الطيب صالح.. وداعا.. الطيب صالح والموسم الخالد

الطيب صالح.. وداعا.. الطيب صالح والموسم الخالد

كيف استطاع الطيب صالح أن يحرز هذه المكانة المتميزة في عالم الرواية العربية, بل والعالمية؟ ما الذي جعل موسمه إلى الشمال يجد حيزاً بين أعظم مائة رواية في العالم? ما الذي جعل المهتمين بعالم الفكر والفن والإبداع يرشحون الطيب لجائزة نوبل أخيراً?!

كيف وجدت موسم الهجرة إلى الشمال سبيلها إلى دار النشر العالمية بنجوين قبل بضع سنوات? تلك الدار التي يعتبر مجرد اختيارها لنشر كتاب معين خير شاهد على تميز الكتاب وكاتبه، بل وأنها أضحت بصمة تميز تعبر عن الاعتراف بقيمة الأثر الذي يتركه الكتاب المنشور على جمهور القراء عالمياً. باختصار أصبحت موسم الهجرة إلى الشمال على خارطة العالم الثقافي بعد أن احتلت مكانها في سلسلة بنجوين.

وقبل أن تجد الموسم مكانها في سلسلة بنجوين كانت قد احتلت حيزها في كتاب إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية (1993)، كان الطيب، رحمه الله، فخوراً جداً باهتمام إدوارد سعيد به. سمعته أكثر من مرة يقول: لقد خصّني بل شرفني إدوارد سعيد بحيز وافر في كتابه العظيم الثقافة والإمبريالية. سمعته أيضاً بتواضعه المعهود: كل ما أرجوه أن أكون عند حسن ظنه وإعجابه!

يعلق إدوارد سعيد على موسم الهجرة إلى الشمال قائلاً: إنها أنموذج رائع، بل خطاب محكم للرد على خطاب الاستعمار، إذ يعتقد إدوارد سعيد أن خير رد على خطاب الاستعمار هو خطاب مواز يستطيع النفاذ إلى ذلك الخطاب، وعبر عن ذلك إدوارد سعيد نفسه بعبارة اكتسبت شيوعاً مميزاً في المشهد الثقافي العالمي وهي: Write Back، أي الرد بالمثل على خطاب الاستعمار تجنباً لما يمكن أن نقع فيه من سلبية الرد بسباب أو شتيمة، أو كما يقال باللغة الدارجة ردح لا يُغني ولا يسمن من جوع في النهاية، إذ لا يتعدى تأثيره فش الغل أو ما يسمى بالإنجليزية (Fantasy release) ينتهي مفعول التعبير فيه بانتهاء التعبير عنه، دون أن يحدث فعلاً موازياً للفعل الأصلي، وكأن أدوارد سعيد هنا يذكرنا بنظرية نيوتن، أن الرد أشبه بفعل مساو للفعل الأصلي في المقدار ومعاكس له في الاتجاه!

ضد الاستعمار

وفي سياق التعليق على موسم الهجرة إلى الشمال يقول إدوارد سعيد: إن الطيب صالح نجح بامتياز في كتابة رواية تتضمن خطابا موازيا لخطاب الاستعمار الذي قدمه الروائي جوزيف كونراد في روايته «قلب الظلام» التي تعد أشهر رواية خاطبت الاستعمار (1902).

وكيف ذلك؟ قلب الظلام كما هو معروف، رحلة الاستعمار من الشمال إلى الجنوب: من لندن وبراسل إلى الكونغو. موسم الهجرة إلى الشمال رحلة المستَعْمَرْ من الجنوب في السودان إلى الشمال في لندن، أي أنها رحلة معاكسة تعكس تاريخ الاستعمار وممارساته. في رواية يقوم مصطفى سعيد بمسرحة أحداثها أمام الجمهور الذي ينتمي أصلاً إلى الاستعمار. وكأن مصطفى سعيد يقول لأكبر قوة استعمارية في التاريخ: هذه بضاعتكم ردت إليكم فلتشاهدوا ما فعلتم بنا عبر تاريخكم، إن كان لديكم النية في التعرف على تلك العلاقة التراجيدية التي اخترتم أن تربطنا بكم. والقراءة المنصفة للرواية تتطلب أن ننظر إلى مصطفى سعيد على أنه وصل الشمال وهو يحمل فيروسا زرعه فيه الاستعمار، وأن اغتصاب النساء الإنجليزيات هو ردة فعل لاغتصاب الاستعمار لوطنه أصلاً، ومن الطبيعي أن يولد فعل الاغتصاب فعلا آخر من الاغتصاب، كرد مباشر أو غير مباشر على الفعل الأصلي، يدعى في أبسط حالاته مقاومة، أو دفاعاً عن النفس.

وفي كثير من المناسبات نجدالطيب صالح يشدد على أهمية الدور الذي يلعبه مصطفى سعيد كمدخل لقراءة شخصيته، في الرواية كي لا يذهب القارئ مذاهب شتى في تأويل شخصيته ولكي يبعدنا عن اختزال دوره إلى مجرد صورة عبثية بالجنس. في إحدى العبارات المكثفة، وهي ممارسة تذكرنا بما يقوم به الراوي في قلب الظلام. يقول مصطفى سعيد: جئتكم غازياً. لا يخفى علينا أن هذه العبارة وغيرها من العبارات المشابهة في الموسم تلخص تاريخ المواجهة بين الشرق والغرب. يجعلنا الطيب هنا نتصور مصطفى سعيد يقف أمام الجمهور الإنجليزي في أحد مسارح لندن العريقة مخاطبا الحضور، إن مسرحية الغزو الاستعماري ستعرض عليهم ليشاهدوا بأنفسهم ما صنعت أيديهم عبر التاريخ.

الحقيقة والأكذوبة

ومن المشاهد الدرامية المؤثرة في الرواية مشهد المحكمة عندما يقف مصطفى سعيد مخاطباً المحكمة: مصطفى سعيد أكذبوة اقتلوه. مثل هذه العبارة المكثفة لا يمكن فهمها إلا إذا تلقت تأويلاً في سياق تاريخي تنبع الرواية منه وهو المواجهة مع الشرق، التي اختار الغرب أن تكون رومانسية، لهذا تستلزم قراءة مشتقة من عبارة أخرى مشابهة، وهي أن عطيل أكذوبة وأن مصطفى سعيد ليس «عطيل». بهذا يوضح لنا مصطفى سعيد الفرق الجوهري بينه وبين أقرانهن من السلف الذين وجدوا أنفسهم في الغرب مبهورين بتفوقه وفوقيته فارتضوا بالعيش على الهامش أو على رومانسية الحب، كما هي الحال عند عطيل.

ومن ميزات الرواية التي ترقى بها على مثيلاتها من الروايات العربية المشابهة أنها قامت بمسرحة المجابهة بطريقة مقنعة لا لبس فيها، يتساوى فيها أطراف الصراع في ميدان المواجهة، فهما أنداد على المسرح. ماذا فعل على سبيل المثال أو المقارنة كل من توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق»، ويحيى حقي في «قنديل أم هاشم» وسهيل إدريس في «الحي اللاتينيى»؟ جميعهم حققوا انتصارات الشرق في المواجهة بطريقة ميتافيزيقية أي أن الانتصار يتحقق قبل أن يبدأ فعلاً وأن الهوة بين الغرب والشرق تتمثل في شعور الشرق بتفوق الغرب على شرقه إذ يجد نفسه محاصراً بشعور قوي بالنقص، يسد فراغه برومانسية تنتهي إلى ميتافيزيقيا تخرج بالشرق من التاريخ وتعيده إلى المربع الأول، إلى بداية المواجهة ويعود أبطال تلك الروايات المذكورة إلى شرقهم راضين من الغنيمة بالإياب، مرددين عدنا والعود أحمد. على عكس مصطفى سعيد الذي يعود مثخناً بجراح التجربة ومثقلاً بأعباء المواجهة، وكأن أوديسيوس يعود إلى أثاكا ليجد في جعبته ما يستحق الفعل الروائي.

محاكاة التاريخ

ذكرت أمام الطيب مرة أن الموسم يمكن أن يخضع في تأويله إلى فكرة أرسطو المشهورة في المحاكاة وهي أن المسرحية محاكاة لحدث. أرضاه التعليق بل أبهجه، وقد ذكره فيما بعد في أكثر من مناسبة. رحلة مصطفى سعيد إلى الشمال تحاكي الحدث التاريخي. وتتضمن المحاكاة هنا ليس مجرد سرد الحدث، بل صناعته معكوساً دون التعدّي على مصداقية الحوادث التاريخية، ابتداء من المواجهة في معركة بلاط الشهداء، مروراً باحتلال جيوش ألِنْبي الغازية لفلسطين إلى احتلال جوردون للسودان.

مصطفى سعيد شخصية تلعب دوراً تاريخياً، مرجعيتها ذات جمعية، فهي ليس كما يبدو أحياناً شخصية فردية عبثية تلهو بالجنس مع نساء الشمال. عندما نعت إدوارد سعيد السادات أنه خرج من التاريخ كان يقصد أن السادات انحرف عن المرجعية التاريخية التي يفترض أن يكون منتمياً إليها أصلاً كهوية وجود في التاريخ العربي الإسلامي. فإن أقل ما يقال في مصطفى سعيد أنه دخل التاريخ من الباب الذي كان محرماً على بني قومه دخوله، فالتاريخ عند المستعمر له باب واحد لا يتسع لغيره، ومن يدخله من غيره عليه أن يكون في المعية. هذا ما يتضح من المواجهة بين مصطفى سعيد وأستاذه جون - فوستركين في أكسفورد عندما قال الأستاذ البريطاني لتلميذه العربي الأفريقي مصطفى سعيد إن الجهود التي بذلت من قبيل الإمبراطورية البريطانية في إحضار مصطفى سعيد إلى وطن الإمبراطورية الأم من أجل تثقيفه وتهجينه وجعله لبنة صالحة في وطن الأسياد. هذه الجهود - يعلق الأستاذ - ذهبت سدى مع الأسف. وإذا كان السادات قد خرج من تاريخه ليدخل تاريخ الغير فإن مصطفى سعيد خرج من تاريخ الغير ليدخل تاريخ ذاته الجمعية، من باب يشقه بنفسه ليكون باب المواجهة. وهذا ما لم يفعله أبطال الروايات العربية المذكورة أعلاه إذا ظلوا قابعين في قمقمهم يصنعون مواجهة من الميتافيزيقا خارج أي مرجعية تاريخية.

بقي أن نذكر أو نتذكر أن الطيب صالح هو الروائي العربي الوحيد الذي أحرز كل ما أحرزه من شهرة من خلال رواية واحدة. أي أن الطيب صالح يكاد يكون ظاهرة في سجل الرواية العربية. هذه الظاهرة أصبحت سبباً في تساؤل يطرحه البعض أحياناً بحسن نية: هل تكفي رواية واحدة مهما بلغت قيمتها وشهرتها أن تقدم صاحبها على أنه روائي عظيم الشأن؟

برز هذا التساؤل بشدة وبكل حدة في اجتماعات لجنة التحكيم التي كانت تنظر في القائمة التي تضم مرشحين لجائزة الرواية العربية التي يتبناها المجلس الأعلى للثقافة في مصر. وكان الطيب صالح من بين المرشحين. انقسمت اللجنة إلى قسمين قسم يؤيد ترشيح الطيب لنيل الجائزة وقسم يعارض بشدة ترشيحه، اعتقاداً أن موسم الهجرة إلى الشمال لوحدها لا يمكن أن تفي بالغرض، سيما أنه توقف عن الكتابة بعدها. لا أعتقد أن المعارضين كانوا يضمرون سوءاً للطيب صالح، فهو من بين البشر الذين يمتلكون قدرة على عدم معاداة الناس. لكن الدافع من رواء هذه المعارضة هو في اعتقادي خلفية ثقافية تستند إلى معيار الكم، وإلا لماذا لا يبرز هذا المعيار في الغرب وقد بينت في مقدمة كتبتها للطبعة الثانية لدراستي عن موسم الهجرة إلى الشمال على إثر النقاش الذي دار حول الموضوع، كيف أن الروائي ي.م.فورستر اكتسب مجداً روائياً من خلال روايته «الطريق إلى الهند»، وهو في وضع مشابه جدا لوضع الطيب صالح: كتب أربع روايات قبل روايته الأخيرة التي جلبت له الشهرة وانتبه العالم إلى روايته الأخيرة هذه دون سواها.

التحفة الفنية

لست أدري لماذا نتوقع دائماً من روائي ينجح في تقديم عمل روائي أن يستمر في العطاء الروائي، كما يقولون، وكأن على الروائي أن يظل قلمه سيالاً من المهد إلى اللحد. وهذا ما يفسر استفسارنا دائماً عن العمل الجديد الذي ينشغل به الروائي الناجح. وربما يذعن الروائي، في هذه الحالة، إلى توقعات الجمهور: هل من جديد؟ هل من مزيد؟! ربما ننسى أن التعامل مع الكلمة يختلف عن التعامل مع الأغنية، أو مع شاشة السينما، أو مع خشبة المسرح.

عندما وقف الطيب يلقي كلمته من فوق مسرح الأوبرا كان الجمهور يعبر عن فرحة لم يسبقها مثيل. همس الصديق الناقد المعروف الذي عارض فوز الطيب في أذني ونحن نقف خلف الطيب نستمع إلى كلمته قائلا: «الطيب بيهجص» كان ردي عليه أن الطيب يقرأ علينا رواية جديدة لم تنشر من قبل. فعلاً كانت كلمته قطعة نثرية جميلة فيها كل بساطة الطيب وتلقائيته الروائية. والمعروف أن الطيب يحدثك وكأنه صوت راو يطلع عليك على التو من رواية غير مكتوبة.

عندما كنا نستقل الحافلة التي تنقلنا من الفندق إلى دار الأوبرا لحضور احتفال الجائزة التي لم يعلم عنها إلا ساعة إعلانها، قلت للطيب في سياق حديثنا: صديقك إدوارد سعيد أسطورة جميلة في هذا الكون فرد على الفور: ستزداد جمالاً مع الأيام، طبعاً كان تواضعه الشديد يحول بينه وبين تصوره أنه هو الآخر كذلك.

 

محمد شاهين