تعقيبا على موضوع الجامعات العربية . . لماذا هي خارج الترتيب العالمي؟

تعقيبا على موضوع الجامعات العربية . . لماذا هي خارج الترتيب العالمي؟

تابعت في أكثر من عدد من مجلة «العربي» موضوع أزمة التعليم العالي في الوطن العربي، وقد جاء العدد 587 الصادر في أكتوبر 2007 بمقال للدكتور محمد مرعي بعنوان «الجامعات العربية.. لماذا هي خارج الترتيب العالمي؟» مقال اعتبره كتحصيل حاصل لما تمت كتابته آنفا والذي اتفق مع كل ما جاء فيه، إلا أنني أريد أن أضيف بعض النقاط وأتوسع في بعض الأفكار.

إذا كان الكاتب قد اعتبر سوء الإدارة وغياب مستلزمات العمل، وهجرة الأدمغة وغياب الديمقراطية داخل الجامعات، زد على ذلك المحسوبية والزبونية وسيادة مناهج التدريس التقليدية، بالإضافة إلى تدني ميزانية البحث العلمي والرقابة الفكريشة والقيود الإدارية على النشاطات الأكاديمية، اعتبرها من أسباب تخلف الجامعات العربية وخروجها من سلم التصنيف العالمي، فأنا أضيف لذلك ثلاثة أمور أرى فيها السبب المباشر لهذا التخلف: غياب الرؤية، وتهميش اللغة العربية في البحث العلمي ورفض سياسة إعطاء الشباب فرصتهم.

فغياب الرؤية يؤدي بطبيعة الحال إلى الفوضى والارتجال الذي يفضي بدوره إلى اندحار وتراجع أي ميدان من ميادين الحياة. يقول عالم المستقبليات المغربي الدكتور المهدي المنجرة: «من دون رؤية لايمكنك أن تبني استراتيجية ومن دون استراتيجية لا يمكنك أن تبني سياسة ومن دون سياسة لايمكنك أن تتقدم في أي ميدان من ميادين الحياة»، (الإهانة في عهد الميجاإمبريالية ص 182)، والتعليم هو أحد هذه الميادين التي تأثرت بشكل رهيب بغياب الرؤية، التي أرى فيها المحدد الرئيس لما سيكون عليه الحال بعد مدة زمنية محددة حسب نوعية الرؤية المتبناة، فالرؤية الجيدة وما أقصده بها هنا هو التخطيط المسبق المبني على تجارب وأخطاء الماضي وما نعيشه في الحاضر في محاولة لاستشراف المستقبل وتفادي المفاجآت غير السارة وليس رؤيا المنام، مرادف لمستقبل مبني على أسس متينة ومحكمة بعيدة كل البعد عن ارتجالية الأداء والتسيير. فكما ورد في المقال فسوء الإدارة سبب من أسباب تخلف جامعتنا، لذا فتسيير مؤسسة بحجم الجامعة ليس بالأمر الهين، إذ يخضع لشروط صارمة لا مجال فيها للصدف، وإنما لدراسة منطقية تراعي حاجيات ومتطلبات المؤسسة حاضرا ومستقبلا. كما أن الإصلاحات التي شهدها قطاع التعليم في ربوع الوطن العربي، كلها إصلاحات تجزيئية/تقسيمية لم تتمكن من تحديد مكمن الداء لتستأصله بالمرة وإنما اكتفت بتهدئته مؤقتا، بمعنى أن المسئولين عن هذا الإصلاح اكتفوا بمعالجة الأمر انطلاقا من وجهة نظر سطحية وأحادية ولم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة واستنباط المتغيرات العالمية والحركية التي يشهدها القطاع عالميا، وعندما تنسد الأبواب في وجوههم يستوردون منظومات غربية جاهزة علها تأتي بحل سحري، من دون أن يعوا أن هذه المنظومات التي يتهافتون عليها يتطلب إنجازها وقتا طويلا حتى تناسب الوسط المراد زرعها فيه.

النقطة الثانية، والتي أشار إليها الكاتب في مقاله وهي أزمة البحث العلمي التي سبق لمجلة «العربي» أن أفردت لها ملفا خاصا في العدد 568 الصادر في مارس 2006، تناول بالتفصيل الظاهرة من مختلف جوانبها، وما أريد أن أضيفه يتعلق بمسألة اللغة العربية واستعمالها في البحث العلمي، فمعظم الجامعات التي تتبوأ مراتب متقدمة عالميا، تعتمد لغتها الوطنية في البحث وتدريس العلوم، بعد أن تكون قد ترجمت ما تحتاج إليه من نظريات من دون اعتماد لغة أجنبية داخل جامعاتها. لكن ما يحدث في جامعاتنا هو العكس، إذ إن لغة التدريس المعتمدة دائما ما تكون لغة أجنبية، كمثال الفرنسية في دول المغرب العربي، التي تحظى بأكثر مما تستحق. والسؤال المطروح هو كيف لنا أن ننافس جامعات العالم ونحن في نظرهم لسنا سوى مستهلكين للمعرفة، أولا باعتماد لغاتهم؟ وثانيا باستيراد نظرياتهم العلمية؟

مؤكد أن البعض سيرد بكون اللغة العربية لاتساعد على ترجمة العلوم نظرا لجمودها وعدم مسايرتها للمستجدات العلمية، وكونها فقط لغة الأدب، وهذا في نظري عذر أقبح من ذنب، فلو عدنا للوراء لرأينا كيف نقل أسلافنا القدامى معارف الإغريق واليونان وفلسفاتهم، وكيف استفادت أوربا، التي أصبحنا نستورد منها كل شيء، وطورت المعارف وكثفت البحث، بينما توقفنا في منتصف الطريق.

وسمحنا لأنفسنا بالركون والخنوع معللين الوضع بجمود اللغة وصعوبتها وعدم مواءمتها لظروف العصر.. هذا كذب وافتراء وبهتان، اللغة تحيا بحياة شعوبها وتموت بموتها، وذلك ما لن نسمح به مادمنا أحياء، فاللغة هي الضامن للهوية والحضارة بصفة عامة في ظل ما يسمى بالعولمة. وما تحتاج إليه لغتنا لتبعث من جديد هو قرار سياسي مدعوم بإرادة فولاذية يرد الاعتبار للغة العربية وذلك بإحداث مراكز متخصصة للترجمة العلمية الدقيقة وإحداث مجمعات البحوث والاهتمام بالمشتغلين باللغة وتشجيعهم بمنح تخول لهم التفرغ لخدمة اللغة وتطويرها، هكذا سيتسنى للغتنا التي نعتز بها حتى النخاع، أن تلحق بالركب العالمي وتقف على قدم المساواة مع باقي لغات العالم. وهذه ليست مناشدة واستجداء وإنما أمر وجب تنفيذه لأن الوضع لا يحتمل المزيد من الانتظار والتماطل، فالسرعة التي يسير بها قطار التطور سرعة رهيبة جدا، وأختم هذه الفقرة بمقولة للدكتور المهدي المنجرة: «ليست هناك أي دولة في العالم ذهبت بعيدا في ميدان البحث العلمي وصارت قوة تكنولوجية، من دون الانطلاق من لغتها الوطنية، أما التأسيس انطلاقا من لغة أجنبية فهذا أمر لا يستقيم، لأنك تسبب تناقضا في المفاهيم خطيرا بين الذات واللغة. وحتى إسرائيل تستعمل لغتها العبرية والبرازيل تستعمل لغتها الوطنية والهند كذلك وهذا الأمر لا خلاف عليه إلا عندنا». «الإهانة في عهد الميجاإمبريالية» - (ص212).

قبل أن أختم مداخلتي، أود أن أركز على مسألة إعطاء الفرصة للأطر الشابة داخل منظومتنا الجامعية لتبين عن كفاءتها العلمية والعملية، إذ من غير المعقول أن تستمر الوجوه نفسها في القيادة وبعقلية تتنافى مع روح العصر وحيويته، فلكل زمن رجاله وأنه آن الأوان للتخلص من الشيخوقراطية على رأي الدكتور المهدي الذي يرى «أنها تكتم أنفاس كل أشكال الخلق والإبداع داخل المجتمعات الفتية»، كما دعا إلى تفادي هاجس الخوف من الخطأ إزاء سياسة إعطاء الفرصة للشباب واعتبارها مسألة ضرورية للتعلم وبناء المعرفة لكي يستفيد منها في ذلك الشباب وليس الشيوخ.

الموضوع فضفاض وبالتالي فصفحة أو حتى مائة صفحة لن تكفي لمناقشته وتحليله، وما يلزم في هذا الصدد هو تنظيم أيام وندوات دراسية على الصعيد العربي يحضرها المختصون في الشئون التربوية. إلى جانب وزراء التعليم ورؤساء الجامعات لتدارس الوضع وتشريحه وإيجاد الخلل وعلاجه، إضافة إلى بحث سبل تطوير البرامج التعليمية عربياً وإصدار توصيات في الموضوع تكون بمنزلة قرارات يجب تنفيذها مع احترام الحيز الزمني المخصص لذلك.

توفيق البوركي
أغادير - المملكة المغربية