الاحترار الكوني.. هل يدمر القطب الجنوبي؟

الاحترار الكوني.. هل يدمر القطب الجنوبي؟

في أحدث مؤشر على حجم العواقب الخطيرة لتغير المناخ والاحترار الكوني، كشفت صور التقطها قمر اصطناعي تابع لوكالة الفضاء الأوربية (إسا) أن جسرا جليديا يربط جرفا جليديا بحجم جزيرة جامايكا بالقارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) بات على وشك الانهيار، الأمر الذي سيؤدي إلى انفصال الجرف الجليدي عن القارة الأم.

وقال العلماء إن جرف ويلكنز الجليدي أصبح قاب قوسين أو أدنى من الانفصال عن شبه جزيرة أنتاركتيكا مع انهيار الجسر الجليدي الذي يربطه بجزيرتي «شاركوت» و«لاتادي». وكانت بداية ما يعتقد أنه نهاية الجرف الجليدي قد حدثت في الثاني من أبريل الماضي عندما أدت التصدعات التي ظهرت حديثا على طول المحور المركزي للجسر إلى انهيار كتلة جليدية كبيرة من جسد الجسر.

وأكدت الصور التي التقطها رادار القمر الاصطناعي إنفيسات التابع لإسا في 2 أبريل الماضي أن التصدعات آخذة في الاتساع على طول الجسر.

وكان د. أنجيليكا همبرت، أستاذ الفيزياء الجيولوجية في جامعة مونستر، ود. ماثياس براون، من مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بون، هما أول من اكتشف التطور الأخير أثناء متابعتهما اليومية للصفيحة الجليدية في أنتاركتيكا باستخدام البيانات المستمدة من القمر الاصطناعي إنفيسات والقمر الاصطناعي الألماني تيراسار إكس.

ويراقب العلماء بعيون قلقة منذ سنوات هذا الجرف الجليدي. وكثير منهم يعتقد أنه بارومتر لقياس الاحترار الكوني، الذي كانت تأثيراته على شبه جزيرة أنتاركتيكا أثقل وطأة من كل مناطق كوكبنا.

ومن خلال متتالية زمنية لصور الأقمار الاصطناعية التي سجلت هذا الحدث، تمكن العالمان من تحديد كيف تكونت وتطورت الصدوع وكيف استجاب الجزء الأضيق من الجسر لهذه التغيرات. وسمحت هذه التفاصيل لهما بالتعرف بشكل أفضل على سلوك الجليد تحت الإجهاد.

وكان جرف ويلكنز، الذي يقع في الجانب الغربي من أنتاركتيكا، مستقرا في معظم سنوات القرن المنصرم، حيث كان يغطي مساحة تبلغ نحو 16 ألف كيلومتر مربع، قبل أن يبدأ في التراجع في تسعينيات القرن الماضي.

ويقول العلماء إن الجسر حاجز مهم لبقاء الجرف الجليدي بين الجزيرتين مستقرا في مكانه. وسيؤدي انهياره الكامل إلى تحرك الجليد (المحصور بين جزيرتي شاركوت ولاتادي) بحرية إلى المحيط المفتوح.

وكانت الصور التي وزعتها وكالة الفضاء الأوربية قد أوضحت أن التشققات بدأت تظهر في جسد الجسر. وشوهدت جبال جليدية حديثة التكون تطفو في المحيط في الجزء الغربي من شبه الجزيرة، الذي يمتد حتى تخوم الطرف الجنوبي لقارة أمريكا الجنوبية.

وكان البروفيسور ديفيد فوجان، الباحث المتخصص في الأنهار الجليدية في هيئة مسح أنتاركتيكا البريطانية، قد قام بتركيب جهاز لتتبع الحركة بالأقمار الاصطناعية (GPS) على الجسر الجليدي في يناير الماضي لمراقبة حركته.

ويقول فوجان إن تحطم الجسر كان متوقعا منذ عدة أسابيع، وعلى الأرجح سيتدفق معظم الجليد من خلفه إلى المياه المفتوحة.

ويضيف: «إننا نعرف أن جرف ويلكنز الجليدي كان مستقرا جدا، أو تماما، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حتى بدأ في التراجع في تسعينياته. لكننا نعتقد أنه ظل مستقرا لفترة أطول من ذلك بكثير. أما حقيقة تراجعه، والآن فقدانه لاتصاله بإحدى جزيرتيه، فهي مؤشر شديد القوة على أن الاحترار في القارة القطبية الجنوبية يترك آثاره مجددا على جرف جليدي آخر.

وبينما لن يؤدي تهاوي الجرف إلى تأثير مباشر يذكر على منسوب مياه المحيطات والبحار لأن ما سيخلفه من جليد سوف يطفو فوق سطح الماء،إلا أنه سيعزز القلق من تأثير تغير المناخ على هذا الجزء من أنتاركتيكا».

فخلال الخمسين عاما الماضية، كانت القارة القطبية الجنوبية أكثر مناطق الأرض صعودا في درجة حرارتها. وتراجع العديد من جروفها الجليدية في تلك الفترة، وانهارت سبعة منها تماما (قناة برينس جوستاف، وجروف جون لارسن، ولارسن إيه، ولارسن بي، ووردي، ومولر وجونز).

وقد أظهرت دراسات سابقة أنه فور انهيار الجروف الجليدية، تبدأ الأنهار الجليدية والجليد الأرضي خلفها بالتحرك نحو المحيط بسرعة أكبر. وهذا النوع من الجليد هو الذي يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع منسوب مياه المحيطات والبحار، لكن مستوى هذا الارتفاع يبقى موضوعا خاضعا للتقديرات العلمية المتباينة.

ولم تدرج هذه التأثيرات التعجيلية في تقديرات الهيئة البينحكومية حول تغير المناخ عندما أصدرت آخر توقعاتها حول الارتفاع المرجح لمنسوب مياه البحار والمحيطات. وكانت الهيئة قد ذكرت في تقييمها العام 2007 أن الفهم العلمي لديناميكيات الثلوج يبقى محدودا.

وقد حدثت تطورات كثيرة للجرف الجليدي في العام الماضي، سجلها القمر الاصطناعي إنفيسات. ففي مطلع فبراير، تهاوت كتلة جليدية مساحتها نحو 425 كيلومترا مربعا من الجسر، الذي يربط بين جزيرتي شاركوت ولاتادي ويحجز الجرف خلفه، الأمر الذي أدى إلى تقلص الجسر إلى شريط عرضه 6 كيلومترات فقط.

وفي نهاية مايو الماضي، انهارت كتلة أخرى مساحتها 160 كيلومترا مربعا، ليتقلص متوسط عرض الجسر إلى 7ر2 كيلومتر فقط، وبلغ عرضه عند أضيق نقطة 900 متر فقط.

وتقول همبرت: «في الشهور القليلة الماضية، لاحظنا تفكك وتداعي الجسر الجليدي، وكان الجزء الباقي منه أشبه بمفصلة».

وتشرح ذلك قائلة: «فقد الجرف الجليدي خلال العام الماضي نحو 1800 كيلومتر مربع من الجليد، أي نحو 14 في المائة من مساحته. وقد حدثت انهيارات خلال شهري فبراير ومايو 2008 خلال ساعات فقط، وتركت الجسر الجليدي في حالة شديدة الهشاشة. ونعتقد أن ظهور التصدعات في أكتوبر ونوفمبر الماضيين ناجم عن فقدان نحو 1220 كيلومترا مربعا على طول الجبهة الجليدية الشمالية خلال شهري يونيو ويوليو 2008».

ويذكر أن الصفيحة الجليدية للقارة القطبية الجنوبية تكونت خلال آلاف السنين من تراكم وانضغاط الثلوج. وعلى طول الساحل، يطفو الجليد تدريجيا، ليشكل كتلا هائلة الحجم من الجليد تعرف باسم «الجروف الجليدية». وقد تراجع الكثير من هذه الجروف، بما في ذلك سبعة في السنوات العشرين الماضية، وانطلقت إلى المحيط.

ويدرس العلماء الآن أسباب وآليات الانهيارات الأخيرة للجروف الجليدية، وإذا ما كان الانهيار الجديد مرتبطا بالاحترار غير المسبوق في السنوات الخمسين الأخيرة، والذي ارتفعت درجة حرارة شبه جزيرة أنتاركتيكا في ظله 5ر2 درجة مئوية، وهي أعلى بكثير من المتوسط العالمي لارتفاع درجة حرارة كوكبنا.

لكن فوجان يقول: «إن الكيفية التي انفصل بها الجسر مذهلة. فقبل يومين فقط، كان كل شيء في مكانه... انتظرنا زمنا لنرى هذا المشهد».

وقد وقع الانفصال عند أضعف نقطة في الجسر الجليدي الذي يبلغ طوله 40 كيلومترا ويسند جرف ولكنز في مكانه، عند أضيق نقطة (تبلغ خمسمائة متر). وأظهرت صور الأقمار الاصطناعية جبالا جليدية تشكلت حديثا تطوف بالبحر عند الضفة الغربية للقطاع الناتئ عن القارة القطبية الجنوبية باتجاه الطرف المستدق لقارة أمريكا الجنوبية.

وتتصاعد التنبيهات في العالم إلى تأثير ذوبان الجليد في القطبين الجنوبي والشمالي في حرارة الأرض وحياة البشر، ويلقي العلماء بالمسئولية في ذلك على ظاهرة الاحتباس الحراري.

وكان باحثون أمريكيون وبريطانيون قد كشفوا في السنوات الأخيرة أن جروفا جليدية في القارة القطبية المتجمدة اختفت سريعا وأن أخرى بصدد الاختفاء، مؤكدين أن الأنهار الجليدية أيضا تذوب في القطب المتجمد بشكل أسرع مما يُعتقد بسبب التغيرات المناخية.

وأوضح الباحثون أن جرف ووردي الجليدي، الذي بدأ يذوب منذ ستينيات القرن العشرين اختفى، وأن الجزء الشمالي من الطبقة المعروفة باسم لارسن آيس لم يعد موجودا، وأشاروا إلى أن أكثر من 8300 كيلومتر مربع من مساحة طبقة لارسن قد انهارت منذ 1981.

وقال تقرير من مركز الدراسات الجيولوجية الأمريكية والمركز البريطاني لدراسات القطب الجنوبي إن المسئول عن هذه الانهيارات والذوبان في الطبقات الجليدية بالقطب المتجمد الجنوبي هو التغير في المناخ.

والواقع أن المناطق القطبية شديدة البعد والظروف السائدة فيها، مثل غطاء السحب الكثيفة وخفوت ضوء النهار، تجعل من الصعب جدا إجراء بحوث ميدانية عليها. وقد وفرت الأقمار الاصطناعية للعلماء فرصة المراقبة المستمرة لهذه المناطق.

وقد صمم رادار القمر الاصطناعي إنفيسات لينطوي على أهمية خاصة في دراسة المنطقة؛ لأنه يمكنه العمل ليلا ويقدر على اختراق السحب. ويقول علماء «إسا» إن المراقبة الطويلة الأمد فوق أنتاركتيكا شديدة الأهمية؛ لأنها تقدم أدلة دامغة على آثار تغير المناخ وتسمح للعلماء بتوقع التطورات المقبلة.

وكانت وكالة الفضاء الأوربية قد قامت في أعقاب انتهاء السنة الدولية للمناطق القطبية في مارس الماضي، بتوفير قاعدة بيانات ضخمة، وفتحتها مجانا لعلماء المناطق القطبية لإجراء المزيد من الدراسات.

 

أحمد الشربيني 




إنفيسات ينطوي على أهمية خاصة في دراسة أنتاركتيكا لأنه يمكنه العمل ليلا ويقدر على اختراق السحب





فور انهيار الجروف الجليدية، تبدأ الأنهار الجليدية والجليد الأرضي من خلفها بالتحرك نحو المحيط بسرعة أكبر





ظهور التصدعات في أكتوبر ونوفمبر الماضيين نجم عن فقدان نحو 1220 كيلومترا مربعا على طول الجبهة الجليدية الشمالية