يوم قُتِلَ السهروردي

يوم قُتِلَ السهروردي

حضر السلطان صلاح الدين كعادته بعد صلاة العصر، كانت حرارة الشمس قد هدأت قليلا، و لم يهدأ العمل في موقع البناء، كانوا يعرفون أن هذا هو موعد قدومه اليومي، حينها يتصاعد توتر مشرف البناء «بهاء الدين قراقوش» إلى قمته، ويتحفز الحرس كأنهم على استعداد للاشتباك مع أسرى الفرنج والعمال العاديين أيضا، تقدم السلطان وحيدا كعادته، صعد بجواده التل الموازي لجبل المقطم، ظل واقفا يتأمل مئات العمال الذين يعملون من مطلع الفجر حتى غروب الشمس، وأعمدة الغبار التي لا تكف عن التصاعد، وتكسو العمال والحفارين والبناة بطبقة هشة بيضاء، حدق السلطان في وجوههم، كانت جميعها متشابهة خلف قناع الغبار الأبيض، هل تستطيع هذه الوجوه المتعبة أن تبني له حصنا آمنا؟ أم أن الخوف الذي يطل من عيونهم سوف يربض في مداميك الأسوار إلى الأبد؟! كان الأعداء كثيرين، الفرنجة في الشمال وبقايا الفاطميين في الجنوب، والحشاشون قادمون من سهوب آسيا، ولا يوجد ملاذ آمن، ربما بعد أن يتم بناء هذه القلعة ، ولكن متى يحدث ذلك؟ كان العمال لا يكفون عن قطع الأحجار من جسد الجبل، حتى أمتلأ بفجوات غائرة كعيون مفزوعة، ثم يجرونها منحدرين بها على السفح، قبل أن يتسلمها منهم آخرون يقومون بنشرها وتسويتها، وعلى الجانب الآخر في اتجاه النيل، لاتتوقف قوافل البغال وهي تجر الأعمدة والكتل الحجرية التي تم اقتلاعها من المعابد الفرعونية قبل أن تحملها المراكب من أعماق الصعيد، كانت القلعة تلتهم كل ما حولها من أحجار ولا يبدو أنها في طريقها للاكتمال.

أقبل بهاء الدين قراقوش مسرعا، تقافز فوق الصخور بقامته القصيرة وجسده المكور، انحنى أمام السلطان يقدم احتراماته، أخذ يسرد عليه في سرعة ماتم إنجازه لهذا اليوم، أشار لأسرى الفرنجة الذين يحفرون الأساسات، وللصعايدة الذين يقيمون الأعمدة الفرعونية وللفلاحين الذين يحفرون بئرا عميقة بحيث تستقي مياهها مباشرة من ماء النيل، ولكن السلطان قال له في صوت باتر:

- أريدك أن تبني سجنا.

لم يستطع قراقوش أن يمنع نفسه من القول:

- سجن.. بالطبع يامولاي سنفعل ذلك، ولكن لم يكتمل أي شيء بعد، لا الأسوار ولا التحصينات ولا أماكن الإقامة و..

قال السلطان في إصرار: ابنه في أي مكان.. لكن ابدأ به أولاً.

ولم يملك قراقوش إلا أن ينحني طائعاً، وأدار السلطان عنان جواده وتحرك منصرفاً، ظل قراقوش واقفاً متحيراً وهو يهتف:

- أي سجن هذا، وأي سجين ينتظره، لابد أنه أخطر عدو يواجهه السلطان.

جمع معاونيه بسرعة، فردوا الأوراق والرقع المرسوم عليها مخططات القلعة وأخذوا يحاولون تحديد أي المواقع لهذا السجن الجديد.

السجين

في تلك اللحظة كان السجين يعبر الصحراء، اختفت من خلف ظهره سهول فلسطين وقبلها روابي الشام ، وتباعدت البيارات وأشجار الزيتون، ولم يبق ممتدا أمامه إلا رمال جافة وصخور قاحلة، متاهة إلهيه يبدو فيها الأفق أشبه بخط رفيع على وشك أن يتبدد، كان يسير في المقدمة راكباً بغلة، وخلفه الحرس فوق جيادهم يتابعونه بعيون ثاقبة، مازال في أواسط العمر، ولكن التعب والانهاك تركت على ملامحه تجاعيد غائرة، طالت لحيته وتمزقت ثيابه، وفاحت من جسده رائحة العطن التي تراكمت في برودة الزنازين، كان قادماً من سجن متوجه لآخر ، لا يفصل بين أسوارهما إلا هذه الصحراء، ولكن أحداً من الحراس لم يكن يرى تلك الابتسامة الراضية التي لا تكاد تختفي من على وجهه، بالرغم الجوع الذي يمضه، والقيد الذي يدمي معصميه، كان سعيدا بذلك العبور الشاق، وبسيره المتواصل على حافة العدم ، كأن روحه القلقة تتوق إلى أفق جديد فيه السكينة والخلاص، كان جسده مثل فلك سابح في السماوات، كل نقطة يقصدها يفارقها، في سعي دائم نحو ينابيع النور والمعرفة.

منذ أن شب في مدينة سهرورد وسط جبال فارس وقد بدأ في الترحال عبر السهول والقفار المختلفة، لا يتوقف إلا في أول مسجد يصادفه، ولا يتمهل حتى ينجذب إليه الناس، كانوا قد ألفوا هؤلاء الرحالة الذين لا يلبسون إلا خرقاً من الصوف، ولا يأكلون إلا النزر من الطعام، وتكسو وجوههم هالة من المهابة لا تخبو ، لكن الصحراء التي يعبرها الآن كانت مختلفة، لم ير مثل هذا التيه الموحش، ضاع فيه قوم موسى أربعين عاماً أو تزيد، لكنه كان موقناً أنها ستؤدي به حتماً إلى نهاية العالم، حيث تظهر أمامه «جبال قاف»، إحدى عشرة قمة تحيط بالعالم من كل الجهات، ولايمكن اختراقها إلا بعد أن تشفى النفس وتتحلل من كل الأوزار، وتحل في الكون الأعظم.

من الخلف سمع صوت أحد الحرس وهو يصيح:

- ياشيخ سهروردي.. سنتوقف ونقضي الليل هنا..

كان الأجدى أن يسيروا في برد الليل، ويرتاحوا عند قيظ النهار، ولكن من يجازف بالسير في ظلمة مثل هذه الصحراء، كانت الشمس تغرب، ولا يوجد إلا بضع من أشجار السدر المتناثرة، لا تصلح كمأوى، ولكنها كافية لتشعر المرء بالأمان وسط هذه الفلوات المفتوحة، ساعد الحرس الشيخ على النزول، فكوا قيود معصميه، وانتهز واحد من الحراس فرصة نزول العتمة وتجرأ على النظر في وجه السهروردي أخيراً، قال له:

- مطلوب منا أن ننقلك إلى سجن آخر، لا أن نميتك جوعاً، فهل تكرمت وقبلت بعضاً من زادنا ياشيخ.

قال: بوركت ياولدي.. تكفيني كسرة من خبز ورشفة من ماء

قال الحارس : ولكن هذا ليس كافياً لرحلة بتلك المشقة.

قال السهروردي:

- الجوع ليس مشكلة ياولدي مادمت أديم التفكير في هذا الملكوت، فكلما خضعت نفسي، وسهرت الليل خاشعاً ومتملقاً لله، تأتي إلي خلسات لامعة كالبرق، فتأخذني إليها، تغيبني فيها، فتبسطني ثم تطويني.

لم يفهم الحارس شيئاً، بدت كلمات الشيخ صعبة المنال بالرغم من رقتها وعذوبتها، بل وبدا بريئاً بعض الشيء بالرغم من يقين الحارس من أنه مذنب ويستأهل العقاب، فضل أن يبتعد، وترك الشيخ وحده يتأمل هبوط الليل.

مازال هناك الكثير من الفلوات على السهروردي أن يقطعها قبل أن يصل إلى تلك المدينة البعيدة «القاهرة». تباعدت الشقة بينه وبين جبال فارس، في البداية هبط إلى أصفهان ليتعلم دروس الفقه وأصول الشريعة، واتسع عقله في أروقة المساجد وسط الأرفف المزدحمة بعشرات الكتب والمخطوطات، وحتى أثناء تعليمه لم يكن يكف عن السير والتجوال فقد كان أستاذه الفخر الرازي هو شيخ المشائين، لا يكف عن المشي بين الأروقه وهو يحدث تلاميذه في أعوص المسائل الفلسفية، تماما كالأستاذ الأكبر ابن سينا الذي استمد أسلوب فلسفته من أرسطو المعلم الأول، من هذه اللحظة تعلم أن المعرفة لا تتراكم إلا من خلال الحركة، وكلما زادت المعرفة تضاعفت الأسئلة، وكل إجابة تولد سؤالا جديدا، وأعيت مساجلاته أستاذه فهتف به صارخاً:

ـ ابحث عن أسئلتك في هذا العالم الواسع، ولن يعطيك إلا أجوبة غاية في الضيق.

من أصفهان صعد إلى هضبة الأناضول، تقابل مع المتصوفة في «ديار بكر»، وتعلم منهم أن يقضي الليل كله ساهراً يرصد إشارات الكون ودوران الأفلاك، وفي «مارديني» انقطع للعبادة في صوامع الزهاد، وشارك الدروايش في ابتهالات الليالي الطويلة كلما بزغ قمر جديد، ثم انحدر بعد ذلك مع مياه نهر الفرات التي تندفع تياراته في اتجاه واحد، تجول في ساحات دمشق القديمة التي كانت تعلق جراح حروبها الطويلة مع الصليبيين، وجلس تحت أقدم عمود في المسجد الأموي، التف حوله المريدون والمستزيدون من العلم، ومن هناك وصل صيته إلى حاكم حلب، الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين، طلب منه أن يزوره حتى ينتفع بعلمه ويدخل في رعايته وحمايته، هل كانت استجابته لطلب الملك هي خطؤه الأكبر، غواية مصاحبة السلطان التي جعلته يغير دروب رحلته؟ أم كان الخطأ حين غير خرقة الزهاد بعباءة الحكام؟!

السجن

تأخر الليل ومازالت المشاعل موقدة في موقع البناء، واصل العمال نقل الأحجار وهم سائرين نياماً، وتعالت أصوات غليان مراجل القطران، وانبعث الصهد من أكوام الحجر الجيري التي يتم إطفاؤها بالماء، وظل قراقوش ساهرا وحوله كبار المعماريين ورؤساء طوائف البناء، كان يفكر في السجين والسجن الذي سيبنيه خصيصاً له، من هو؟ واحد من قادة الفرنج، يجب إذن أن تكون الأسوار عالية وسميكة لتقاوم أي هجوم محتمل يقوم به جنود الفرنجة، أم متمرد من بقايا الفاطميين، هؤلاء لا يمكن ردعهم إلا بحفر نفق طويل تحت الأرض يدخلون فيه ولا يخرجون، هذا يتفق وطبيعتهم في الاختفاء، أم فدائي من الحشاشين، الأفضل لهذا النوع أن يكون السجن حاراً وخانقاً، ليتناقض مع جو سهوب آسيا الباردة التي جاء منها، فلا يقدر على التفكير ولا يسعى إلى الهرب.

كان قراقوش يريد إرضاء السلطان، ولكن المشكلة أنه قليل الخبرة في بناء السجون، فعلى الرغم من أنه أنشأ العديد من الأبنية، فإنه لم يكن بينها سجن جديد، فالسجون دائما ماتكون موجودة، جزء من تضاريس الطبيعة، كالجبال والمغارات والأنفاق، راسخة ورابضة ومتجهمة كدأبها منذ آلاف السنين ، لم يقابل معمارياً يزعم أنه أنشأ سجناً من العدم، ربما زاد فيه أو عدل عليه أو أحكم منافذه ، ولكنها كانت دائما موجودة قبله، وسوف تظل حتى ينتهى العالم.

ظل قراقوش يفكر حتى أصبح غير قادر على التفكير، والجميع حوله يتطلعون إليه في صمت، قال أخيراً:

- فلنجعله سجناً واسعاً بعض الشيء، حتى لايظن السجين أن هذا قبره ونهاية حياته، فربما أفرج السلطان عنه، تكفيه نافذة صغيرة في أعلى الجدار، تمنحه بعضا من الضوء دون أن تعطيه الأمل ، ويجب ألا يرى السماء حتى لا تنتابه الرغبة في الفرار والانطلاق، ولتكن الجدران عارية بلا طلاء حتى يحس بمدى خشونتها ويتحسر على نعومة الحياة خارجها، ولتكن الأرض جرداء لتسير الهوام والديدان بين أقدامه فيتعلم منها معنى الضعة والخذلان..

وانطلق الجميع ليجهزوا السجن بالمواصفات التي طلبها.

المدينة

بعد أيام لاعدد لها، وصل السجين إلى مشارف القاهرة، كان الظلام سائداً، ولكن المدينة بكتلها العملاقة بدت كحيوان رابض في جوف الظلمة، تحدق فيه مصابيح واهنة البريق، وترتفع ظلال عشرات المآذن، ملأ السهروردي صدره من عبق المدينة، خليط من روائح الرطوبة ومياه النيل والبرك والشجر ونفايات الناس، أخيرا وصل إلى المدينة التي سمع عنها كثيراً والتي ستكون نهاية مطافه، سيتمشى في أروقة الجامع الأزهر حتى تتعب قدماه، ثم يجلس في ركن من أركانه ليناقش أئمة المذاهب الأربعة ، سيصعد للتكايا المتناثرة على جبل المقطم، ويتأمل حركة الأفلاك ويعرف كيف يستدير الزمن، كان يجب أن تكون الرحلة بهذه المشقة حتى تستحق عناء الوصول لهذه المدينة، كان متأكداً أن محنته هذه سوف تزول وتفك القيود من حول معصميه فور أن يراه السلطان صلاح الدين، سيتأكد من صدق كلماته ويدرك كذب الوشاة وافتراءاتهم عليه، وسيمنحه الحرية، وفرصة العيش في هذه المدينة، اقترب منه الحارس مرة أخرى، كان يمسك في يده عصابة سوداء، قال باللهجة المعتذرة نفسها:

- المعذرة ياشيخ سهروردي، إنها الأوامر ، يجب أن أعصب عينيك قبل أن تدخل إلى المدينة.

قال الشيخ في شجن حقيقي: تريدون أن تحرموني من الرؤية التي طالما تشوقت إليها.. لا بأس سوف أرى المدينة بقلبي.

الشفاعة

في هذه الليلة لم يستطع السلطان صلاح الدين النوم، كان متعباً، أحس أنه خاض من الحروب ما يساوي أعمار عدة رجال مجتمعين، وفي كل مرة كان يعتقد أنها الحرب الأخيرة، ولكن اللهب الكامن تحت الرماد كان يتقد من جديد، كل ما يتوق إليه هو أن ينتهي من بناء هذه القلعة، حتى يهجع بين أسواره التماسا للأمان، لعله يظفر بليلة من النوم العميق، ولكن كيف يتحقق هذا، وتلك الجيوش الجرارة لاتني عن التجمع في سهول أوربا الباردة، منذ أن هزمهم في حطين، وطردهم من القدس، وهم لايكفون عن الصراخ طلباً للثأر، سمع صوت طرقات على الباب، من الذي يجرؤ على القدوم لغرفته في هذا الوقت المتأخر، لابد ان هناك كارثة ما قد استدعت إقلاق راحته، نهض واقفاً، فتح الباب لم يظهر الخادم المخصص لخدمته، كان القادم شاباً هزيلاً أشبه بطيف، يحمل ملامح صلاح الدين نفسها ولكن أكثر شبابا، حدق فيه صلاح الدين في دهشة:

- أيها الفتى الغريب، ما الذي جعلك تترك مملكتك وتتسلل هكذا متخفيا تحت الليل؟

أمسك الشاب بيد السلطان وحاول أن يقبلها، ولكنه أنهضه بسرعة وأخذه في أحضانه، اكتشف أن جسده كله كان يرتجف، كأنه قد عاد طفلاً صغيراً يلتمس الأمان في أحضان أبيه، قال له:

- اهدأ يابني.. أهدأ أيها الملك الظافر.. مازلت طائشاً كالعهد بك، لا أتصور أن تترك مملكتك وتأتي هكذا مهما كان السبب.

قال الملك الظافر: جئت من أجل إنقاذ حياة إنسان يا أبي، شيخ جليل، استقدمته إلى حلب ومنحته الأمن والرعاية، ويجب ألا أنكث بوعودي.

قال السلطان من بين أسنانه: وانظر ماذا كانت نتيجة ذلك.

أشار السلطان إلى أحد أركان الغرفة، كانت هناك منضدة مكوم عليها عشرات من اللفائف، من كل حجم ونوع، من الجلد والورق وقماش الكتان، دوائر متراصة، كأنها عيون غائرة تحدق فيها دون كلل، قال السلطان:

- هذه هي الشكاوى التي وصلتني من كل مكان في الشام، من كل شيخ وعالم وفقيه، من المساجد والمدارس والزوايا وحتى التكايا.. كلها تتهمه بالكفر والتجديف.

- لقد استدرجوه يا أبي، نصبوا له الفخاخ من خلال الكلمات.

- تقول كل الشكاوى إنه كفر وأنكر أن النبي محمد عليه الصلاة والسلام هو آخر الأنبياء..

قال الملك الظافر متأوها: لم يفعل.. لقد ناظره علماء حلب ودمشق في كل مسائل الفقه والمنطق والكلام، وتفوق عليهم جميعا بسعة علمه وحسن إدراكه، وقد أوغر صدورهم أنه أظهر جهلهم أمام العامة، لذا فقد استدرجوه إلى مناظرة مفتوحة في جامع حلب، وسأله أحدهم «هل يقدر الله على أن يخلق نبياً آخر بعد سيدنا محمد، ولم يجب الشيخ إلا بقوله .. «لاحد لقدرته».

قال السلطان: تلك الإجابة الغامضة هي التي أثارت كل هذه الفتنة.

- كان يتكلم عن قدرة الله التي بلا حدود.. ولكنهم فسروا الأمر بقولهم إن السهروردي يجيز خلق نبي آخر بعد خاتم الأنبياء.. اجتمعوا وكتبوا محضراً بذلك، أرسلوه إلي، وعندما لم أجد موجباً لفعل أي شيء ضده، قاموا بإرسال كل هذه الشكاوى إليك.

قال السلطان: إنها ليست مجرد شكاوى، إنها أعراض فتنة زرعت في الأرض وكان علي استئصالها قبل أن تعصف بنا جميعاً، من أجل هذا استقدمت هذا الشيخ إلى هنا، لقد وقعت في خطأ كبير في زمن لايحتمل الأخطاء.

قال الظافر: عدني أنك لن تصدقهم يا أبي.. لقد غير هذا الرجل حياتي وجعلني أرى الكون كما لم يكن من قبل، لا تسلبه حياته.

قال السلطان: ليتني أستطيع أن أعدك بذلك يابني.

ساد الصمت، تأمل كل واحد منهما الآخر وهو يعيد حساباته، كان المظفر يفكر في أي ملك سيكونه لو لم يستطع الوفاء بوعد الأمان لهذا الرجل، وكان السلطان يفكر في أن ابنه الغض لايدري أنه قد داس على عش الدبابير بقدميه، وأن المشايخ لن يكفوا عن الطنين إلا بعد أن يسقطوه من فوق عرشه.

المواجهة

عندما شاهد قراقوش السجين، كان أول شعور انتابه، أنه لم يكن يستحق كل هذا العناء، لا زنزانة ولا جدران، تكفيه حفرة صغيرة يوضع فيها حتى يتعفن دون أن يجرؤ على أن يخطو خارجها خطوة واحدة، ولكن عندما استقر الشيخ وفكوا القيود وخلعوا الغمامة، بدا وجهه المتعب بوضوح ، وتساقطت ذرات الرمل العالقة بلحيته، وشع ذلك الألق الآخاذ من عينيه النافذتين، دبت في قلب قراقوش مشاعر من رهبة غير مفهومة، كان يريد أن يرحب به ساخراً، ويصفعه ثم يركله شامتاً، ويذيقه مرارة السجن من اللحظة الأولى، ولكنه وجد نفسه يرتد من أمامه، يتلمس الجدران وهو في طريقه للخارج، كانت لاتزال طرية، لم تتماسك أحجارها بعد، وأدرك أنها لن تصمد أمامه طويلاً..

ولكن السلطان عندما جاء في صباح اليوم التالي، ولم تكن الجدران قد انهارت بعد، وكان السجين نائماً من شدة الإجهاد والجوع، وتعجب قراقوش من اهتمام السلطان بهذا الرجل، فتح باب الزنزانة وحاول أن يتقدمه للداخل حتى يوقظ السجين، ولكن صلاح الدين أشار له أن يبقى خارجاً.

أفاق السهروردي على صوت الجلبة، ولكنه لم ينهض من مكانه، اتخذ فقط وضعية الصلاة حتى لايبدو شكله متكوماً ومتخاذلاً أمام أحد، تأمله السلطان قليلاً، هل هذا هو الإنسان التي تحدثت عنه كل هذه الشكاوى؟ أم أن هذا مجرد بقاياه؟ ، فكر في نفسه: يا له من جسد ضئيل قادر على إحداث فتنة كبرى، حدق الشيخ فيه أيضاً، أدرك أن السلطان شخصياً هو الذي يقف في مواجهته، ولكن لم يبد عليه أنه يأبه بذلك، قال في هدوء:

- لم تلق علي السلام، ولم تعرفني بنفسك ياسيدي.

أحس السلطان بالغضب، هذا الشيخ النكرة يدعي الجهل به، هتف من بين أسنانه:

- ربما كنت الوحيد بين العالمين الذي لا يعرف بالسلطان صلاح الدين.

لم يطرأ اي تغير على وضعية الشيخ، لم يحاول النهوض ، ظل جالسا كأنه متأهب للصلاة، قال:

- أراك ولا أشاهدك، فالبصر لا ينقل لي إلا نقاطا ضئيلة منك، ولكني لا أشاهد غير جسدك الفاني، وجبروتك المحدود بقدرة الله الواحد القهار.

قال السلطان في ضيق:

- لا تتعب نفسك بالتلاعب بالألفاظ، لا أحب المتكلمة ولا المتصوفة ولا المتفلسفة، ولا أي هراء من هذا النوع، أنا رجل حرب وفعل، وأنت تقف في طريقي وتهدم كل ما أحاول أن ابنيه.

قال الشيخ: لم أقف في طريقك يوماً، ولكني أحارب الكفر بطريقتي، وقد هاجمت أعداءك من الحشاشين الذين يفسدون ما خلق الله، ويدمرون الوعي الذي خلق لإدراكه

صاح صلاح الدين: ولكنك قسمت الأمة، قلت إن هناك نبياً آخر سوف يجيء.

- تحدثت عن قدرة الله، فالناس في حاجة دوما لمن يضبط أمورهم ويقوم مفاسدهم، ويكون مأمورا بإصلاح النوع، لا أحد يدري عن أي شيء يكشف الزمان.

قال السلطان بصوت عال:

- سأقول لك عما يكشف الزمان، جحافل جديدة من جيوش الفرنجة، في الوقت الذي تشغل فيه أذهان العامة بكل هذه الألغاز ، يفرضون هم في بلادهم ضريبة أطلقوا عليها ضريبة «صلاح الدين»، جمعوا بها أكواما من الذهب، وجنّدوا آلافاً من الفرسان، وصهروا عشرات الآلاف من الدروع والسيوف، لا تنكسر ولا تنثلم، ستجيئ سفن لانستطيع إغراقها، وأبراج لن نقدر على إحراقها، كيف يمكن أن أقابل كل هؤلاء بأمة جعلتها أنت وأمثالك منقسمة على نفسها.

سكت السلطان وهو يلتقط أنفاسه في صعوبة، كان قد عبر عن مخاوفه بشكل علني لم يقدر عليه من قبل أمام أحد ، كان خائفا ومتوجسا طوال الوقت، وبعد كل هذه الحروب لم يعد متيقنا من قدرته على نصر حاسم، قال الشيخ:

- الناس في حاجة لمن يصلحها، لا لمن يقودها لساحة الوغى كالعميان، لاتصرخ فيهم ولكن تحدث إليهم، فالكلمة إذا تم إزكاؤها، وتأيدت بالقدس اهتز لها البدن..

قال السلطان في همس، كأنه يخشى أن يسمع نفسه:

ـ إذا أخرجتك من محبسك هذا، هل تتحدث إليه؟ هل تستطيع أن تصفهم جميعا من خلفي؟

- الله يقدر ولكن قلوب الناس أشتاتا، إما مؤمن وإما كافر، وكلما تجبرت ابتعدوا عنك..

أفاق السلطان صلاح الدين من لحظة الضعف الواهنة التي انتابته، كان يجب ألا يطرح عليه هذا السؤال، كان يجب ألا يكشف عن نقاط ضعفه ومكامن مخاوفه، قال:

ـ لا أعرف نهاية لكل هذا التلاعب بالكلمات، ولكنها كلفت ابني عرشه، ولن أدعها تكلفني معركتي مع الفرنجة.

فتح الرجل فمه دون أن ينطق بحرف، استدار السلطان وخرج مسرعا من الزنزانة، كان قراقوش يسمع أصداء الأصوات الغاضبة وهو يرتجف، سار السلطان حتى أصبح خارج السجن، تحت الشمس الساطعة، نفض صدره كأنما يزيح ما عليه من عتمة ، فكر في نفسه، هذا الرجل لم يخطئ كثيراً، ولكنه جاء في الزمن الخطأ، التفت إلى قراقوش متمتماً:

ـ عجل بقتله.

قال قراقوش في خوف: بودي ذلك يامولاي، ولكني أخاف أن أواجه عينيه.

نظر السلطان إليه، لم يكن هذا قراقوش الذي عرفه، ولم يكن ابنه هو نفسه، كما أنه ليس السلطان ذاته، كان عليه أن يحسم كل شيء حتى لاينهار كل شيء، قال:

ـ لا أحد يريد أن يرى وجهه، أحضر سلكاً وأخنقه من الخلف.

 

محمد المنسي قنديل