البحث عن الإنسان

البحث عن الإنسان.. سامي محمد

على عتبات الفن العربي المعاصر

يقف الفنانون على عتبات عوالمهم الملوّنة ليقدموا شهاداتهم، والسيرة التي يكتبونها لا تستبدل اللوحة أو تعوّضها، لكنها تقدم للقرّاء إضاءة من زاوية جانبية لعمل سابق وآخر لاحق. فإذا كان ما هو غير مرئي لابد أن يتم فهمه بواسطة ما هو مرئي، فإن الوقوف على عتبات الفن مع شهادات هؤلاء الفنانين العرب تأخذ بأيدينا - عبر غزل الحروف - إلى غزليات اللون، وضربات الفرشاة، وحوار الإزميل مع الحجر. أبجديات مختلفة، وخامات ليست مؤتلفة، لكن بها عالماً مغايراً يتأسس دون أن يكشف كامل سرّه. إنها شهادات فيها الشعر الذي يعكس توق الفنان للحرف، وأعمال فنية تأخذ الشعر والحياة إلى آفاق أخرى، فما هي إلا دعوة لتجاوز عتبات الفن، إلى خضم عالم الفنان.

ولدت في الكويت في منطقة الشرق في حي الصوابر عام 1943. كنت طفلاً عندما بدأت علاقتي بالطين، أجلس صامتاً أراقب حوائط بيتنا المبنية من صخر البحر واللين. شيء ما حرّكني، فامتدت يدي إلى الطين، وأبداً لم أكن أدرك وقتها، أنني إنما كنت أمد عمري بكامله!

بدأت بتقليد بعض هيئات الطيور والحيوانات والأسماك. أسند ظهري إلى أحد الحوائط، وأغيب وعالمي، أنهي تماثيلي الصغيرة، فأحملها إلى الشمس، وأجلس أراقبها لحظة بلحظة أستعجل جفافها، وأطير من الفرح ألتقطها، وأركض بها إلى أقراني، يتفحصونها ويتفحصونني، دبيب ما يتسرّب إليّ، نلهو بها لفترة، وما نلبث أن نكسرها، وثانية أعود أنا إلى عالمي، إلى الطين.

عام 1956، وبعد العدوان الثلاثي على جمهورية مصر العربية، وكنت وقتها في مدرسة «الصباح»، وتعبيراً من إدارة المدرسة عن تضامنها ووقوفها إلى جانب الشعب المصري العظيم، قررت الإدارة إقامة مجسم لمعركة بور سعيد وبور فؤاد على مسرح المدرسة، حيث أسندت لي مع بعض الزملاء مهمة إنجاز نماذج لجنود ونساء وإطفال وتحت إشراف أساتذة التربية الفنية في المدرسة.

أنجز المجسم على أدق وأجمل هيئة، وكم كانت فرحتي لحظة أذيع اسمي من «ميكرفون» المدرسة، وخرجت لأصافح راعي الحفل الشيخ عبدالله الجابر الصباح، يومها تسلمت أول جائزة فنية في حياتي، وكانت عبارة عن قلم جاف. وخلافاً عن كل الأقلام، ظل أبدا ذاك القلم ندياً في ذاكرتي وقلبي.

تنقّلت بين أكثر من مدرسة: المأمون، الغزالي، الشامية، المتوسطة، ثانوية كيفان، وفي جميع هذه المدارس، كنت أصادق الرسم والمراسم، بين عامي 1957و1959 بدأت أنحت على «الآجر الأصفر» مستخدماً السكين وورق الصنفرة، وكانت أغلب أعمالي عبارة عن وجوه آدمية.

المرسم الحر

مع بداية عام 1960 دخلت إلى المرسم الحر، استهوتني أجواؤه، وسحرني العمل فيه، حتى حصلت على التفرّغ الكامل في المرسم الحر للفنون الجميلة عام 1962.

أمضيت مدة أربع سنوات في المرسم الحر، أنجزت خلالها العديد من الأعمال الخزفية، التي شاركت بها في جميع معارض الربيع التي كانت تقام سنوياً في مدرسة المباركية. وإذا كانت هناك سمة مشتركة لهذه الأعمال، فإنما تتمثل في كونها جاءت من الفطرة، تحاكي في معظمها الإنسان، والحب، والحرية.

زاولت في تلك الفترة الرسم بنهم كبير. كنت أحب الطبيعة الصامتة، ورسم البورتريه والاسكتشات، وكانت تلك السنوات بمنزلة فترة تمرين وكسب خبرات ضرورية للولوج إلى ذلك العالم الساحر.. عالم الفن.

كلية الفنون الجميلة

في عام 1966 تم إيفادي إلى جمهورية مصر العربية، وهناك بدأت أولى خطوات دراستي العلمية المتخصصة، طالب فن في كلية الفنون الجميلة. عشقت المتاحف المصرية، وبقيت طوال فترة دراستي في الكلية لا أنقطع عن التردد عليها، وإشباع رغبتي المتعطشة لتفحص مقتنياتها، ومحاولة الغوص في عوالمها المختلفة.

فترة دراستي في الكلية بين عامي 1966-1970 كانت من أغزر الفترات إنتاجاً في حياتي، فلم أكن أفارق الرسم والمرسم سواء في الكلية أو في شقتي الخاصة، وأبداً ظل ذاك الهاجس يملأ عليّ لحظتي.

الفترة الممتدة ما بين تخرجي في كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1970 وحتى ذهابي للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1974 كانت بمنزلة فترة بحث ومتابعة لكل ما له علاقة بالفن، والفن الحديث منه على وجه الخصوص. ولقد انعكس ذلك على أعمالي سواء الرسومات الزيتية أو الأعمال النحتية.

وتلوّنت أعوام الدراسة في الولايات المتحدة 1974-1976 بنبض الحياة المتسارع والعصري في كل شيء. فإلى جانب دراستي في الكلية، كنت أحرص كل الحرص على زيارة المتاحف باختلاف مدارسها، وكذلك حضور المعارض الآنية والجاليريات المعروفة والتي كانت تقام باستمرار هنا وهناك ممثلة لآخر ابتكارات وإبداعات الفنانين وعلى اختلاف اتجاهاتهم.

الإنسان.. الهاجس

فترة دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر بحق فترة فاصلة لما كان قبلها، وما جاء بعدها. فبعد رجوعي إلى وطني الغالي عام 1976 وجدت أفكاراً كثيرة تتقاذفني، وكنصل الخنجر هاض بي السؤال: ماذا تريد؟!

انكببت أرسم وأنحت لمدة عام كامل. وكأني أنفِّسُ عن ذاك الهم المضني الذي استباحني، أنجزت أعمالاً متنوعة كبيرة وصغيرة واسكتشات لا حصر لها. حيث دارت جميعها حول خط ولون، ولقد أسميتها «المنحنيات» ثم عرجت إلى النحت على الخشب الساج بأحجام كبيرة ومنها «قبل الولادة» و«بعد الولادة» و«الأمومة»، ولكن ذاك السؤال ظل يطاردني: ماذا تريد؟!

اتجهت إلى التراث المحلي، استوقفتني الخيمة والبساط. ومنهما ولجت إلى عالم فن «السدو» حيث الإبداع العفوي المتوارث يرقص بين أصابع الناسجات البدويات.

أمضيت مدة في الدراسة والملاحظة بغية الوصول إلى تلك العلاقة التي تجمع ما بين الإنسان، وخيط الصوف، واللون، وأصابع البدوية، والخيمة، والمسند، والبساط.

رسمت لوحات عدة مستخدماً نقوش السدو فيها. كما قمت بنحت تماثيل من الساج أو البرونز أو خشب مركب وملون أو جبس ملون وكلها تحاكي البيئة البدوية، ولكن ذلك السؤال ظل يقلقني: ماذا تريد؟!

وخلافاً للمرات السابقة، جاءت الإجابة: من أعمالي نفسها، التي أعلنت لي:

الإنسان!
انفجرت بها، وانفجرت بي.

وكان أن ولدت مرحلة «الصناديق» التي جاء معظمها يروي قصة إنسان يتحرك بكل قوة، يحطم عنه قيوده وأغلاله. يأمل في الخلاص والاستحمام بنور الحياة.

ابتداءً من تلك المرحلة، وفي كل ما تبعها أصبح «الإنسان» هو وعيي وهاجسي وقضيتي. الإنسان المقهور المسحوق المعذب. الإنسان في بحثه الدءوب والدائم عن الحرية والحب والسلام.

كنت طفلاً صغيراً عندما حرّكني الطين..

وشابا اندفعت أجرّب، وأجرّب.

وهاأنا الآن.

أهب نفسي لقضية..

الإنسان!

الصغير بحجمه حد الروعة..

والكبير في احتماله حد الأمل..

والعظيم في إبداعه حد الدهشة..

أتأمل اليوم تلك الرحلة، بما عبرت فيها الصور والحكايات، وتتجدد أحلامي.

اليوم أجلس قبالة الشاطئ، هنا، أو في الشارقة حيث بدأت إنشاء متحفي الخاص، أتأمل موجات المياه التي تتحرك، وكأنها يدٌ تعيد تشكيل الرمال على الشاطئ، مثل يدي ذلك الصبي الصغير الذي أعاد تشكيل الطين في طفولته.

لقد كان الطين مصدر إلهامه، في رحلة البحث عن الفن والإنسان، مثلما كان الطين البذرة التي نبت منها الإنسان نفسه.

موجة إثر موجة، يتغير شكل الرمال، مثلما تغير الضربات شكل الحجر بين يدي النحات. الشيء الوحيد الذي يظل آسرًا ومسيطرًا، هو عشق الفن، والإنسان، في كل مكان.

 

سامي محمد 




 





 





تمرد على القيود





الخيمة والبساطة والدخول إلى عالم السدو





الإنسان المقهور والمعذب هو هاجسي الأول





من الذي يستطيع أن يكتم صرخة معذبة؟