أرقام

الاقتصاد.. هل هو علم كئيب؟

يقول البعض إن علم الاقتصاد هو " العلم الكئيب ".. أما سبب هذه المقولة فهو ما تنبأ به " مالتوس "
وآخرون من أن العالم مقبل على كارثة.. فالسكان يزيدون، والموارد لا تزيد بنفس النسبة.

ويبدو أن مقولة مالتوس لم يعد لها نفس المصداقية القديمة، كما يبدو أن بعض الأرقام قادرة على أن تقلب النظريات العلمية وتغير بعض المسلمات.

في آخر تقرير أعده البنك الدولي عن التنمية في العالم (1992) ما يرد على الافتراض السابق ويقول: " بل إنه مع زيادة السكان.. زادت الموارد.." والمقصود طبعا: الموارد الطبيعية غير المتجددة التي افترض العالم الاقتصادي أنها سوف تتناقص بالضرورة، حتى تنفد.. ذلك أن المخزون منها- مهما كثر- مخزون محدود.

ماذا تقول الأرقام؟

فلنتوقف أمام احتياطيات الطاقة والمعادن، فذلك مؤشر واضح لما نتحدث عنه من وفرة أو ندرة تنتظر العالم.

تقول الأرقام إنه بين عامي (1970) و (1988) زادت الاحتياطيات التجارية لموارد الطاقة: النفط والغاز. أصبح احتياطي النفط (163) في المائة.. واحتياطي الغاز (265) في المائة عام 1988 قياسا على سنة أساس هي 1970. كذلك، فقد زادت الاحتياطيات التجارية لمجموعات المعادن: البوكسيت، القصدير، النحاس..

وربما يكون السبب: اكتشاف البدائل التي تطيل عمر الاحتياطي، كما قد يكون: انخفاض الاستهلاك لسبب أو لآخر.. و.. ربما تكون العلة: زيادة الاكتشافات الجديدة. وفي الأحوال الثلاثة، فإننا أمام ظاهرة وفرة.. وليست ندرة.

أسعار قرن كامل

تلك الظاهرة، التي جاءت عكس توقعات بعض الاقتصاديين وعلماء السكان جعلت البنك الدولي يتوقف أمام تطور آخر، عله يقدم تفسيرا.

توقف البنك أمام تطور الأسعار في القرن العشرين.. وبالتحديد بين عامي (990 ا- 1991)، وجاءت الإحصاءات التي جمعها البنك عن المعادن غير الحديدية لتشير إلى أنه بينما كانت الأسعار عام (1900) أكثر من ضعف ونصف الضعف عما كانت عليه في تاريخ لاحق هو (77- 1979).. وبينما بلغت هذه الأسعار ذروتها عام 1916 فاقتربت من 250% من مستوى أسعار النصف الأخير من السبعينيات.. بينما حدث ذلك في فترات مبكرة من القرن.. انخفضت الأسعار عام 1991 لما يقرب من (60) في المائة مما كانت عليه في سنوات المقارنة.. سنوات السبعينيات.

الأسعار إذن تنحدر لتعكس أمرين:

الأول: ذلك الظلم التاريخي للبلدان النامية التي تنتج الخامات، بينما كانت أسعار السلع الصناعية تتزايد.. كانت أسعار المواد الأولية تتراجع، وهو ما يعني إعادة توزيع الدخل والثروة في العالم ليزداد الأثرياء ثراء.. والفقراء فقرا.

الأمر الثاني: أن انخفاض الأسعار يعني الوفرة ولا يعني الندرة، فعندما يقل المعروض من سلعة ما، وطبقا لقوانين العرض والطلب، فإن السعر يرتفع.. حتى ينكمش المشترون، ويتوازن المعروض والمطلوب من جديد.

ووفقا للنظريات الاقتصادية، فإن ذلك لم يحدث، وبما يشير إلى أن العالم لم يواجه بعد ندرة حقيقية.. وعلى العكس، وكما أشارت أرقام الاحتياطيات فقد كان هناك ما يزيد مخزون العالم.. كل يوم.

و.. في التفسير يقول البنك الدولي إن الفترات التي يرتفع فيها السعر بسبب الندرة تكون حافزا للمستثمرين حتى يزيدوا عمليات التنقيب والكشف عن احتياطيات تزيد من أرباحهم، وبالتالي فإن عنصر السعر كفيل بأن ينقذ العالم وأن يرد على مقولة مالتوس ورفاقه.

مستقبل البترول

هل تصلح هذه الأرقام البسيطة، التي أعلنها البنك الدولي في صفحة واحدة من تقريره للتنبؤ بمستقبل البترول محصولنا العربي الأول؟

إن السنوات التي زادت فيها احتياطيات البترول والغاز.. شهد الكثير منها بالفعل زيادات سعرية إلى حد الطفرة.. ففي عام 1974- وبعد حرب أكتوبر- تضاعفت الأسعار للبرميل ثلاثة أمثالها.. وفي نهاية السبعينيات لما يزيد على عشرة أمثالها حيث اقترب سعر البرميل إلى أربعين دولارا وحلال تلك الحقبة، انكمش الطلب على البترول مرتفع الثمن. قل الاستهلاك لإجراءات دولية متفق عليها بين المستهلكين، وزاد البحث عن بدائل، فقل معدل التزايد في استهلاك النفط من 2,7 % سنويا عام 1970، إلى 2,2% سنويا عام 1988.. و.. زادت الاحتياطيات في نفس الوقت.

روشتة البنك الدولي إذن سارية المفعول، وعنصر السعر يمكن، أن يحرك ما في باطن الأرض أو يحافظ عليه.. ولكن، وطبقا لقانون السعر أيضا فإن انخفاض الأسعار يشجع على زيادة الاستهلاك وسرعة الاستنفاد.. والسؤال: لماذا لم يحدث ذلك في مجال النفط، حيث أعقب طفرة الأسعار تراجع شديد في- الأسعار؟

والإجابة ليست صعبة، فالدول الصناعية تشتري أرخص.. لكنها تبيع بسعر أعلى.. وآخر محاولاتها لزيادة الأسعار أتت عام 1992 عبر اقتراح يقضي بفرض ضريبة كربون، أو ضريبة التلوث بسبب الطاقة. إنها وسيلة للحد من الاستهلاك عبر أداة سعرية، لكن عائد هذه الأداة لحساب المستهلكين وليس لحساب المنتجين.. أي أن البترول- وعند المستهلك- مازال مرتفع السعر.. وبالتالي يمكن أن يعيش أطول.. كذلك فإن جهاز السعر يمكن أن يقدم خلال التسعينيات حافزا للمنتجين ليتقدموا خطوة نحو المزيد من التنقيب وزيادة الاحتياطيات.. ولكن، ماذا عن المدى البعيد؟ ألن ينتهي النفط على أي حال؟.. ذلك هو السؤال.

والإجابة تجعلنا نقول: كان مالتوس على حق إذا نظرنا لكل مادة طبيعية " ناضبة " في معزل عن المواد الأخرى.. أما إذا نظرنا من خلال البدائل التي توفر احتياجات الإنسان في النهاية فإن الندرة قد لا تحدث، وعلم الاقتصاد لن يكون العلم الكئيب.. بل علم التفاؤل وصناعة المستقبل.