تجربة في المكان

تجربة في المكان

إنها شهادة فنية مميزة يخاطب فيها الفنان ذاته، ويكشف عن ينابيع فنه وتلك الروافد التي غذّت ألوانه وبلورت شخصيته.

في تلك القرية الكبيرة وسط البلاد عند ساق الأطلس المتوسط، التي التحم قدرك بها، مسقط الرأس، البداية والنهاية، التي لم ينفرك ضجر منها ولم تأسرك سعادة عابرة، الزمن فيها رتيب والإشراقات تقتضي الترصد، شتاؤها قارس وصيفها حار ومغبر، يصير وحل الأول عفر الثاني وزوابعه، ومع ذلك هي «جيكورك» الخاصة، إرث عصي ترميمه ومستبعد بيعه. ورش أبدي لمشاريع بناء دور أجيال من المهاجرين ومجالس بلدية في تعاقبها يهدم التالي منها معالم ما أنجزه السابق، يمعن في إقرار هندسة بشعة، يعيد حفر الطرق بسبب أو من دون سبب، تتقلص الأراضي الخصيبة، وتعرش فيها حداثة منيعة، هناك مرت سنوات في أتربتها وأرمدة أسواقها وذاكرتها، لذا سافرت في التراب، تبعا لوصية جلال الدين الرومي: «سافر من نفسك إلى نفسك أيها السيد، فمن سفرك صار التراب منجما للذهب».

في ظل هذا الخراب، اخترتَ مادتك كطريقة في الثناء، ردمتَ الوجود في الخرابات، «ليس حبا فيها، كما يقول فالتر بنيامين، بل حبا في الطريق التي تفتحها هذه الأخيرة». لقد كان استنطاق عينات من التراب واحدا من أهداف عملك في البداية، سنوات خلت، لم يكن ذلك مسألة تقنية فحسب، إنما صميم بحثك وموضوعه، خصوصا أن التراب متعدد المعاني والدلالات والهويات، من المسكون بالتاريخ، بآثار الناس، بأحلامهم المتمنعة، بعرقهم، بدمهم، برغائبهم المعلقة..إلى الموحل والرخو والعنيد والمجهول، تراب الأندلس، تراب أمريكا الهنود الحمر، تراب خرائب المعارك، تراب المقابر التي ترقد فيها أجساد آبائنا وآباء الآخرين، فلاحظت أن الأمر بات يتعلق بشيء آخر إلى جانب تحرير هذه المادة من عزلتها، كما قال سيوران، عندما أشار إلى أنه يشفق حتى على قطعة حديد ما، على كل شيء تافه، مهجور، غير محظوظ وسيئ فهمه، لأن كل ما له شكل معين يتألم، كل ما انفصل عن السديم ليتابع قدرا منفصلا، كل هذه الأتربة تتصالح فيما بينها وأنت تشتغل عليها، تتحاضن في تحابّ، تنفتح بعضها على بعض، تصير واحدا بلغة المتصوفة. المهم أن تكون فكرة كل الأشياء كاملة في قلب الفنان كي ينتعش إنجاز اللوحة التي تحقق تلقائيا المنساب، الخاثر، المضاء، المعتم، المتخيل ـ المتجلي في النهر الحيوي الذي يقطنه الكون، لم يكن ذلك رغبة في الإقامة في ذاكرة ما، بل بحث عن مسارب أخرى بقدر ما هي مجهولة بقدر ما كنت تشعر أنها ملكك، تبعا لفكر «مخرّب» تصير اللوحة فيه طريقا إلى اللاّلوحة، وتسافر من اللارسم إلى رسم آخر. كان يلزم أن تخرب كي ترى أحسن. لأن كل لوحة، كل رسم، كل صحوة وعي جديدة، يصدرون عن اشتهاء هذا المفتوح أمامنا الذي لا يمكن إدراكه بالضرورة بالحواس أو بالعقل العادي، كما قال ريلكه في رسائله لبول سيزان، الهدف من اللوحة، بالمعنى السابق، لا يقف عند تشخيص الأشياء، أو وصف الأشياء، كما في الرسم الأكاديمي، أو الانطباعي أو بعض التكعيبي. يجب أن تكون اللوحة شيئا، أداة يضع فيها الفنان طاقة فكرية، شبيهة بشحنة كهربائية فور أن يلمسها مشاهد ذو حساسية مناسبة، تثير فيه انفعالات معينة، لأن قيمة حضور عمل فني ما، يجب أن تكون قوية قوة طلسم أو أيقونة، ما إن تلمسهما اليد أو الجسم حتى يشعرا بتأثيرهما الإيجابي، كما في الفنون السحرية والفن الإفريقي. قال خوان ميرو :

«أكثر من اللوحة نفسها، ما يهم، هو ما تزرعه. يمكن للفن أن يموت، يمكن للوحة أن تتلف. لكن المهم، هو البذرة، التي يمكن أن تولد منها أشياء أخرى»، ثم لأن كل ما ننجزه في الفن وفي الحياة هو نسخة ناقصة عما فكرنا في إنجازه ـ كما يقول بيسوا ـ ، فإن علينا أن نخرج من فنّ معرّف إلى فن نكرة، فن يسير أمامنا، يوسع متخيّلنا، يولد من تعب وضيق بالأساليب والأشكال المألوفة والردهات المدرسية، كل هذا، طبعا، يجب أن يكون، شأن كل ممارسة إبداعية، مترحّلا بين القراءة والبحث والمعرفة، قصد معاودة طرح الأسئلة وتأمل العمل والمواد والعلامات والخطوط وغيرها، على نحو مغاير والحفاظ عليه مفتوحا، كالرواية، مطلقا فنيا، كل شيء يصب فيه، يفجر العلاقات فيه بين اللون واللون، بين اللون والشيء، بين الأنا والعالم، كأنك تشكيلي بـ «الصدفة».

المراحل الأولى

هكذا قطعت مع المراحل الأولى من عملك، التي لم تقنعك ولو أنها كانت ضرورية. وربما لم تقنعك لأنها كانت كذلك. إلى أن حررتك التمائم والتراب ومرحلة الرماد الأخيرة هذه. لكنك بقيت وفيا، طوال هذه المدة، إلى تجربتك المركزية كي تتخذ مسارا تصاعديا، تعمقها بالأثرين، الشعري والمعرفي، لشعراء وكتاب تقتسم معهم شغفهم وحسهم الفكري والجمالي وإن تباينت أدواتهم الخاصة، كأنك داخل مجرة تتحاور فيما بينها ويصبح المتكلم فيها مخاطبا. إن التوسل بهذا النمط من التفكير، تأكيد على أن الإبداع كامن في مكان ما، قصي في الإنسان وفي الوجود، في النزول إلى طبقات الموت عبر الرماد والاستماع إلى أنين المقيمين فيه، كي تصبح اللوحة أثر حبّ عندما يكون الحب بحاجة إلى «منفى»، كأن الحياة لا تكتمل فعلا إلا وهي مغلفة بالعدم وصمت الأشياء، وأن الموت لا يكتمل أيضا إلا إذا كان أثرا لما ينبغي أن يكون. اصطدمت تجربتك هذه وهي تحاول استرجاع ممتلكات الطفولة والأحلام وغياب من أحببتهم، بأول الرموز والعلامات التي تجازف بإمكان تحويل الجحيم إلى نشيد. فكان للعلامة الهشة اندهاش مجاورة لغة كلية وجوهرية، ذرات متناثرة قرب أهرام. فكانت تجربة التمائم التي خطها فقيه من تسعين عاما لكائنات ضاعت بين الحقائق والأوهام، لم تعرف أنت لا خطّاطها ولا المرسلة إليهم. كل ما عرفته أنها كانت لغات مستغلقة، أرقاما، خطوطا، حروفا وجداول عصية، ما شدّك إلى توظيفها أن الدافع إلى كتابتها، إرادة حياة حقيقية ونصبها الفخاخ للموت بشكل غامض على نحو واحد يفسر عجز العقل عن فهم الحياة ومداراتها المباغتة.

كان معرض مكناس، رسم الهواء، فاصلة استراحة بعد معرض الرواق الوطني، باب الرواح، كأنك حملت عصا الترحال لتغيب في عالم تموت فيه من أجل فاصلة، تردم العوالم الكبرى في أحجام صغيرة. كيف ترسم الهواء أو الأثير الذي كان مادة متفاعلة مع الماء والتراب، أو بالأحرى، شاعرية الهواء؟ العوالم الكبرى: تأملات نحو الماضي، التأملات التي تبحث عن الطفولة، يبدو، يقول باشلار: «إنها تحيي عدة حيوات لم تولد.

عدة حيوات لم تولد إلا في المخيلة، ففي التخيلات الشاردة، نستخدم من جديد إمكانات لم يُعرف استخدامها. فثمة مفارقة كبيرة تسم تأملاتنا نحو الطفولة: لهذا الماضي الميت فينا مستقبل، مستقبل الصور الحيّة، مستقبل التأملات الذي تشرّع أبوابه أمام كلّ صورة مستردّة». لهذا كان عملك في هذه المرحلة قطعا صغيرة من شيء أكبر، جزءا من شيء صار مهمّشا، أثرا فنيا في الحياة ضاعت أجزاؤه، شاهد على غياب. لكنه الأثر الذي ينْبئ بالخطوة دون أن يكررها.

تجربة الرماد

بعدها صار الرماد، لم يكن ثمة شيء مرئي في تجربتك، في تاريخك الخاص. اعتمدت على رماد وقصدير وأسلاك ومسامير وفحم سوق قريتك الأسبوعي الذي أتت عليه النار كلية من أربع سنوات خلت، بحيث صارت الحياة التي كانت تعج فيه، بلقاءات سكانها وكرنفال حكاياتهم الأسبوعية، بآمالهم المنتصرة دوما على أحزانهم، بما يعلنون وما يضمرون، بغناهم وبؤسهم، عبارة عن فضاء موت وكومة خراب.. في هذا الحلم التائه، يتوحد البعيد والقريب، يمتزجان بالنشيد الثقيل للمادة، ويظهر أن المادة في مساءلتك الدائمة لها، تقدم بإمعان جوابا واحدا، يعبر عن إنسان واحد: تقاطعها وحميميتها مع الإنسان. في كل لوحة تجد أثر اليد، الأصابع، الأداة، إيقاع حركة من اليد، دقيقاً أو اعتباطياً. تشابه الأشكال، هندستها غير الكاملة أو توازيها المؤكد، أو الوضع الإيقاعي للعلامات، عودتها المستمرة، توازيها أو اصطفافها الظاهر. الرشاش والكتابة بخطوط لامقروءة في الغالب، حيث تأخذ اللوحة مظهر شيء سبق استعماله، صفحة أو جدار أو صورة سوق محروق انبثق فجأة من الذاكرة، يبدو حيا، يأكله الصدأ، متسخا، كأنه يتنفّس من جروحه، من تحت طبقاته، حتى يغذ مجهولا من شدة ألفته، يصبح الفضاء شذريا، عليه آثار مخلّفات الإنسان، إنسان ما، عابر ووحيد.

الرمادي ليس لونا. إنه خليط من البياض والسواد. وهما معا في «لسان العرب» يدلاّن على الإنسان، كالحديد والخشب، كما يدل الفحم على الكتابة والرسم وبقايا الأثر والتصوير وغيرها، والرماد علامة على تجربة حدّية لشيء كان ولم يعد، شبيهة بكائن يتألم، لكنه يتألم بحب، بين استحالة أن يسترد نفسه وأن يكون ما أصبح عليه، الرماد لغة الأحلام والأعماق التي لا تجفّ، تضم إليها كلّ التجارب الإنسانية الحية في الثقافات الكونية المتنوعة التي تعبّر عن الغامض والمكتنف بالأسرار بلغة متقشِّفة ، كما نشاهد ذلك في التجارب الفنية القديمة، في الشرق، عند الفراعنة والصينيّين القدامى، وفي البوذية والطاوية والشّامانية والسحر الأفريقي والصوفية والقبّالية، التي كانت تعتمد على التقشف والزهد في المواد المستعملة دون أن يمنعها ذلك من التعبير عن العمق الإنساني وعن وحدة الوجود والعلاقة بين الواحد والمتعدّد، بشكل قلّ نظيره، ربّما كانت هذه الموادّ المهملة تعنيك أكثر من المواد الاصطناعية، الباردة التي لا ذاكرة لها، وربما تعلّمت منها ومن بساطتها الشيء الكثير، لأنها مُهانة، لكنّها قلقة وشغوفة.

هذه أمور أقصت من الرسم كلّ ما يساهم في تحديد معناه، ودفعتك إلى إعادة النظر في لغتك التشكيلية. ألْغت المادة اللون التعبيري بالمعنى المألوف. ألْغتْك بدورك أنت وحوّلتك إلى جرّاح بعيد عن أثره، عمّا يفعل. هذا الإلغاء ترك فنّك لنفسه وترك للمادّة القدرة على الانبثاق أمام عينيك، صارت هي التي تملي عليك ما تملي، تشتغل عليها بنعومة عجين يختمر، تمزّقها أو تحرقها، تحفرها أو تعنّفها.

المواد وحمولتها العاطفية

في أول عملية، الوحيدة ربما، التي تقتضي إدخال الأشياء المجمّعة إلى المرسم، المكان الذي تعي فيه الموادّ، الأشكال والألوان قدراتها، حمولتها العاطفية، إمكانات تشاركها وامتلاكها لغة مستقلة، تضع عليها العلامة أو البصمة، يُجتثّ الشيءُ من العالم الكمّي للاستعمال، يأخذ مكانه بعد مباغتته في غفوته النفاياتية في مجرى طوفان نهر الوجود. كانت صنعتُك تقتضي تثبيته بِحُرّية نادرة في مكانه المحدّد تبعا لقاعدة مجهولة، قاعدة تُمليها اللعبةُ نفسُها وهي تُلْعبُ في استرسال العمل ومنطق المغامرة، ليصبح علامة بين عشيرة علامات، يتقاطع ويتعارض مع أشياء أخرى كآثار أقدام على عفر الطريق، تعيِّنُ في تقطيعها الفريد حضور كائنات بشرية، تشبه في تواضعها واستغلالها، في سوء معاملتها وإقصائها، بشرية محرومة من اسمها ومن لغتها، مجتمعة في فضاء، تتكلّم لغة غائبة، أو محايدة، لكن حسّاسة، مؤثّرة، كأنها صادرة عن حشد تائه منقطع عن الواقع والتاريخ، هنا أو هناك، في هذا المكان أو ذاك، في فلسطين أو العراق، في سرايّيفو أو الكويت، في لبنان أو دارفور، وغيرها، أن تكون شاعرا مترحِّلا، ينشد لتماثيل بوذا المفجّرة، للُؤي صبح أو جميلة الهمّاش أو للشعب الذي يعيش بين أحضانه أو الذي يعيش في مخيّلته، ما العجب - يقول طابييس - في أن أبحث عن صداقة الكل، الناس والحيوانات، الأشجار والأحجار؟

من هنا كان معرضاك «جنين،» و«ثلاثة وثلاثون يوما في لبنان» / أو «قانا، نهارئذ»، ومعرض غزة نهاية شهر مارس في الدار البيضاء،لم تكن ردة فعلك انفعالية أو فجة مباشرة، إنما كانت بحثا عن لون العالم قبل أن تشوّهه ثقافة تحقير الآخر وعدم اعتباره، أي بحثا عن لون باطني، والمادة، من بين أشياء أخرى، تعلّمك أنه انطلاقا منها يمكن بلوغ مستويات أخرى: المستوى الاجتماعي، السياسي، الإثني وغيرها. فإن ترسم، يعني طريقة مغايرة في التفكير في الحياة، أكثر من تأمّلها، يعني تجلّي إرادة إدراك الواقع، حفره، المساهمة في اكتشافه وفهمه،أي إعادة خلقه لأنه لا وجود للواقع إلاّ عندما يمسي جزءا من الشعور، يذوب في اللوحة كالماء ونسبة النور والظل. في حالات معينة، في سبيل الدفاع عن قيم إنسانية أصيلة، يتعيّن على الفنان أن ينضمّ إلى الآخرين، إلى المغلوبين منهم، وعندما يعود إلى عمله، عندما يرسم، فإنه يستمرّ في الصراع ذاته، يقحم في رسمه مجموع مشكلات بلده، آلام أهله، تجاربهم الأليمة، ضيقهم وكربتهم. لأن الفن يريد أن يعيش الحقيقة وأن يكون أسلوب حقبة جديدا.

 

حسان بورقية




 





بورقية داخل مرسمه





محاولة لاستنطاق التراب واستخدامه كخامة أساسية





الإبداع كامن في مكان قصي في الإنسان. في النزول لطبقات الموت عبر الرماد





إلغاء اللون بمعناه المألوف وإعادة النظر في كل مفردات اللغة التشكيلية





جزء من شعور الفنان يذوب في اللوحة كالماء ونسبة النور والظل