شرخ في جدار السينما المصرية

شرخ في جدار السينما المصرية

كانت السنوات العشر الأخيرة من القرن الماضي سنوات حاسمة، لأنها كانت تمثل مرحلة فاصلة في خارطة السينما المصرية. إذ تراجعت أسهم كبار المخرجين الذين أضاءوا طويلاً سماء الفن السينمائي المصري بأنوار باهرة، خصوصاً بعد رحيل مجموعة الروّاد الكبار الذين صنعوا السينما المصرية، والذين لولا وجودهم ونظرتهم السينمائية الحقة لما كانت هذه السينما، هي السينما التي أحببناها ووقفنا معها وكونت جيلنا، والجيل الذي سبقنا، وطبعت السينما العربية كلها بطابعها.

رحل حسن الإمام سيد الميلودراما والفن السينمائي الشعبي وتبعه أستاذ الواقعية صلاح أبوسيف وسيد التشويق كمال الشيخ، وأمير الافلام الرومانسية والغنائية هنري بركات، ولم يبق من هؤلاء الرواد الكبار الذين أثروا السينما المصرية بتيارات شتى، وأساليب مختلفة، واتفقوا جميعاً على تقديم السينما كفن حقيقي، إلى جانب وجهها التجاري الذي لا يمكن الاستغناء عنه.

ولم تقتصر خسارة السينما على فقدان هؤلاء الرواد الكبار، بل تتابعت خسائرها، عندما فقدت عناصر شابة ذات كفاءة، كانت تبني عليها الآمال الكبار كممدوح شكري، الذي استطاع أن يفتح - بقلمه المدهش « زائر الفجر» - كوة كبيرة تطل على العالم السياسي الذي كانت معالمه غائبة تماماً قبل ذلك عن الشاشة المصرية.

وعاطف الطيب، الذي استطاع من خلال سبعة أو ثمانية أفلام أن يضع نفسه على رأس قائمة المخرجين الكبار الذين تعتز بهم السينما المصرية، والذي رفع رايتها عاليا من خلال أفلام كتبت خصيصا للسينما مثل «سائق الاوتوبيس» و«البريء و«ليلة ساخنة»، أو أفلام اقتبسها عن الأدب المصري والعالمي مثل «حب فوق هضبة الهرم» و«الزمار» و«أبناء وقتلة»، ورضوان الكاشف الذي كتب لنفسه اسما براقا من خلال رؤيته الشعرية الصميمة لريف مصر، وسكانها الهامشيين في أفلام تتلألأ كالدرر مثل: «عرق البلح» و«ليه يا بنفسج»، والذي رحل عنا، قبل أن يكمل رسالة سينمائية شاهقة، كان قد نذر نفسه لها.

ومن قبل هؤلاء المخرجين الشبان الذين رحلوا وهم في عز الصبا, رحل قبلهم مخرجان كبيران، طبعا السينما المصرية بطابعهما وأسلوبهما المميز حسين كمال، «رجل المستحيل» و«البوسطجي» و«حبيبي دائما»، وعشرات الأفلام الأخرى التي يصعب أن تغادر ذاكرتنا السينمائية . وأشرف فهمي «صاحب ليل وقضبان» و«مازال التحقيق مستمرا» و«حتى آخر العمر»، والقائمة الحزينة تطول، وشجرة السينما المصرية تتساقط أوراقها المثمرة ورقة إثر ورقة، تاركة فراغاً، لم يستطع أن يملأه أحد.

الموجة الجديدة

ولكن لحسن حظ السينما المصرية، جاءت الموجة التي اعتدنا أن نطلق عليها اسم الموجة الجديدة للسينما المصرية والتي تمثلت في الثلاثي محمد خان وداود عبد السيد وخيري بشارة، والتي أمدت السينما المصرية بأفلام كبيرة من الصعب نسيانها.

محمد خان وحسه المدهش الذي ظهر من أول أفلامه « ضربة شمس » واستمر حتى فيلمه الأخير « شقة مصر الجديدة » مرورا بـ «مشوار عمر» و«أحلام هند وكاميليا » و«زوجة رجل مهم».

وخيري بشارة، الذي قدم لنا في فيلمه «الطوق والأسورة» ملحمة شعرية يتواصل فيها الشعر مع العمق الانساني والفلسفي والذي تابع فانتازياته السينمائية بإبداع حقيقي.

وداود عبدالسيد، الذي انطلق بآفاق السينما المصرية، الى مدى بعيد لم يصل إليه أحد غيره كما في «مخبر وحرامي» و«البحث عن سيد مرزوق» و«أرض الأحلام».

هذه الموجة الرائعة من السينمائيين والأفلام، توقفت رويداً رويداً بعد هجوم موجة أخرى، أطلقت على نفسها اسم « موجة الشباب» وهو اسم قابل جدا للنقاش، إذا افترضنا أن كلمة «شباب » تعني التمرد والجرأة واقتحام الخطوط الحمراء والتعبير عن حساسية سينمائية خاصة, عجز عن التعبير عنها من سبقهم من المخرجين.

هذه الهجمة الشبابية التي ابتدأت مع عرض فيلم «إسماعيلية رايح جاي» وقدمها لجمهور السينما الباحث عن ضحكة فارغة الممثل الكوميدي الضاحك محمد هنيدي الذي كان رأس سلسلة من الكوميديين الجدد، الذين فهموا الكوميديا على أنها مجرد « قفشات » وإيفيهات وحركات مبتذلة، والبعد عن أي عمق فكري أو أي إيحاء بمشكلة جادة يعبر عنها عن طريق الكوميديا، كما عرفنا وتعلمنا ورأينا من شوامخ الأعمال الكوميدية السينمائية المصرية. في زمن الريحاني وفؤاد المهندس وبعض أفلام عادل إمام وعبدالمنعم إبراهيم.

ولكن ضمن هذا الكم الخضم الكبير من أفلام الشباب السطحية والخالية من المعنى استطاع بعض المخرجين من الجيل السابق أن يتسللوا وأن يقدموا أفلاماً ذات قيمة فنية توضع فى الحساب الإيجابي لخارطة السينما المصرية مثل:

علي بدر خان، في فيلم مأخوذ عن مسرحية شهيرة لتنسي ويليامز باسم «الرغبة» ومجدي أحمد علي بحساسيته وقوته في فيلم « يا دنيا يا غرامي » الذي يضعنا أمام نماذج نسائية مصرية حقيقية تبحث عن وجودها.

وشريف عرفة الذي تراوحت أفلامه بين التجارية والفنية وفق ميزان رشيق ولكنها تمتعت جميعا بمستوى تقني ملحوظ، وبعناية سينمائية فائقة، مما جعل آخر أفلامه «الجزيرة »يرشح لتمثيل مصر في مسابقة الأوسكار الأمريكية.وهناك يسري نصرالله التلميذ الوحيد المعترف به من تلامذة يوسف شاهين، والذي يتابع منهجه السينمائي بقوة وقدرة ملحوظتين منذ فيلمه الأول «سرقات صيفية» وحتى فيلميه الأخيرين، «باب الشمس» الذي أنتجه بأموال فرنسية و«حديقة الأسماك» الذي كان فاكهة المهرجانات العربية والأوربية الأخيرة والذي استطاع أن ينقذ اسم السينما المصرية من الغرق الأكيد.

أعمال جادة قليلة

الهجمة الضارية لأفلام الشباب قدمت لنا مثلا، في الموسم السينمائي الأخير «2008» اثني عشر مخرجا شابا لم يستطع إلا اثنان منهم فقط انقاذ أنفسهم من أمواج التفاهة والابتذال، دون أن يحققا مستوى فنيا عاليا، وهما هشام الشافعي في «احنا اتقابلنا قبل كده» وعمرو سلامة في «زي النهارده» أما بقية الأفلام العشرة، فالأفضل السكوت عنها وعن أصحابها رحمة بهم وبنا.

ولكن قبل أن نصل إلى محاولة وضع تقييم شامل لسينما الشباب في مصر التي ستحمل سمات المستقبل السينمائي لبلد كان دائما يحتل مركز الصدارة في سينما الشرق الأوسط، وقبل أن نحدد عمق الشرخ الدامي الذي أصاب الجسد السينمائي المصري الفارع، علينا أن نلقي نظرة تشمل بعض الأعمال الجادة التي قدمها السينمائيون الشباب في السنوات الأخيرة، والتي تركت بصمة سينمائية حقيقية وفتحت نافذة من الأمل، سدها الغبار الكثيف للأعمال التائهة التي قدمها بعض الشباب الآخر.

هناك سعد هنداوي بفيلمه «سهر الليالي» الذي رسم فيه معالم جيل تجاوز الثلاثين، ومازال يبحث عن نفسه سواء عن طريق الحب أو الزواج.

وهناك هالة خليل في فيلمها «قص ولزق» الذي قدمت فيه نموذجا غير مألوفة لشخصيات مصرية معاصرة، في أسلوب يجمع بين الواقعية والشاعرية في مزيج مدهش.

وكاملة أبو ذكري في «منتهى اللذة» التي أمسكت بطرفي الخيط بين الميلودراما الجافة، والبعد النفسي الرقيق ومحمد ياسين في «الوعد» الذي أثبت مقدرة تقنية رائعة، خصوصا في مشاهد المطاردات الخارجية التي صورها في المغرب والتي لم تكن تقل عن مثيلاتها في الأفلام الأمريكية.

وسعد هنداوي الذي حاول في «ألوان السما السابعة» أن يتطرق الى مواضيع غير مسبوقة، جعل فيها من الدين والصوفية خلفية مؤثرة، لانهيار جسدي وجنسي خفي.

وهناك سامح عبد العزيز، الذي حاول في فيلم «كباريه» أن يقدم فيلما تتقاسم بطولته مجموعة كبيرة ومختلفة من الأبطال يجمعها مكان واحد، وتختلف اتجاهاتها وطبائعها وردود أفعالها.

وهناك علي رجب الذي حاول أن يقدم صورة شخصية جدا لمدينة الإسكندرية التي عاش فيها شبابه من خلال فيلمين، اختلف عليهما النقاد، وإن كانا يمثلان نظرة غير مسبوقة للإسكندرية وهوامشها الصغيرة وسكانها المنسيين هما «صايع بحر» و «وبلطية العايمة».

ورامي إمام، الذي منحه والده الشهير فرصة كبرى لإظهار موهبته التي فشل في إبرازها في أفلامه السابقة ثم جاء فيلمه «حسن ومرقص» ليقول لنا إن في الإمكان أن نعثر في جبل الشعير على الإبره المفقودة.

ثم خالد يوسف، الذي يتابع في أفلامه الجريئة اقتحام الخطوط الحمراء، خصوصاً، الجنسية المكشوفة منها، ويحقق في سبيل ذلك نجاحاً جماهيرياً، جعله في رأس قائمة المخرجين الشبان الذين تدر أفلامهم على منتجيها أرباحاً طائلة، دون أي مبالاة، بقيمة فنية، ولكن علينا ألا ننكر أننا في أفلام خالد يوسف، نجد أنفسنا أمام تلميذ «شاطر» من تلامذة يوسف شاهين، تعلم منه كيف يقدم وكيف يواجه وكيف يختار.

أفلام مهمة وأخرى مترنحة

وهناك أيضا عادل أديب الذي منحته الشركة التي يديرها شقيقه إمكانات مادية هائلة، لم تقدمها السينما المصرية من قبل، ومع ذلك خرج فيلم «ليلة البيبي دول»مترنحاً حائراً، مفكك الأوصال، بالرغم من وجود بعض المشاهد الرائعة سينمائياً في طياته.

وعلينا ألا ننسى في هذا الخضم، الفيلم المعقول الوجيه الذي أخرجه إيهاب راضي وعالج فيه الموضوع «التابو» الذي يروي علاقة شاب مصري بفتاة إسرائيلية.

وأمير رمسيس، تلميذ المدرسة الشاهينية الموهوب. الذي سنحت له الفرصة لإخراج أربعة أفلام، وهو رقم قياسي بالنسبة لكل الشباب من جيله، لم ينجح منها - مع الأسف - أي فيلم.

هذا بالنسبة للماضي القريب، ولكن ماذا يخبئ لنا المستقبل.

وهل سيزداد شرخ السينما المصرية عمقا? أم أن المواهب القوية سيكون في إمكانها رأب الصدع، وإعادة الأمل إلى القلوب؟!

بالنسبة للكبار، أو ما اعتدنا أن نطلق عليه «الجيل المحترم» هناك هجمة قوية تتمثل في أكثر من فيلم.

داود عبد السيد يعود بعد انتظار خمس سنوات ليحقق فيلمه «رسائل من البحر» الذي اعترضته عقبات شتى. أهمها موت النجم الذي كان مقررا أن يلعب بطولته أحمد زكي، وبرود شركات الإنتاج تجاه الموضوع الذي يطرحه.

يسري نصرالله يخوض تجربة شديدة الخصوصية باقدامه على إخراج فيلم «وتحكي شهرزاد»عن سيناريو لوحيد حامد، فيلم يثير الكثير من التساؤل لأنه يجمع بين الماء والنار معاً.

وهناك مجدي أحمد علي، الذي عاودته شهوة الإخراج بعد رد الفعل الذي حققه فيلمه الأخير «خلطة فوزية» فابتدأ بإخراج فيلم مأخوذ عن قصة لإبراهيم أصلان، الذي عرفته السينما من خلال قصته الشهيرة «الكيت كات».

وها هي كاملة أبو ذكري تعود مرة أخرى لاخراج السيناريو الذي فاز بالجائزة الأولى في المسابقة التي أجراها نجيب ساويرس وهو من كتابة مريم نعوم ويحمل اسم «واحد / صفر» ويعالج أكثر من مشكلة اجتماعية تلد وتموت في الليلة، التي فاز فيها منتخب مصر القومي لكرة القدم بجائزته الدولية الكبرى.

وهناك أحمد رشوان الذي يقدم في فيلمه الأول «بصرة» وهو فيلم اشتركت سورية في إنتاجه، نماذج خاصة لشباب مصري حائر أمام مستقبله وعواطفه.

وهناك أسامة فوزي الذي يعود إلينا بعد غياب خمسة أعوام منذ فيلمه الرائع الأخير «بحب السيما» ليقدم موضوعاً ذا إطار بوليسي، ولكنه يعالج مشكلة ميتافيزيقية معقدة.

وهناك محمود كامل الذي ترك فيلمه «ميكانو» انطباعاً جيداً، رشحه لإخراج فيلم آخر سيرى النور هذا الموسم، تماما كمحمد علي الذي يتنظر هو الآخر فرصته بعد النجاح النسبي الذي حققه فيلمه «ملك وكتابة» وجعله يقتحم الميدان من جديد بفيلم «أسلاك من لحم» عن قصة لإبراهيم عبد المجيد. إذن هناك في المستقبل القريب هجمة شبابية قوية، وشديدة الاختلاف تحمل طابع الجرأة والتحدي والتجديد، وتملك ما يميز سينما الشباب عادة الحساسية الخاصة، وعذرية التعبير وطزاجة النظرة.

ولكن هل ستكفي هذه الهجمة الشبابية الطافحة بالأمل للوقوف في وجه الهجوم التتري الكاسح الذي تقوده مجموعة أخرى من الشباب بقيادة منتجين جشعين لا يعرفون من السينما إلا جانبها الأصفر البراق؟.

----------------------------------

ولستُ بمهيافِ، يُعَشِّى سَوامهُ
مُجَدَعَةً سُقبانها، وهي بُهَّلُ
ولا جبأ أكهى مُرِبِّ بعرسِهِ
يُطالعها في شأنه كيف يفعلُ
ولا خَرِقٍ هَيْقٍ، كأن فُؤَادهُ
يَظَلُّ به المكَّاءُ يعلو ويَسْفُلُ،
ولا خالفِ داريَّةٍ، مُتغَزِّلٍ،
يروحُ ويغدو، داهناً، يتكحلُ

الشنفري

 

رفيق الصبان




 





عاطف الطيب المخرج الموهوب الذي رحل مبكرا عن ميعاده





يسري نصرالله مخرج مجرب وله بصمات مميزة





خيري بشارة مخرج من جيل الشباب قاموا بتجديد السينما وقدموا ملحمة شعرية





محمد خان واحد من أفضل مخرجي الموجة الجديدة في السينما العربية





 





 





 





نموذج من الأفلام السياسية التي أنتجتها السينما المصرية