العربي.. قبل نصف قرن.. ما هو نصيب المواطن العربي من الكتب؟

العربي.. قبل نصف قرن.. ما هو نصيب المواطن العربي من الكتب؟

انتبهت «العربي» في هذه المرحلة المبكرة إلى مشكلة ثقافية لاتزال مستمرة، وهي قضية الطباعة والنشر، ونصيب الفرد من الكتب المطبوعة في كل أمة. وتحدث رئيس التحرير فقال:

«ونحن هنا في بلاد العرب نشكو. وتشكو الهند، وتشكو الصين، والباكستان تشكو، وبرما، وتشكو سيلان. أمم الأرض كلها تشكو. تشكو جميعاً عزة الكتاب. تشكو ندرته. وقدروا أنه على سطح هذا الكوكب يطبع في العام 5000 مليون كتاب. أي كتابان لكل فرد، بما في ذلك أطفال المدارس. وهذه الكتب تنشر تسعة أعشارها بست لغات فقط، هي لغات الأمم المتقدمة. أما سائر الأمم ولغاتها ما بين 2500 إلى 3000 لغة، فلا يكاد يوجد في لغاتها كتب كثيرة تنفع إنسان هذا العصر.

وقدّروا أن ربع العالم تيسر له أن يتعلم ويتقدم، لأن بيده كتاباً وكتباً. وأن الثلاثة أرباع لا تجد الكتاب، فسبيلهم إلى التقدم مقطوع غير موصول.

والأمم التي تصنع الكتب، الأمم المتعلمة، الأمم المتقدمة، التي تملك الألسن الست التي تخرج بها كتب هذا العصر، لا تأبى أن تصنع المزيد من الكتب. لا تأبى أن تطبع بدل المائة ألف من الكتب عشرات المئات من الألف. ولكن.. ماذا تصنع هي بها وثلاثة أرباع سكان هذا الكوكب أفقر من أن يستطيعوا شراء كتاب؟ وزاد في عجز هذه الأمم عن شراء كتاب، زيادة أثمان الكتب بعد الحرب العالمية الثانية. إن الورق الذي كان ثمنه في عام 1939 مائة جنيه، صار ثمنه عام 1951 بالجنيهات 600، وأجر الطبع الذي كان مائة صار 300. وقس على ذلك».

الأقمار الاصطناعية

طغى الحديث في أواخر الخمسينينات من القرن العشرين عن الفضاء والأقمار الاصطناعية وكل ما له علاقة بالكواكب والسيارات والأفلاك. وتحدث د.أحمد زكي، أول رؤساء تحرير المجلة، في مقال مطول عن «وجه القمر». وكان الناس قد عرفوا هذا الوجه وألفوه وتغنوا بجماله وصفائه ونوره. والشاعر عباس بن الأحنف يقول:

يا من يُسائل عن فوز وصورتها
إن كنت لم ترها فانظر إلى القمر

وتولى د. زكي، على امتداد ثماني صفحات بالكلمة والصورة، «فضح» هذا القمر وتمزيق أسطورة جماله الأخاذ. وكتب أن «العدسة المقرِّبة» قد فضحت وجه القمر الجميل، فنحن نراه اليوم بالتلسكوبات فلا نرى إلا قطعة من حجر تدور حول الأرض ثم تدور. وانكشف لنا هذا الوجه، ذو الصباحة، فإذا هو وجه أشبه ما يكون بوجه أرضنا، فيه الصحارى الشاسعة، وسلاسل الجبال المتطاولة، وفوهات تشبه أفواه البراكين ألوف. وهو وجه أقسى من وجه الأرض. ففي أرضنا هذه، الماء والخضرة، ووجه القمر لا ماء فيه ولا خضرة، إنما هو أسطح صماء جرداء.

وجوه حسان

وحديث القمر والوجوه الحسان يجر إلى الحديث عن «تطور الجمال عند العرب»، وهو المقال الذي كتبه د.صلاح الدين المنجد، التراثي المعروف ومدير معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية آنذاك.

تحدث د. المنجِّد عن الجمال وحب الجمال في هذا المقال بصراحة وبشيء من الجرأة، فقال: «أحبّ العرب، في مختلف عصور تاريخهم، المرأة الجميلة. تغنوا بها. وخصوها بقسم كبير من شعرهم ونثرهم.. ومنذ فجر الإسلام نجد الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم يمجّد الجمال، فيوفد إلى الملوك مَنْ حَسُنَ وجهه، ويقول: إن الوجه الحسن يورث الفَرَج، وأن من آتاه وجهاً حسناً وخُلقاً حسناَ واسماً حسناً فهو من صفوة خلق الله».

ومن الأمثلة التي يوردها الكاتب، «عائشة بنت طلحة»، التي أوتيت جمالاً بارعاً ضُرب به المثل، وتزوجت «مصعب ابن الزبير»، وكان هو أيضاً من أجمل الرجال. «وكانت عائشة تظهر محاسنها ولا تخفي وجهها وتبرز للرجال سافرة، فعاتبها زوجها مصعب على إبراز وجهها، فقالت: إن الله وسمني بميسم جمال، فأحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلي عليهم. فسكت مصعب، ولم ترض عائشة أن تخفي جمالها، وهي بنت طلحة صاحب رسول الله، فظلّت كذلك طوال حياتها، ملتزمة الأدب والعفة، مفتخرة بجمالها على النساء».

وينقلنا حديث الجمال إلى الأغاني العربية، حيث نقلت «العربي» فقرة عن مجلة «الصياد» البيروتية، يتذمر فيها الشاعر «سعيد عقل» من «أغانينا المريضة» ولا يتهم إسرائيل بأنها تقف خلف هذا الانحدار!

«ثمانية وتسعون في المائة من الأغاني التي نسمعها هذه الأيام سواء في الإذاعات أو في الأندية هي من الصنف الذي يبعث على الخمول.

لا نريد أن نقول إن إسرائيل - الدولة الوحيدة التي من مصلحتها تفتيت حساسيتنا، وبالتالي عنفواننا ليسهل عليها غزونا ثانية ذات يوم - هي التي تمول معظم هذه الأغاني. لا، وإن ذهب قلمنا إلى شيء من هذا كنا أول من يتهمه بأنه أخذ يغوغئ مع المغوغئين.

ولكننا نؤكد أننا إن أبقينا على هذا النوع من الأغاني المريضة دمرنا الروح العربي الطموح. الغزل؟ إنه ينبوع قوة إن نحن عرفنا كيف نملأه رجولة وشهامة».

وكانت شكوى الشاعر عقل من انحدار الأغنية يومذاك والمطربون قلة، وأجهزة الإعلام بما في ذلك التلفاز نادرة، فكيف يحكم المستمع اليوم، وقد «طما السيل حتى غاصت الركب»؟

ومن الطرائف التي تروى عن سعيد عقل، أنه وقف خطيباً في مناسبة انتخابية بلبنان، «وأسهب في الكلام عن النبوغ والإشعاع ومشاركة الله في الخلق والإبداع، ورجع مرجوعه إلى الفينيقيين وسائر أجدادنا الأقدمين وقبل أن يصل كلامه إلى اللبنانيين قاطعه أحد الحاضرين: «يا أستاذ عرفنا قديش بتفهم بدنا نعرف قديش بتدفع!» (د.محمد فرشوخ، أدب الفكاهة في لبنان، 1989، ص279).

واصلت «العربي» في هذا العدد كذلك اهتمامها بالفكر القومي فلخص المفكر المعروف «ساطع الحصري» (1888 - 1968) بعض آرائه في العوامل التي توحد الأمم، فقال: «التاريخ، أهم الوسائل لإثارة الوعي القومي وتقويته في النفوس.. لأنه يكوّن - مع اللغة - أهم دعائم القومية ومقوماتها. فإذا كانت اللغة بمنزلة حياة الأمة وروحها، فإن التاريخ بمنزلة شعور الأمة وذاكرتها. فإن الأمة التي لا تعي تاريخها، تكون شبيهة بشخص فاقد الشعور، في حالة السبات أو الإغماء».

ولقد تعرضت هذه الأفكار للنقد في بعض المجلات الأسبوعية، قال أحدهم «إن ربط القومية بالتاريخ، يؤدي إلى حركة سلفية»، وذلك يخالف بالطبع ما يجب أن نصبو إليه من نهوض وتقدم.

وقال ناقد ثان: «إن التاريخ يجذبنا إلى الماضي، فيحول دون انطلاقنا نحو قيم الحياة»، فيجب علينا أن نحرر أنفسنا من تبعية التاريخ.

ورد الحصري بأنه مع التجديد في كل المجالات. وأنه كتب ونشر قبل عشر سنوات أنه يؤيد التجديد في كل شيء: «في اللغة والأدب، في التربية والأخلاق، في العلم والفن، في السياسة والثقافة، في الزراعة والصناعة والتجارة، في البيت والمدرسة، في القرية والمدينة، في الشارع والحديقة، التجديد في كل زمان، وفي كل مكان.. في كل شيء يجب أن يكون شعارنا العلم».

اللسان المالطي

ويتيح الحديث عن اللغة والتاريخ والعروبة الإشارة إلى مقال قومي آخر، كتبه الباحث محمود الغول بعنوان «عربٌ عن العرب منقطعون».

أما موضوعه فهو «اللسان المالطي»، أو لغة أهل جزيرة مالطة في البحر المتوسط، التي احتار الدارسون فيها.

فقد عاش أحمد فارس الشدياق (1804 - 1888) اللغوي المشهور فيها ما يزيد على عشر سنين، حين كان يعمل مع المبشرين الذين كانوا يقومون على ترجمة «الكتاب المقدّس» إلى اللغة العربية، وألف عن ثقافة الجزيرة كتابا، حيث عمل مدرساً بعض الوقت للغة العربية في جامعة مالطة الملكية، سمّاه «الواسطة في أحوال مالطة».

وقد استعجم العرب لغة أهل مالطة واحتاروا بها، حتى شاع بينهم المثل الشعبي «مثل المؤذّن في مالطة». وقد كتب الشدياق يقول: «أما لغة مالطة فذهب بعضهم إلى أنها عربية فاسدة، وذهب آخرون إلى أنها فينيقية». واليوم وقد مضى أكثر من قرن منذ كتب الشدياق هذا الكلام، يقول الأستاذ «الغول»، «مازال أهل مالطة، عالمهم وجاهلهم، يصرُّ على أن اللغة المالطية ليست عربية بل فينيقية أو كنعانية، على حين أن العلماء في الغرب قبل الشرق يقرون بأنها عربية».

ويضيف كاتب المقال: «جمعني من وقت قريب مجلس مع عالم من علماء اللغات السامية مرموق المكانة، وجرى خلال ذلك ذكر كون اللغة المالطية لغة عربية فقال: «هذا أمر لا ينكره إلا جاهل، أو واحد من أهل مالطة».

وقد خرج العرب من صقلية ومن مالطة في القرن الحادي عشر، وصارت الجزيرة من أهم حصون العالم الغربي ضد العرب المسلمين في البحر المتوسط، «وقد أدى هذا إلى أن تصبح مالطة رهينة في يد النزاع المستمر بين الطرفين».

ويبدو أن هذا الوضع قد فرض نفسه على لغة أهلها كذلك. فقد حرص المالطيون على أن يُعَدّوا مع الأوربيين لا العرب. وهم مسيحيون، ولغتهم تكتب بالحروف اللاتينية، وعندما تقرر تدريسها في المدارس سارعوا إلى وضع قواعد كتابة جديدة لها، اتفقوا عليها.

ويقول كاتب المقال محمود الغول إن اللغة المالطية، «قريبة الشبه جداً بعامية شمال إفريقيا وتشاركها أكثر خصائصها. ومن أهمها أن مضارع المتكلم يبدأ بالنون فتقول «نكتب» بدل أكتب، وكذلك تقول «نكتبو» بواو الجماعة بدل نكتب.

وهذه الخاصة شائعة في شمال إفريقيا ابتداء من الإسكندرية. وهم يُميلون كثيراً من الإلفات الطويلة، مما هو مألوف في لهجة بعض لبنان وفي حلب».

مدينة على سبعة جبال

كان «استطلاع» المجلة عن العاصمة الأردنية عمّان، «المدينة القائمة على سبعة جبال». هذه المدينة التي مرت عليها عدة حضارات، وكانت كل دولة تفتحها تضيف إليها بنايات جديدة.

وفي العهد الإسلامي كان «أبو عبيدة عامر ابن الجراح» أول من عُين عاملاً على سورية بعد فتحها. «وكانت سورية تمتد من البحر الأبيض المتوسط غرباً إلى نهر الفرات شرقاً، ومن حدود الروم شمالاً إلى صحراء سيناء جنوباً.

وقد قُسمت إلى خمس كور (مناطق) إدارية، كل واحدة كانت تدعى بـ «جُنْد». وهي جُند فلسطين، وجند الأردن، وجند حمص، وجند دمشق، وجند قِنَّسرين. وكانت عمّان من جُند فلسطين. أما جُند الأردن فكانت مدينته الكبرى طبرية، وهي العاصمة، ومن مدنه صور وعكا وبيسان وأربد ودرعا».

وسكان العاصمة الأردنية اليوم أكثر من مليون وثلاثمائة ألف نسمة، بينما كان عددهم زمن الاستطلاع أقل من مائتي ألف نسمة،يخدمهم سبعون طبيباً وستة وأربعون من الصيادلة وثمانمائة معلم ومعلمة.

ويقول الاستطلاع إن المدينة في زمن العثمانيين، «لم تكن تشهد سوى مواكب الحجيج وقوافل التجار وأفواج السواح الذاهبين إلى البتراء. وفي عام 1878 استقرت فيها الجالية الشركسية. وفي سنة 1900 بدأ العمل بمد خط السكة الحديدية بين دمشق والمدينة المنورة. وفي اليوم السادس من أغسطس سنة 1902 تم إنشاء الخط بين دمشق وعمان. ومن طريف ما يذكر بهذا الصدد أن البدو علموا بما سيجره عليهم هذا الخط من الخسائر الفادحة، فلا تعود تُؤجّر جمالهم لنقل الحجاج وحمل متاعهم، وستنقطع عنهم الهبات السنوية التي اعتادت الحكومة أن تهدئهم بها، فأخذوا يغيرون على العمال من حين لآخر قصد إحباط المشروع والحيلولة دون إتمامه. ولم تكن هذه بالصعوبة الوحيدة، فلقد تفشت الأمراض في ذلك الحين وفتكت الكوليرا سنة 1902 بأكثر من 400 رجل ممن كانوا يعملون بالقرب من عمّان».

ويبين الاستطلاع ببعض معلوماته القيمة، أن المدينة «بدأت بالانتعاش، وزاد في عمرانها لجوء السوريين إليها بعد ثورة 1925م. ولكن ازدهارها السريع جاء إثر نكبة فلسطين، فارتفع عدد سكانها من بضعة آلاف إلى أن أصبح نحو مائتي ألف حسب إحصاء 1958».

وكان من جملة ما جاء في كتاب ياقوت الحموي «معجم البلدان» عن عمّان، أن «بها عدة أنهار وأرحية - جمع رحى - يديرها الماء، ولها جامع ظريف في طرف السوق مفسفس الصحن شبه مكة، وهي رخيصة الأسعار كثيرة الفاكهة، غير أن الطرق إليها صعبة».

وتذكرني ملاحظة ياقوت هذه عن صعوبة الطرق، بمقال كنت كتبته قبل سنوات، مستغرباً عن اهتمامنا في العالم العربي باستخدام العربات والعجلات في التنقل، وعدم تطوير الطرق وتمهيدها، والاعتماد الكلي على الجمال والخيول والبغال والحمير. وعلى الرغم من أن صور العربات الحربية مألوفة في آثار مصر وغيرها، فإن عربة الحنطور مثلا لم تصبح من وسائل النقل إلا في أواسط أو أواخر القرن التاسع عشر.. فما السبب؟.

 

خليل علي حيدر 




 





صورة القمر البدر وتظهر فيه السهول الواسعة (البحار) وسلاسل من جبال وفوهات البراكين





شارع المهاجرين في عمان الذي يقع في وسط المنطقة التجارية وبه كثير من الفنادق المتوسطة