضبت المصادر المعروفة للطاقة ؟ وليس من شك في أن هذا الهاجس يثير القلق الآن على المستوى العالمى وإن كان بعض المفكرين يتكلمون عما يسمونه «أسطورة» نضوب مصادر الطاقة، وأن الدول الكبرى هي التي تشيع هذه الأسطورة لأسباب سياسية في المحل الأول، وأن أمريكا بالذات تقف وراء هذه الأسطورة، لأن معدل استهلاك الفرد الأمريكي من الطاقة على مدار السنة يفوق معدل الاستهلاك العالمي بخمس مرات ونصف المرة. بل إن هناك مَن يتساءل وهو تساؤل مشروع عما سيكون عليه الوضع بعد عقود قليلة إزاء التزايد السكانى الرهيب، وبخاصة إذا ما ارتفعت معدلات استهلاك الطاقة على المستوى العالمى بحيث تقترب من المعدل في أمريكا.

بيد أن هذه النظرة (المتشائمة) التي تسيطر على تفكير الكثيرين من علماء الفيزياء والبيولوجيا، بل والمهندسين تجد في مقابلها من يبشر بأن عالماً جديداً تماماً وبديلاً إلى حد كبير عن عالمنا الراهن آخذ الآن في التشكّل، وأن ثمة خططاً كثيرة مدروسة دراسة وافية، ترتكز إلى أفكار ورؤى عميقة حول إمكان التوصل إلى مصادر لأنواع عدة من الطاقة البديلة، بحيث يمكن الاستغناء عن الاقتصاد القائم على مصادر الطاقة التقليدية كالفحم والبترول، وأن ذلك سوف يتحقق خلال العقود القليلة المقبلة، كما أن أساطين تكنولوجيا الطاقة يشعرون بالتفاؤل حول المستقبل ويرون أن التغيرات -التي يصعب تصوّر مداها الآن - سوف تؤدي إلى قيام ذلك العالم الجديد والفريد، نتيجة التوصل إلى مصادر للطاقة المتجددة أو المستدامة التي سوف تحل محل المصادر التقليدية الحالية المهددة بالنضوب والاستنزاف، وإن كان الواقع العياني يقول إنه لايوجد حتى الآن بديل حقيقى يمكن الاعتماد عليه في تحقيق استمرار الحياة بالمستويات والمعايير الحالية، وأن مقولة احتمال اختفاء الحضارة الحالية باختفاء مصادر الطاقة التقليدية التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي الآن مقولة فيها قدر كبير من الصدق والواقعية وأن قانون وايت يجب أن يؤخذ بالجدية الكافية بالرغم من صدوره من عالم أنثروبولوجي مفروض فيه أنه بعيد بحكم تخصصه عن الحديث في المجالات العلمية الدقيقة، وهم في ذلك ينسون نقطة الانطلاق في تفكير وايت وأمثاله من الأنثروبولوجيين، الذين يعتبرون مشكلة الطاقة مشكلة اجتماعية وثقافية في المحل الأول. وليس من شك في أن وايت هو أول عالم أنثروبولوجي تكلم بوضوح وثقة عن قوانين «الديناميكا الحرارية» Thermodynamics في الدراسات الأنثروبولوجية لدرجة أن هناك من يصفه بأنه «رسول القانون الثاني إلى الأنثروبولوجيا». وكتابه المهم الذي يعتبر من كلاسيكيات النظرية الأنثروبولوجية في التطورية الجديدة، وهو كتاب علم الثقافة The Science of Culture، يستدل من عنوانه على اتجاهه في دراسة الثقافة والمجتمع، حيث يصف الثقافة صراحة بأنها علم، وأنها يجب أن تدرس على أساس قياس استهلاك الطاقة الذي يشير إلى درجة التقدم. وهذا هو أساس ماأصبح معروفا في الأوساط الأنثروبولوجية باسم «قانون وايتWhite s Law ». وإن كان تجاوز حد معين من ذلك التقدم التكنولوجي قد تكون له نتائج عكسية على نمط الحياة والعلاقات بين البشر وأنماط القيم المتوارثة.

تحديات البيئة والمناخ

والسؤال الذي يلح على أذهان الكثيرين من العلماء والمفكرين ورجال السياسة بوجه عام هو كيف يمكن توفيرالطاقة اللازمة لجميع سكان كوكب الأرض الآن وفى المستقبل بحيث تغطي كل احتياجاتهم المتزايدة، مع عدم إلحاق الأذى والدمار بالبيئة، وبخاصة في الوقت الذي يواجه فيه العالم كثيراً من التحديات الناجمة عن التغيرات المناخية والمخاوف من تلوث البيئة. وليس من شك في أن العجز عن التغلب على هذه الأوضاع الصعبة والتوصل إلى مصادر جديدة للطاقة النظيفة أيا مايكون معنى هذه الكلمة سوف تنجم عنه آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية خطيرة على المستوى الدولي وقيام اضطرابات وقلاقل داخلية في كثير من مناطق العالم وتغيرات في أساليب الحياة قد تؤدي في آخر الأمر إلى الصراع المسلح والحروب على مصادر الطاقة المتناقصة.

وعلى أي حال فالظاهر أنه ليس ثمة مفر أمام المجتمع الإنساني من أن يتحول إلى مصادر أخرى للطاقة، أو أن يعمل على تخفيض المعدلات الحالية لاستهلاك الطاقة بشكل درامي محسوس وأن يتحمل المصاعب والمتاعب التي تترتب على ذلك، أو أن يفلح في العثور على مصادر جديدة لاتنضب بمرور الزمن، ويمكن ضمان الاعتماد عليها حتى في المستقبل غير المنظور كما هو الحال بالنسبة لاستخدام الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح أو طاقة أمواج البحار والمحيطات، وكلها احتمالات تراود الخيال البشري الإبداعي في محاولاته المستميتة للخروج من الخطر الذي يحيط بالحضارة الإنسانية إذا نضبت مصادر الطاقة الحالية قبل الحصول على البديل الأكثر كفاءة ونظافة والأقل تكلفة، خاصة بعد التردد في الاعتماد على الطاقة النووية في كثير من الأوساط لارتفاع تكليفها وعدم الوثوق تماما من درجة الأمان الذي يتحقق مع استخدامها.

مزارع الرياح

وقد تكون هناك بدائل جاهزة أو يمكن بقليل من الجهد تذليلها واستخدامها بفاعلية وأمان، ولكن تقف دون ذاك اعتبارات أخلاقية وإنسانية كما هو الوضع بالنسبة للتحول إلى الوقود الحيوي Biofuel الذي قد يؤدي إلى حدوث اضطرابات في موارد الغذاء العالمي، أو كما هو الشأن بالنسبة لاستغلال طاقة الرياح عن طريق إنشاء مايعرف باسم «مزارع الرياح Wind Farms» وبخاصة بالقرب من شواطئ البحار الواسعة المفتوحة والمحيطات، ولكن حتى هذه الوسيلة بالرغم من قلة تكاليفها ليست مضمونة كل الأوقات إذ من الصعب التحكم في هبوب الرياح بالقوة الكافية طيلة الوقت، أو كما هو الحال بالنسبة لإمكان توليد الطاقة من أمواج البحار والمحيطات، فبالرغم من وجاهة الفكرة من الناحية النظرية فإن هناك من يصفها بأنها مجرد أسطورة خيالية. ولم يبق بعد ذلك غير الاعتماد على الشمس كمصدر مأمون ودائم وفعال لتوفير الطاقة اللازمة لآلاف القرون، وإن كانت المسألة لاتزال في حاجة إلى كثير من البحوث.

بل إن هناك من يتساءل حول إذا ماكانت كل تلك المصادر البديلة تستطيع أن توفر من الطاقة مايعوض معدلات الاستهلاك المتزايدة نتيجة للتقدم التكنولوجي وازدياد احتياجات البشر في المستقبل. فالمشاهد الآن وفي ضوء التجربة الحالية أن الصناعة مثلا تستهلك من الطاقة والبترول أكثر مما يتم كشفه وضخه، بحيث قد يأتي اليوم الذي لا تكفي فيه كل الطاقة المتولدة من المصادر التقليدية والحديثة المألوفة مواجهة تلك الاحتياجات. والأمر لايخلو في النهاية من بعض المفارقات التي تثير الأسى وتحتاج إلى كثير من التفكير والتأمل حول مستقبل الحضارة الإنسانية إن استمر الوضع على ماهو عليه. ومبعث المفارقة هو أنه في الوقت الذي يعتبر فيه تناقص إمدادات مصادر الطاقة في الدول المتقدمة تهديداً لوجود الحضارة والمحافظة على أساليب الحياة المتقدمة في تلك الشعوب يوجد حوالي بليوني نسمة، محرومين تماماً من كل أشكال الطاقة الحديثة، ويعتمدون على الطاقة العضلية والحيوانية، التي سادت في عصور ماقبل التاريح وفى الحقبة الأولى المبكرة من المراحل الخمس التي تكلم عنها ليزلي وايت. وهذه مشكلة أخلاقية في المحل الأول. ولكن بالرغم من كل هذه الصعوبات وفي وسط هذه المخاوف تبزغ نظرة متفائلة ترى أن اكتشاف واستخدام أنواع الطاقة البديلة أيا ما يكون مصدرها- سوف يحقق للإنسانية من الرخاء والرواج والازدهار أكثر مما تحققه الآن تكنولوجيا المعلومات. ولكن مجلة الإيكونوميست The Economist البريطانية تتساءل في عددها الصادر بتاريخ 19 يونيو 2008 في مقال بعنوانThe Future of Energyعن متى يتحقق ذلك؟ وبالرغم من نبرة الشك التي يحملها هذا التساؤل فإنها تنهي المقال بقولها : «دعونا نأمل خيرا بالنسبة للطاقة وبالنسبة لكوكب الأرض».

 

أحمد أبوزيد