الناقد والشاعر البحريني: د. علوي الهاشمي

الناقد والشاعر البحريني: د. علوي الهاشمي

«الشاعر والناقد يولدان معا، وينموان في المهد نفسه، ويلتفان على بعضهما كطرفي ضفيرة، فلا يطغى أحدهما على الآخر»

  • الشاعر في داخلي يجعلني أؤثر في الآخر والناقد يجعلني أستمع إليه
  • الإبداع يكون أقوى عندما يرتبط بالرغبة الجامحة للحرية
  • في الخليج يوجد البحر والنخل والصحراء، هذا الثالوث البيئي هو الذي يطبع الإنسان الخليجي
  • لو عرف أهل القرار حقيقة ما بداخلي لكانوا أستفادوا مني أكثر بكثير

أستاذ جامعي مشهود له بالثقافة الوسيعة، والمهارة الأكاديمية، والجدية في المناصب التي تقلب بينها.. عميد كلية الآداب، ونائب رئيس جامعة البحرين، والأمين العام لمجلس التعليم العالي، وبجانب هذه المشاغل توفّر على مشروعه الإبداعي النقدي الذي بات أبرز علاماته.

يؤكد أن النقد والشعر أفاداه خلال مسيرته العلمية، وفي المناصب الرسمية التي تقلدها، فالأول أعانه على التحليل بموضوعية وعمق، والثاني منحه عذوبة وشفافية مع الأشخاص والمشاكل، فضمنا له أداء أفضل، وجمعا حوله القلوب.

لم يتردد يوما في تلبية نداء الواجب تجاه بلده البحرين، وبذل أقصى المستطاع، لكن الخير بداخله ظل أوفر من كل المهام، وبالرغم من تحققه فيما اضطلع به فإن ثمة مرارة عالقة في الحلق، بأن بعضها في قصيدته «حشرجة الريح»:

عشرون عاما أو تزيد
وأنت تسرق نفسك من رحيق الكلام
متخذا من وردة الريح بيتا
ومن أَسِرَّة الجليد غطاء
ومن شظف المحبة كِسرَة وُدِّ يابسة
لا تغني ولا تسمن من جوع
ومع ذلك كنت تقتات منها حليب الرضا
وتهندس فيها جنة الأمانى

الشاعر والناقد

  • متى يصادق الناقد الشاعر ومتى يتعارضان؟ ومن منهما يمكن أن يفسد عمل الآخر؟ وما مدى التضاد أو التوافق بين عفوية لحظة الإبداع والاستعانة بنظريات النقد؟

- الشاعر والناقد تجمعهما بنية عضوية واحدة، فهما موجودان معا في الشعر، ومن دون الناقد لايستطيع الشاعر أن يمارس تجربته الشعرية بصورة صحيحة وعميقة، فتحت جلد كل شاعر يكمن ناقدٌ يقوم بدوره أثناء الكتابة عبر عمليات كثيرة تدخل في آلية التعبير الشعري على محور الاختيار يقوم برصف المستلزمات اللغوية للسياق التجاوري الذي يقوم برصف تراكيبها، وهذه واحدة من آليات الكتابة الشعرية التي يقوم بها الناقد الكامن أثناء الكتابة في فضاء القول، وهناك ظروف في سياق تطور التجربة تجعل الناقد الكامن يبرز بوجهه جليا، ويحتل مكان الشاعر ومسرح الكتابة أو فضاء الورقة، أو يقوم هو بعمله المباشر لما يعرفه عن الكتابة الشعرية، وهنا يعبر الناقد عن تجربته عندما كان شاعرا أو تجربته كشاعر، وهذه مرحلة خطرة إذا لم يعها الناقد لأنها تعمم تجربته الفردية على مجمل التجارب الشعرية التي يتطرق إليها بالنقد أو يحللها، ولكن حين يعيها الناقد فهو يستطيع أن يخرج من إسارها لكى يتذوق بقية التجارب من داخلها، ويتحاور معها بلغتها ويحللها ضمن قوانينها هي، لا ضمن قوانين تجربته هو عندما كان شاعرا، وقد يبقى شاعرا يمارس كتابة النقد والشعر معا كما هو الأمر عند أدونيس أوعند شعراء كثيرين غيره في الوطن العربى وأوربا مثل ت. س.إليوت، وقد يكون طوى الشعر قليلا أو ركز كتابته على النقد، والانتقال من الشعر إلى النقد عملية دقيقة وخطرة، وعلى الناقد أن يبدأ بنفسه لكي يحدد المزالق التي دخل إليها عندما تحول من شاعر إلى ناقد، حتى لا ينزلق إلى ما ذكرته من سلبيات التعميم، ولذلك أنا والحمد لله حاولت قدر الإمكان أولا ألا أستمر في التجربة الشعرية حتى لايحسب نقدي علي وعلى شعري.

توقف التجربة الشعرية

  • توقفت التجربة الشعرية ذاتيا أم قررت أنت ألا تستمر؟

- أنا ما واصلت التجربة الشعرية ولهذا أسباب كثيرة، وبعضها غامض عندي، قد يكون من هذه الأسباب موضوعيتي مع نفسي.. قد تكون.. الأسباب نفسية واجتماعية وثقافية، لكن لا تخلو من سبب حرصي على موضوعية ما أكتب من نقد حتى لا يقال إننى «أجرُّ النار إلى قرصي» كما يقال في المثل الشعبي

  • ما معنى أجرُّ النار إلى قرصي؟

- قرصي أي رغيفي.. أي أجرُّ النار إلى رغيفي ، يعني أن أروج لشعري في نقدي.

  • في أول دواوينك «من أين يجئ الحزن» لم يكن مشروعك النقدي اكتمل بعد، وإن بدت بشائره، فكان الشاعر أكثر حرية في الكتابة، وبدا في التجارب اللاحقة أن الناقد يعترض الشاعر؟

- مثلما قلت لك, الناقد والشاعر يولدان معا في يوم واحد ومهد واحد، ويقتسمان الرؤية والتنفس واكتشاف العالم والتعبير عنه، وإذا أردت أن أرجع إلى ما قبل «من أين يجئ الحزن» ستجد الناقد موجودا وأستطيع أن أحدده بوضوح، فأولا لم يكن هذا هو مشروعي الأول, فقد كان هناك مشروع سابق هو «الجرح المسافر» وضعت فيه كل ما كتبته من تجارب شعرية في الغربة عندما كنت أدرس في بريطانيا، وكانت تجربة على الصعيد النفسي مريرة وأشبه بالصدمة الحضارية، وعبرت عنها في هذه المجموعة وقدمتها للطباعة في الكويت، وظلت في المطبعة سنة تقريبا، فشعرت أنني كبرت عليها، خاصة أنها كانت ذات طابع رومانسي، حنين إلى الوطن، وهذا موقف نقدي أن تحجب مجموعة شعرية وهي في المطبعة لتقول إنني تجاوزتها، الشيء الثاني إنني في ديوان «من أين يجئ الحزن»، لم أنشر قصائد عمودية ربما إلا قصيدتين قصيرتين لأنني جددت فيهما تجديدا يجدر بالحداثة أن تزعم قدرتها على إحداث قيم مضافة إلى القصيدة العمودية في الوزن والقافية، وهذا موقف وفعل نقدي أيضا، بالإضافة إلى ما ذكرته عن دور الناقد التقليدي في الشعر من الأمور التي تتصل بمحور الاختيار والتجاور، لذلك أرى أن مجموعة «من أين يجىء الحزن» منسجمة في قصائدها ولغتها، إذ تسودها نزعة رومانسية ثورية متطلعة إلى الواقعية الجديدة، التي تحققت في مجموعتي الثانية «العصافير وظل الشجرة».

الموقف والقصيدة

  • حينما كانت الواقعية الاشتراكية سائدة قدمت تجارب رائعة لمبدعين كبار، لكنها بالمقابل تبنت تجارب هزيلة وروّجتها لمجرد أن كُتّابها ينتمون للطبقة العاملة.. ألا ترى أننا مازلنا نعاني بدرجة ما آثار ذلك التسامح النقدي؟

- أنا لا أتعامل مع النظريات، وعندما أقرأ أزود نفسي بثقافات، وأقرأ هذه النظريات من حيث هي منظومة قيم، وأنا ذو منـزع يساري، وحين أقول يساري لا أقصد المعنى الأيديولوجي، فأنا لم أتأدلج يوما، ولم أنضم لأي حزب، وأنا هادئ ورومانسي، وأستطيع أن أرى بصورة واضحة منظومة القيم في كل جوانب الحياة المحيطة، بما فيها النظريات السياسية والأحزاب المختلفة، ومواقفى أتخذها في قصائدي وليس خارجها، وميدان نضالي كان في قصائدي، فأنا شاعر ولست مناضلا، أناضل من خلال الشعر.

  • هل الشاعر ليس مناضلا؟ هل لوركا ونيرودا ودرويش وقاسم حداد ليسوا مناضلين؟

- الشاعر مناضل.. مناضل.. لكن نضاله بالكلمة أهم من نضاله بالبندقية، لأن للبندقية رجالها، فإذا أخذنا مكانهم فلن يكون هناك من يأخذ مكاننا كمبدعين، وعلى كل واحد أن يأخذ مكانه الذي خلق له، وليس هناك أحد أفضل من أحد، شرط أن يكون في مكانه، كل منا هو أفضلنا حين يكون في مكانه، ولا يوجد بهذا المعنى أحد أفضل من أحد، كل في مكانه هو فاضل وأفضل من غيره، وبهذا المعنى أنا مناضل بالقصيدة، وعنها، وليس خارج القصيدة

  • من الأفضل في علوي الهاشمي الشاعر أم الناقد؟

لم أفكر في هذا الموضوع لأنني رهن العمل، والإنسان أثناء العمل لا يفكر في الحكم إلا بعد انتهائه من العمل، ويبدو أنني لم أنته بعد، ومثل هذا السؤال يمكن أن يجيب عنه من ينظر إلى التجربة من خارجها، لكي يرى أي النتائج أفضل من الأخرى، وأنا أحب التجربتين، أو هما مثل بناتي أو أولادي أو أنا في أحوالي وفي تجاربي المختلفة، وأنا أحب نفسي كثيرا، وأعتز بكل تجربة في حياتي مهما تفهت أو صغرت، ولا توجد عندي علاقة تافهة، ولاإنسان تافه، ولا موقف تافه، كل ما يتصل بي هو مني، ولا أتنكر لشيء مما فعلت، ولا أدير ظهري لأحد استقبلته ذات يوم، لذلك أنا أحب الحياة وكل ماعرفته فيها من تجارب، ومن أهمها حصيلة تجربتي في الشعر والنقد والبحث الأكاديمي والتدريس والاشتغال بالتربية والإدارة عميدا ونائبا لرئيس جامعة البحرين، وأميناً عاماً لمجلس التعليم العالي في وزارة التربية والتعليم ، لأنني ببساطة في كل ذلك أنا علوي الهاشمي، ولم أتغير. لم أصغر ولم أكبر، فكيف أفضل بعضاً مني على البعض الآخر؟!

الاستماع إلى الأخر

  • هل أفادك الناقد في عملك الأكاديمى، ومناصبك الإدارية؟

- أفادني الناقد وأفادني الشاعر، أولا أفادني الشاعر باعتباره سابقا للناقد عندما كنت أضطر للتأثير على أحد لإقناعه بقضية ما، والأسلوب الشعري هو خير ما يمكن أن يؤثر في إنسان، ثانيا أفادني الشعر في قراءة الآخر لي وإحساسه بصدقي عندما أكلمه، وهذا يكون أسرع في حل المشكلة وفي تفهم الآخر لي وانجذابه فيما أدعوه إليه، أما الناقد فقد أفادني كثيرا في تحديد المشاكل والقضايا ثم طرحها بشكل مترابط وواضح واختيار الكلمات المناسبة الدقيقه المعبرة عن الموقف دون زيادة أو نقصان، ثم ربط الكلام من مقدمة إلى نتيجة ثم في التفعيل، وأخيرا في الإقناع ومحاصرة الخصم، إن كان من يقابلك معترضا عليك ببراهين قوية.

أما الأكاديمي فقد أفادني كثيرا في فتح باب الحوار بشكل متسامح لسماع الآخر المختلف معي في العمل الإداري، كما أفادني بخصائص مثل الصبر والجلد والعمق واختيار أجمل الأساليب وأيسرها للتعبير عن أعقد القضايا وأدقها، أما التدريس بشكل خاص فكانت له فائدة عظيمة في تجربتي لأنه علمنى كيف أتعلم ممن أعلمهم ودائما أستمع إلى طلابي وهم يقيِّمون أنفسهم وأساتذتهم، كما أستمتع برؤيتهم وهم يعلمون أنفسهم بأنفسهم من خلال توجيهي لهم عن بعد، ذهبت لكي أعلم ففوجئت بنفسي أتعلم ممن أعلمهم، وهذه الجوانب الأربعة في حياتي مثل الأواني المستطرقة يصب بعضها في بعض لكى أصبح في الأخير أنا هو كل ذلك، وكل ذلك هو أنا، ولا تسألنى أين أنا من ذلك؟

  • هذا سؤال يستحق الإجابة عنه؟

- إذا نظرت إلى المسطح الذي تجلس عليه الأواني المستطرقة الأربعة، وهو مسطح الظروف والأحوال التي يمر بها الإنسان الذي هو أنا، ستجده قابلا للميلان يمنة ويسرة، ارتفاعا وانخفاضا، انكماشا وانضغاطا، وأنا أكون حيث يكون ذلك الميلان.

  • إجابة مراوغة أكثر من السؤال!

- إذا جلست مثلا مع إنسانة جميلة فماذا ستكون غير الشاعر، لا يجوز أن تكون الأكاديمي ولا الناقد والإداري، لأن الحالة تستوجب حضور الشاعر، الإنسان ليس عدة أنوات، بل عدة أحوال، وفي كل حال تتلبس الأنا الثوب المناسب، فما يناسب موعداً غرامياً غير ما يناسب الذهاب إلى مهمة رسمية، غير الذهاب إلى العمل، وهذا لا يعد تناقضا، فهذا اختلاف ظروف وليس تناقضا.. ونحن فينا جميعا ذلك التنوع، وأنا أعتقد أن النفس المتوازنة هي التي تتحرك دائما بين أطراف التناقض، حتى تجعل تلك الحركة بديمومتها محاولة للتوصل إلى معدل القسمة على اثنين، وهذا معنى و«نفس وما سوَّاها» فمهما يكون التقي تقيا فالفجور ممكن، ومهما يكون الفاجر فاجرا فالتُقى عنده ممكن أيضا، فالشيء موجود في نقيضه، وأظلم لحظات الليل تكون عادة قبل إنبلاج الفجر.

  • النقد والإبداع

هل يمكن أن يقود النقد الإبداع؟ أم أنه مجرد حركة موازية للإبداع؟ أم لاحق عليه؟

- الاثنان يلتفان أحدهما على الآخر التفاف طرفي الجديلة على وسطها، والوسط هو الحراك العام وحيوية الواقع من حيث الثقافة والسياسة والاقتصاد والاجتماع، هذه ثلاثة أطراف تصنع جديلة الواقع بجوانبه المختلفة، إبداعا شعريا أو نقديا يقوم على النص الشعرى تطبيقا، ويسبقه تنظيرا، وكلاهما يغترف ويتأثر ويؤثر في الواقع الذي يلتف عليه، فالإبداع لابد أن يلتف على الواقع، كمن يرقصان معا وتتداخل حركاتهما.

  • الواقع الإبداعي العربي عامة هل هو مرتبط بالواقع السياسي؟ وهل يكون أقوى كلما تعرض للقمع أكثر؟

- يكون أقوى لارتباطه بالرغبة الجامحة في الحرية، فينصهر الإبداع في هذا الشعور، وكان الواقع الاستعماري - أو الاستبدادي الحالي - يمثل حالة من التحدي القاهر والمنغص الجوهري لهذا الشعور بالحرية، فالتعلق بالحرية مفجر للإبداع، وعندما تحققت الحرية أو هيئ لنا أنها تحققت ركنّا إلى حالة من الاسترخاء، فلم يعد المحارب يتفقد سلاحه أو يشحذه أو يتدرب على القتال أو يتربص بالعدو، وصار الإبداع تحصيل حاصل ليس إلا، بعد أن كان كداً وكدحا ونضالا وموتاً وعبودية وقيدا في سبيل الظفر بالحرية.

  • هل يعني هذا أن الفساد العام أربك قرائح الإبداع العربية؟

- الفساد جزء مما هُييء لنا بأننا نلنا حريتنا بالالتفاف على حقوقنا، بالإعلام وسياسات الانفتاح، فالفساد يفسد الذمم الحقيقية التي هي مصدر الإبداع، فهناك سهولة في إفساد الإبداع والمبدعين، فبعضهم يسهل شراؤه، والشر يعم كما يقال.

  • هناك مقولة قديمة عن أن الناقد مبدع فاشل فكيف تراها من واقع تجربتك؟

- أنا لست مبدعا فاشلا...

  • السؤال عام وبعيد عنك تماما!!

- هذه مقولة تنطبق على الفاشل ولا تنطبق على المبدع غير الفاشل، لكنها تصح على بعض الناس ممن هم فاشلون أصلاً في الشعر والنقد على السواء.

  • هل تشكلت ملامح الأدب العربي الخليجي الآن لدرجة يمكن تحديدها؟

- هل يستطيع الإنسان المصري أن ينتزع صورة النيل من ذاكرته أوعينيه أو شرايينه، أو علاقته بالنيل.

ملامح الأدب الخليجي

  • أقصد بالسؤال إظهار ما تشكّل بالفعل من ملامح الأدب الخليجي وليس التشكيك بوجودها؟

- وأنا أريد أن أظهر تلك الملامح عن طريق سؤال مواز، أقصد أن المبدع المصري في أي مجال لابد أن يتسلل النيل إلى كتاباته، أو كلامه، أو رسومه، لأن النيل من خصائص الحياة المصرية، فبالضرورة سيكون من خصائص الأدب المصري، والشيء نفسه في كل مكان، كما في الخليج الذي له بيئته الدامغة لحياة أهله، وفي الخليج يوجد البحر والنخل والصحراء هذا الثالوث البيئي يظهر بشكل أو بآخر، يتحرك في الإنسان الخليجى في زِّيه وغنائه وثقافته وإبداعه واقتصاده وحياته ، وهنا نعود إلى الجديلة التي ذكرناها، حيث الإبداع يلتف مع واقعه أيضا للخليج، وكما لمصر تاريخ تتميز به تميز الخليج أيضا بتاريخه، وأنا لما أخرجت العلاقة بين النخلة والبحر لم ينكرها أحد، وصارت مقولة تم تعميمها على الأدب في البحرين وفى الإعلام والثقافة، وهذه مقولة أنا كشفت عن أعماقها في الشعر الحديث في البحرين.

لم يسبقك إليها أحد؟

- حسب علمي لا، والأشياء تكشف بتواريخها، ومن يقرأ أدب الخليج يصعب عليه ألا يلتفت للعلاقة بين النخلة والبحر، لأن النخلة والبحر ليستا قطعتي ديكور فقط، إنما هما مسافران في تاريخ الإنسان الخليجي وملتحمتان بملاحم الغوص والبحث عن اللؤلؤ، وسائدتان في دمه وغنائه وحياته وموته، فالبحر والنخلة هما عيناه اللتان يرى من خلالهما الحياة، فكيف يستطيع أحد من خارج هذه الدائرة أن يدخل إلى الأدب الخليجي إلا من هاتين البدايتين؟! هل كان زائر البحرين يستطيع الدخول إلا من باب البحرين: النخلة والبحر؟!

  • هل الأدب البحريني يختلف عن غيره في دول الخليج؟

- له تميزه وله أيضا اتصاله العميق، فهو حلقة متميزة لها لونها وحجمها وشكلها لكنها مفتوحة على الجانبين الخليجي والعربى، والعالمي أيضا.

  • بماذا يتميز؟

أعود إلى الجديلة لأنها هي التي ستؤشر إلى التميز الإبداعى الذي يأتي من التميز الواقعي، فالكاتب جزء من الواقع وبذور الإبداع تكمن في الواقع ويتمثلها المبدع وتكبر فيه ويقوم بالتعبير عنها، وبذور الإبداع تتمثل في الواقع في هذه الثنائية التي جعلت إنسان البحرين متوازنا بين التناقض, متولدا في كل ظروف حياته عن طريق الصراع الأسطوري الأول بين الإله «إنكى» إله الماء وإلهة التربة «ننهر ساجا»، ولقاؤهما أنتج «ننسار» إلهة النخلة، أو النبات، ومن هنا بدأت الحياة في تثنّيها من خلال نمو المجتمعات حول الزراعة، وفى البحر مع الأب نمت حياة اقتصادية أيضا، اللآلىء والأسماك، فنشأت التجارة والأسفار، وحين تستقرئ الحراك الحيوي بين هاتين البيئتين فأنت تضع يدك أيضا على ثنائية جديدة هي الحركة والسكون، الانغلاق والانفتاح، والسفر والترحال من جهة، والثبات والسكون في المكان من جهة أخرى، كل هذه من خصائص الواقع منذ ثلاثة آلاف سنة، وكانت واضحة في ملامحها الأولى باعتبارها حياة أسطورية صارت ذاتية وخفية، يضاف إلى ذلك أن الثنائية الطبيعية بين مجتمعي الزراعة والبحر يؤثر فيها غياب العنصر الثالث الذي يربطهما ببيئة الخليج العربية وهي الصحراء، خاصة في شبه الجزيرة العربية، من حيث جاء كل من سكن من أقوام وقبائل عربية، وغيرها، وأعني بذلك المحور الصحراء، ونظرا لصغر حجم البحرين وخصوبة تربتها فقد سكنت الصحراء مساحة الذاكرة تعويضا عن سكناها أو ظهورها في مساحة الواقع وصار لغيابها الظاهر تأثير أشد ولكن أخفى في بيئة الخليج، وهذه هى الملامح أو المميزات لواقع البحرين لها اتصال بواقع الخليج العربى والبلاد العربية، التي تنتمي إليها البحرين انتماء عضويا وتاريخيا وجغرافيا، وفي الوقت نفسه باعتبارها أرخبيلا من الجزر يفصل بينها وبين اليابسة العربية ما يحيط بها من ماء.

  • كيف تظهر تلك الخصائص في الإبداع الشعرى وغيره من أنواع الإبداع؟

- تستطيع أن تلمح ذلك في الصورة الشعرية التى تتمدد فيها، وتلمح فيها العلاقة بين المرأة وعناصر الطبيعة بشكل خاص، فالمرأة دائما صورة للنخلة تماما كما في الشعر العربى، فالمرأة الطويلة صورتها المثالية هي عود البان «غصن البان»، وعندنا النخلة. وكما تتمدد ألوان الطبيعة الخضراء والزرقاء في جميع إبداعات الإنسان البحرينى وصوره الشعرية والتشكيلية ويأخذ اللون الأصفر حيزا خيطيا مضغوطا بين الأزرق والأخضر تعبيرا عن العلاقة الثلاثية التي ذكرتها بين المحاور الثلاثة البحر والنخلة والصحراء الغائبة.

الإبداع هو وقود الإعلام

  • أبديت تخوفا من المشروع الإعلامي على المشروع الشعري، حيث يتيح الإعلام الفرصة لكل من يزعم أنه شاعر وهو غير مؤهل.. ما أسباب تخوفك؟

- ماذا تفعل بآلة لا تقف عن العمل في اليوم 24 ساعة وفى الساعة 60 دقيقة وفى الدقيقه 60 ثانية، ومن أين تأتى لها بما تلتهمه من وقود؟! فالقنوات الفضائية المفتوحة 24 ساعة من أين تأتي بالمادة التي تعرضها ومئات الصحف والمجلات من أين تأتي بما ينشر كل يوم، وأسبوع وشهر وفصل وسنة، والسماء لا تمطر إبداعا، والفضائيات تمطر جراداً.. جنائز.. دودا، كثيرا من الزبد قليلا من الموج، كثيرا من اللغو قليلا من الجمال.

لكن هذه البرامج تستعين بنقاد ونجوم كبار؟

- أنا لا أنكر على أحد من مثقفينا الظهور في وسائل الإعلام فهي مهمة في التواصل الإنسانى، لكني أنتقد التكالب عليها من قبل المبدعين، لأنها هنا تصبح مصيدة دون أن يدري المبدع، وخلاصة القول إن على الإنسان والمبدع بشكل خاص أن يتقدم بحذر، لا أقول يتراجع أو يختبىء بل يكون حذرا لأن الواقع الإعلامي يقدم مواد ضعيفة دون تقنين، ومعظم القائمين على هذه الوسائل ليسوا أفضل المثقفين وغير مبدعين، فكيف يقدِّم الأدنى من هو أعلى منه، في أوربا تستخدم الوسائل الإعلامية استخداما جيدا، فالمبدع والمثقف وصاحب النظرية يمارسون النقد في الإعلام على أنفسهم ثم يمارسونه على من يختارونه لتغطية أوقات بثّهم، ولا يضيعون وقت مشاهديهم ويحترمون القراء كما يحترمون من يقدمونه إليهم، وهذا الاحترام والتقدير هو ما نفتقده في معظم قضايانا، وأنا حذر من الإعلام ليس أكثر، وهذا لايعنى أنني أزهد أو لا أريد، لكني لا أدق باب الإعلام وإذا دق بابي أفتح له بحذر.

  • كيف ترى واقع الحركة الإبداعية العربية (الشعر - الرواية - القصة) وموقف الحركة النقدية منه سلبا وإيجابا؟

- مدى هذا السؤال كبير «تروح لإيه ولا إيه» و«من متى إلى متى»، لكن أعود وأؤكد ما قلته وأطبقه على الحركة الإبداعية العربية فهي لاتعيش أسعد أيامها لأن أبناء هذه الثقافة لا يعيشون أسعد أيامهم، بالإضافة إلى ما يرفد واقعنا العربي بحركاته الثقافية والسياسية والاجتماعية من غياب تلك الحركية العالمية التي كانت تتمثل في قوى عظمى كان من مبادئها تحرير الشعوب، ومعاونتها على التصدي لظواهر رأسمالية مقيتة قواها الطبقية والتفاوت الاجتماعي وفقدان الخصوبة والفساد الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما تختزله اليوم فكرة العولمة في جانبها السلبي، وهي فكرة لاتخلو من إيجابيات كثيرة على الرغم من ذلك.

  • ما إيجابياتها؟

ثورة الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا وتعددية الانفتاح العالمي، وسهولة التعارف بين الشعوب.

  • كل كتاباتك النقدية تقريبا عن الشعر البحرينى فقط، فلماذا لم تهتم بالإبداعات العربية؟ وهل مشاغلك هي التي منعتك من ذلك؟ أم هو إغراق في المحلية؟ أم مجرد مرحلة؟

- في عام 1972 عندما سجلت الماجستير في مصر مع الدكتورة سهير القلماوي كنت أفكر وأهتم بما يقال عن الحركة الشعرية في البحرين، وكانت وليدة آنذاك وطرية العود وسهلة التشويه والتشويش عليها، ففكرت في طريقة لحمايتها والدفاع عنها وإقامة سور نقدي حولها أو حول حديقتها اليانعة، وكانت سهام النقد موجهة إليها من قبل عدد من النقاد الخليجيين والعرب، خاصة أنها كانت جزءا من حركة سياسية واسعة تتسم بالشعبية والوطنية انفجرت في منتصف الستينيات في القرن الماضي. وبدا أن النقد يركز على جوانب الالتزام في الحركة الشعرية وأنها عبارة عن منشورات سياسية لا شعر فيها ولا جمال ولا أدب، وكادت تلك السهام أن تصيبها في مقتل، وتخيل لو أنها أصابت «قاسم حداد» أو «علي الشرقاوى» أو «حمده خميس» كنا سنخسر خسارة كبيرة، فقررت أن أرد على تلك السهام بشكل واضح. أقدم التجربة في نبل انتمائها وفى عمق ارتباطها الواقعي بالإنسان وقضاياه ودفاعا عنه والتعبير عن أشواقه وتطلعاته نحو الحرية، وهي منظومة قيم جمالية وليست منشورات سياسية، فالارتباط بالواقع شيء آخر غير الخطابية والمباشرة والتعبير السياسى في المنشورات، وأعتقد أنني خلال خمسة عشر كتاباً قدمتها للحركة الشعرية وبعض دواوينى، وأطروحتي للماجستير والدكتوراه استطعت أن أسير مع الاتجاه الزمني للدفاع عن هذه التجربة وحمايتها، ولا أقول إنني الوحيد، لكنني سرت في الاتجاه الصحيح، وأعترف أنني خسرت شخصيا التجربة الشعرية التي كنت أمثلها، وقد تكون خسرتها الحركة الشعرية في البحرين أو الحركة الشعرية العربية، لكن الظروف أحيانا تفرض علينا أن نضجي بشيء مهم من أجل شيء أهم ، وأن نبذل العزيز في سبيل من هو أعز.. وهذا معنى التضحية كقيمة في نظري.

  • هذا ما شغلك عن متابعة الحركة الإبداعية العربية؟

- طبعا لأن عمري ووقتي لا يتسعان لأكثر مما قدمت، ولم أكتب عن الحركة العربية لأن كتابها كثيرون ممن هم أهم مني وأقرب إليها، خاصة في مصر والعراق ولبنان، فهناك نقاد عمالقة وباحثون كبار، لكني كنت أسأل عن الحركة الشعرية في البحرين، فكلما قرأت كتابا عن الشعر العربي المعاصر لا أجد ذكرا للشعر البحريني، عندئذ ازداد شعوري بالمسئولية تجاه الحركة التي أنتمي إليها وهذا ما دفعني للتركيز عليها لإبرازها ووضعها في مكانها اللائق بين أخواتها في الوطن العربي.

أنا إنسان قنوع

  • اسمح لي باستخدام عنوان ديوانك الأول لأسألك «من أين يجى الحزن» الآن شخصيا.. وعلى المستوى العام؟

- أنا قنوع وصاحب رضا و«مش طماع» ومتواضع حقيقى.

ألا تشعر ببعض الغبن؟

أنا شاعر بأن من في أيديهم القرار لو فهموني وعرفوا من أنا على حقيقتي لكانوا استفادوا مني استفادة أكبر بكثير مما حصل طوال المدة الماضية، لكن مشكلتي أنني لا أعرض نفسي في الفاترينات الرسمية لأني خجول بطبيعتي، وأرى أن قوة الأشياء هي التي ينبغى أن تجذب صاحب الحاجة لا هي التي تذهب إليه، لأنها لوذهبت إليه لشككت في قيمتها وفي قوتها، وأنا واثق أن اللآلىء الجيدة تسكن الأعماق البعيدة من البحر، وهي بحاجة إلى غواصين مهرة لاكتشافها واستخراجها من الأعماق المظلمة.

  • هذا أحد أسباب الحزن؟

- نعم هو أحد أسباب الحزن لأنهم لا يعطونك فرصة لكي تخرج كل ما عندك من خير:

آه يا وطنا كنت عمري أضاحكه
فيبكيِّني وأضاحكه
فيبكيِّني وأضاحكه
وأضاحكه وأضاحكه

وسأظل أضحك مهما كان الإحساس بالخسارة، ليست خسارة علوي الهاشمي، بل خسارة إضاعة فرص الحياة سدىً، خسارة إهدار الأشياء، إهدار الخير فينا وفي البلد وفي الأمة، وليس لكوني أحد مكامن هذا الخير، لكني سعيد بالزمن الجديد سياسيا، لأني من المؤمنين بفكر ملك البحرين اليوم ورؤيتي له كشخص وكحركة إصلاحية وفكر، ولاأتعامل مع الناس باعتبارهم حلقة في سلسلة كبيرة، فكل هذا تاريخ يقرأ كيفما يقرأ، لكنها حقيقة قائمة بيني وبين نفسي، فأنا أحترم هذا الملك منذ كنت معه في المدرسة ورأيته يدرس معنا في المدرسة الثانوية، وقد أبى إلا أن يتعلم مع الشعب بجميع طبقاته، وقبل أن تتأسس المدارس الخاصة في البحرين، كانت المدارس تضم كل الطبقات، أحترمه منذ ذلك الوقت، لكني لست مدّاحاً ولا يهمني أن أعين وزيرا أو غير وزير، ما يهمني أن أخدم بلدي، وما عندي وقت للتلفت لغير ذلك في دراساتي، وفى كتاباتي ونقدي، وعندما ناداني الواجب من أصحاب القرار استجبت بسرعة وبلا تردد، وعينت عميدا، ونائبا لرئيس الجامعة، ثم أمينا عاما لمجلس التعليم العالي، ولا أميز بين موقفي كمواطن عادي وشاعر وكناقد وبين أحد في هذه المناصب الرسمية، ولاتبهرني الأضواء.

-------------------------------------

وأُعدمُ أحْياناً، وأُغنى، وإنما
ينالُ الغِنى ذو البُعْدَةِ المتبَذِّلُ
فلا جَزَعٌ من خِلةٍ مُتكشِّفٌ
ولا مَرِحٌ تحت الغِنى أتخيلُ
ولا تزدهي الأجهال حِلمي، ولا أُرى
سؤولاً بأعقاب الأقاويلِ أُنمِلُ

الشنفري

 

قام بالحوار: أسامة الرحيمي




 





د. علوي الهاشمي في لقائه مع أسامة الرحيمي





د. علوي الهاشمي أثناء إجراء الحوار