مقهى الزجاج

مقهى الزجاج

التقيت مع فريد عواد في مقهى في بيروت في الستينيات من القرن الماضي، وكنت أدرس في الأكاديمية اللبنانية، لكنني شعرت آنذاك أن الأكاديمية لا تكفيني فخرجت أرسم في المقاهي، وقبلها أمضيت ستة أشهر مع رسام مجري في بيروت.

ذلك اليوم، كنت في مقهى الزجاج، في ساحة البرج، التي كانت ملتقى كل أحياء المدينة، بل كل لبنان سهوله وجباله، إذ تلتقي فيه سيارات نقل الركاب الذين يأتون إلى بيروت قادمين من كل نواحي لبنان.

هذه الساحة لم تكن تعرف النوم إذ إن الحركة فيها لا تهدأ ليلاً ونهاراً فقد كانت ساحة تجمع معابد كل الأديان، كذلك دور السينما وأماكن اللهو، وفي جوانبها تنتشر الأسواق التي تتجمّع في «النّوريّة»، المسارح والمقاهي الكثيرة والنوادي من كل أنواعها.

أريد أن أقول إن «البرج» أو ساحة الشهداء كانت تمثّل كل لبنان وألوانه.

لهذا فقد كان اختياري لمقهى الزجاج ناجحاً، إذ إن مجيئي إليه كان يوميًا لمراقبة رواده على تنوعهم وتنوع مشاربهم.

بداية التعارف

ذات يوم، اقترب من طاولتي شاب سألني بلطف إذا كان بإمكانه أن ينظر إلى ما أرسمه، أجبته متردداً: إذا أردت؟ بعد لحظات أخبرني أنه رسّام أيضاً. ويرسم في هذا المقهى. منذ تلك الساعة صرنا أصدقاء، نلتقي في المقهى ونجلس على الطاولة الرخامية نفسها ونرسم، كما بدأنا نتردد على أماكن أخرى ثم إلى ضواحي بيروت أو إلى القرى القريبة من المدينة لنرسم الطبيعة. كثيراً ما كنّا نتناول الطعام في منزلي، وكانت أمي - رحمها الله - تهيئ لنا الطاولة وعليها صحون طبخها اليومي الذي أحبّه فريد كما كنت أحبّه أنا طبعاً، وكما كان يحب طبخها فنانون كثر من موسيقيين ورسامين من أصدقاء خالي خليل الموسيقي والرسام وأصدقاء توفيق شقيقي رحمه الله.

ذات مرّة دعاني فريد للغداء عند أمه، التي كانت تدير «نزل السعادة» وهو قريب من مقهى الزجاج، طبعاً وافقت على دعوته أكلنا في المطبخ صحناً من «المجدّرة» اللبنانية، وكانت حقا لقمة طيبة. أم فريد كانت صعبة معه، لكونه رساماً باعتبارها ترى ان الفنان شخص لا عمل له ولا وظيفة ولا شهرية مالية، وكان فريد عواد مشهوراً بأن لا يظهر لوحاته لأحد، ولا لي أيضاً فكنت أغتاظ منه لأنه كان يرى كل ما أرسمه وألوّنه في منزلي وفي المقهى، ولم أدر ما حصل له يوماً عندما دعاني إلى غرفته ليريني أعماله، وقفت مذهولاً إذ لم أرَ لوحة كاملة، لكن جوا خاصا فيها يختلف عن أعمال بقية الرسامين اللبنانيين. وكنا نلتقي في مقهى اسمه «لا - باليت» la Palette وهو أيضا في البرج وقريب من الأكاديمية اللبنانية. كان يطغى على هذا المقهى جو باريسي، وهو ملتقى للرسامين والشعراء والنقاد ومقتني الأعمال الفنية والصحافيين، وكانت المرأة حاضرة دائماً في هذا المقهى، كما أن اللغة الفرنسية هي السائدة فيه، كان هناك ثمة إحساس ما، يمكن أن أصفه بالغيرة لدى أكثر الفنانين، عندما لا يرون فريد عوّاد إلا بصحبة أمين الباشا ولا يروني إلاّ بصحبة فريد، إلى أن طلبوا منّا أن نؤلف مجموعة فنانين ونخرج أسبوعياً من بيروت، وكانت دعوة من ميشال بصبوص النحات للذهاب إلى الشاطئ قرب قريته، وكنا ما يقارب العشرين شخصاً، وأمضينا نهاراً سعيداً جداً، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي نخرج فيها معاً.

ذكريات باريسية

عندما سافرت إلى باريس لأول مرة، عام 1958 كان فريد عوّاد قد عاد إلى باريس، وسكنّا في الفندق نفسه، وكانت أكثر الفنادق يسكن في طوابقها العليا رسامون وشعراء، في غرف صغيرة يدعونها «غرف الخدم». وهذا لرخص السكن فيها.

في باريس، كما كنّا في بيروت، نرسم ليل نهار، كل منا في غرفته حتى السادسة بعد الظهر، بعدها نلتقي على باب الفندق ونذهب إلى مقهى لنرسم فيه، ثم نعود بعد ساعات إلى غرفتنا ويبدأ الرسم والتلوين إلى ساعة متأخرة جداً. في ذلك الوقت، كنت قد تأثرت بالحركة التجريدية وبقي فريد يؤلف لوحاته بشخصيات المقاهي والشوارع وأخيرا «مترو» باريس.

ذات يوم أعلن عن إقامة معرض استعادي لأعمال الرسام الروسي كاندنسكي، وهو ممن أوجدوا اللوحة التجريدية، طبعاً ذهبنا لزيارة المعرض، وكان فريد متأثراً جداً.

بعد مرور بعض الأيّام، أسبوع أو أكثر، أتى إليّ فريد باكراً، ليخبرني أنه هجر التشخيص لمصلحة التجريد.

وتوقّف نهائيا في ذلك الوقت عن الرسم في المقاهي.

عكسي تماماً، إذ إنني لم أترك مدرستي الأولى «المقهى» وفي أي بلد كان وأرسم وألوّن في مرسمي اللوحة التجريدية، بعد عراك طويل بيني وبين نفسي، توصّلت إلى قرار، هو أن أكون حرّا وألا أنتمي إلى أي حركة تجريدية كانت أو غيرها، مبتعداً عن كل ما يحصل من ندوات وفلسفات ونظرات في الفن، معتبراً أن الفن ينبع من داخلي وليس من الخارج.

بقي فريد ما يقارب السنة يرسم لوحات تجريدية، إلى أن وجد نفسه يوما وقد عاد إلى المقهى والشارع والمترو، بل عدنا معاً إلى المقاهي، وكأن شيئاً لم يحدث.

ثلاثة أصدقاء

في باريس، لم يكن فريد عوّاد الصديق الوحيد، بل أصبحنا ثلاثة بوجود شفيق عبود الرسام التجريدي، كان شفيق وفريد من أوائل الذين سافروا إلى باريس في أواخر الأربعينيات ومعهما الفنّان منير عيدو الساكن اليوم في كاليفورنيا.

كان شفيق عبود يأتي إلى غرفتي ليرى ما أرسمه، وأذهب أنا إليه مراراً ليريني أعماله. وكانت بين فريد وشفيق بعض الخلافات التي لم أكن أرى أنا أسبابها، فقرّرت يوماً أن أقترح أن نلتقي يوم الجمعة من كل أسبوع نتناول غداءنا معاً في مطعم متواضع قريب من مرسم شفيق ونمضي معا بعض الوقت، أذكر أن آخر لقاء لثلاثتنا كان يوم 5 يونيو 1967، يوم ابتدأت الحرب الإسرائيلية على سورية ومصر.

في ذلك الوقت، كنت أسكن في «فانسان» في أطراف باريس، وكان لي صديق إيطالي رسام، عندما أتى لزيارتي في سكني الجديد المؤلف من غرفة واحدة، أخبرني أنه يعرف بالقرب من سكني سيّدة لها قريب مقتنٍ كبير لأعمال فنية لرسامين كبار، وهي تطلب من أصدقائها الرسامين أن يقدّموا لها دراسة لتزيين المكان الذي ذهبنا إليه ليتحول إلى ناد للفنانين. مررنا عليها فطلبت مني تقديم دراسة لكني اعتذرت. قلت لها أن بإمكاني أن أرسم كل المكان شرط ألا أقدّم دراسة. فقبلت العرض، وبعد أيام باشرت العمل، بعد أن هيأت كل ما أريده من مواد. وكان شفيق عبّود يأتي يومياً ليرى ماذا أفعل، وقد أدخلت في تأليفي الزجاج الملون الذي يستعملونه في المعابد والمرايا والألوان. وكانت النتيجة جميلة، ولا أقول ناجحة، إذ إن الجمال أكثر تعبيراً من النجاح.

-----------------------------------

ولستُ بِعَلٍّ شَرُّهُ دُونَ خَيرهِ
ألفَّ، إذا ما رُعَته اهتاجَ، أعزلُ
ولستُ بمحيار الظَّلامِ، إذا انتحت
هدى الهوجلِ العسيفِ يهماءُ هوجَلُ
إذا الأمعزُ الصَّوَّان لاقى مناسمي
تطاير منه قادحٌ ومُفَلَّلُ
أُدِيمُ مِطالَ الجوعِ حتى أُمِيتهُ،
وأضربُ عنه الذِّكرَ صفحاً، فأذهَلُ
وأستفُّ تُرب الأرضِ كي لا يرى لهُ
عَليَّ، من الطَّوْلِ، امرُؤ مُتطوِّلُ

الشنفري

 

أمين الباشا