تحولات الشخصية في رواية «من أنت أيها الملاك؟»

تحولات الشخصية في رواية «من أنت أيها الملاك؟»

يختار الكوني الصحراء نواةً طبيعية ممثلة لمفهوم الوطن، بما تنطوي عليه من آثار حجرية مقدّسة، وما يكتنفها من ظواهر القحط والجدب، والبيئة الطبيعية التي تندر فيها الواحات والأشجار، فتصبح البيئة ذات مدلول رمزي يمتزج بالعاطفة الداخلية لسكان الصحراء ويدخل أساطيرهم ومعتقداتهم حول الوجود وقيمه.

غير أن الكوني يبدو في بداية هذه الرواية وكأنه يغاير أسلوبه الذي عهدناه وأجواءه الصحراوية، مما طالعناه في مجموعاته القصصية من قبيل: خريف الدرويش، والقفص، ورواياته كالتبر ونزيف الحجر وغيرهما، التي يظهر فيها جوّ الصحراء من السطور الأولى، وحيث يتوقع القارئ مناخ مسار الأحداث التالية. أما روايته: من أنت أيها الملاك، كتاب دبي الثقافية رقم (20)، يناير 2009، فإن الكوني يبدأ بدائرة السجل المدني التي تشغل الأحداث فيها ما يقارب نصف حجم الرواية، حتى إن القارئ ليعتقد أن الرواية كلها تدور في هذا المكان على الرغم من الإشارات الواضحة إلى المكان الآخر الصحراء. ولكن الأحداث لا تنتقل إلى الصحراء إلا فيما بعد بما يشكل نقلة مكانية وعاطفية لدى شخصيات الرواية، فكل منهــا يتأثر بطريقته بهذا الانتقال.

تطالعنا قيمة الجلال منذ السطور الأولى، فالرجل مسّي الذي ينتمي إلى الصحراء، قدم إلى المدينة لتسجيل ابنه باسم «يوجرتن»، الذي يعني باللغة القديمة «بطل الأبطال، أو كبير الأبطال» ص64 ، ومن هنا ينتظم خطّ الرواية، وتنكشف نفسية الأب مسّي وتطلعاته ونظرته إلى قيمة الحياة: تمسّكه بتراث الوطن المتجسد في الكلمة أولاً، وفي الابن ثانياً، فهو من موقعه في الزمن الحاضر يرغب في ربط الماضي الجليل بالمستقبل من خلال محاولة الإمساك بالمستقبل بتثبيته في اسم أو كلمة هي قيد من الماضي وتراث الأجداد، إنه سحر الكلمة وإيحاؤها.

ومن هذه النقطة يبدأ تأزم العلاقات وتصنيف الشخصيات والقيم، لتستمر العلاقات متلازمة في الرواية إلى نهايتها، فالموظف يستنكر الاسم الغريب «يوجرتن»، والأب يتصلّب في موقفه، الأمر الذي يضعهما على طرفي نقيض يمهّد للصراع الذي يسود الرواية بأكملها.

إن معاناة الأب مسّي تدخل نطاقاً غرائبياً، في وقائعه اليومية. فـ«مسّي» يعمد إلى المجيء يومياً إلى دائرة السجل المدني، وكل يوم يقال له: تعال غداً، ومن ثم: تعال بعد أسبوع، ويفاجأ باختفاء الموظف، ومسّي مصمم على الانتظار، التصميم الذي يجعل القارئ يتساءل رغماً عنه: كيف يعيش هذا الرجل؟ أليس عليه أن يتفرّغ لتربية ابنه بدلاً من الاهتمام بالشكليات المنحصرة في الاسم؟ وهذا ما يعترف به مسّي فيما بعد عندما يكاشف نفسه بشأن ابنه: «لم يلتفت إلى حاجاته الحقيقية كإنسان في طور التكوين.

عامله كما عامل ممتلكاته التي اكتسبها بعرق الجبين» ص166. إن أفق التوقعات مسدود أمام المتلقي في هذا القسم من الرواية -الفصول من 1 إلى 20- فـ«مسّي» لا يفارق الرغبة في الالتصاق بالاسم القديم الجليل، ولكنه في الآن نفسه أقرب إلى قيمة جمالية مغايرة هي المعذّب، فهو يغدو معذّباًَ في سبيل ما يراه جلالاً جلال الشكل- ويظهر واضحاً بأنه فاقد القدرة على المبادرة، ومسلوب الحيلة والهمّة، لا يملك سوى الغدو والرواح من المؤسسة وإليها، دون فائدة وكأنه سيزيف والصخرة أمام جبل من العذاب، «كان على الأقدار أن تمدّ في عمر الشقي «مسّي» كي تلقنه الدرس الآخر الذي يقول إن الأسوأ من أن تكون في نظر الأغيار أضحوكة، هو أن تستحقّ في نظر الأغيار الشفقة» ص23. ويبلغ العذاب ذروته عندما تثور حفيظة أحد الموظفين على مسّي فيكيد له كي يسلبه أوراقه الثبوتية، وهكذا يمتزج العذاب بالاغتراب والنفي.

الدخول في المتاهة

ويواصل مسّي ولوج العوالم الغريبة، فها هو ذا «موسى» الرجل الذي يقف مثله منتظراً دوره بشأن قضية مشابهة ويفتح أمامه المزيد من عوالم العذاب، يحثّه من جهة على الصمود، ومن جهة أخرى يثبطه بما يرويه عن الأقبية الغريبة والدهاليز المظلمة والمتاهات.

وفي خضمّ المآزق تتاح الفرصة أمام مسّي ويدعى إلى دخول أحد الأقبية، ليقابل شخصية إدارية قد تساعده على اكتشاف بعضٍ من مفاتيح هذا العالم الغريب في سعيه إلى استرداد حقه، وتغدو قيمة الجلال أكثر بعداً، فهي المرتبطة بالابن والوطن تقع بالتأكيد خارج هذه الأماكن، وبهذا لا يكون من المنطقي أن ساحة القتال من أجل الجلال تكمن في هذا الموضع الغريب، يزيد ذلك غرابة اللوحة التي تتصدر البهو.

ويشاهد مسّي اللوحة «ففي رقعة سماوية اللون، رسمت على طول الجدار، رفرفت تلك المخلوقات الهشة (أو هذا ما تخيل لحظتها) بأجنحة صغيرة، حاملة أبداناً كأجسام العصافير، أو ربما في حجم النحل، لتهيم في ذلك الفضاء الممهور بنتف من عهن ناصع، منفوش، شبيه بقطع السحب العقيمة، فتبدو في ذلك الفراغ أكثر هشاشة وعجزاً، واغتراباً» ص77، ويقول الموظف المسئول: «هؤلاء هم الأطفال الذين لم يكن لهم نصيب من اسم» ص78، إنه إشارة منذ منتصف الرواية بأن يوجرتن ابن مسّي- لن يحصل على اسمه، ولكن ماذا بعد؟

تصوّر لوحة الملائكة من حيث المظهر مشهداً جميلاً في ألوانه وموضوعه، إذ من المتعارف عليه في أغلب الثقافات أن الملائكة بشكل عام موضوع لطيف، ولكن المحيط القبيح المنفّر الذي يؤطّر اللوحة ويحتوي الأب مسّي ينحو بالمتلقي إلى ترك الحيادية والميل إلى الشكّ في إطلاق الحكم الجمالي على الموقف.

إنّ القسم الأول من هذه الرواية تخييلي غرائبي، إذ لا يعقل أن يقف طاقم كامل من الموظفين والإداريين ضد رجل من أجل مجرد اسم، وأن تتطور الأحداث لتجريد مسّي من اسمه بموقف مفتعل وفي جوّ من الاضطراب والرعب، أمّا القسم الثاني من الرواية فأكثر واقعية ويعود فيه إبراهيم الكوني إلى ما عهدناه من أجواء الصحراء، مع عودة بطله مسّي إليها. وهنا تبدأ رحلة أخرى من تفاعل مسّي مع الإحساس بالجلال. إن الاسم «يوجرتن» الذي وحّد فيه مسّي الوطن والابن سيتهاوى، وكأن اختفاءه من دائرة السجل المدني كان قراراً بتفتيته وتلاشيه، لتمضي فترة طويلة قبل أن يكتشف مسّي أن الوطن في واد، وابنه في وادٍ آخر، وأن الاسم لم يكن وسيلة لجمعهما معاً.

لقد ألفنا في روايات الكوني السلطة الطاغية للمكان، غير أننا في هذه الرواية نجد المكان قد تخلى عن دور المحور الذي تدور حوله الأحداث، ليكون المحور هو شخص مسّي الذي سلّط الراوي الضوء عليه أثناء السرد فنرى بعينيه وأفكاره الداخلية ما يجري.

العودة إلى الصحراء

تسير الأحداث التالية لعودة مسّي برفقة ابنه إلى الصحراء في اتجاه يبدو طبيعياً ونتيجة لما قبله. فقد استردّ مسّي ابنه من محاولات الاعتقال، واستردّ نفسه أيضاً من محاولات الطرد والتهميش، ثمّ حصل بواسطة «موسى» الرجل الذي التقاه في دائرة السجل المدني، على فرصة للعمل في الصحراء، بما يسدّ رمقه: «لا مفرّ من العودة إلى الصحراء إذا شئنا أن نستعيد الهوية التي لا تحتاج إلى شهادة مدونة في قرطاس» ص163.

ولكن أين المرأة من كل ما يحدث؟ لقد صرّح مسّي في غير موضع بأنه فقدها، «توفيت الأم، متأثرة بهمّ حرمان الولد من الاسم» ص166. لقد فقدها بقدومه إلى المدينة، فكأنه فقد الصحراء، وهو بعودته إليها يحاول ردم الهوّة التي فصلته عنها، وذلك عن طريق بثّ الأفكار الجليلة عن الوطن الصحراء في وعي ابنه الذي بات شاباً يافعاً.

كانت المجموعة التي يرافقها مسّي بوصفه دليلاً في الصحراء، تبحث عن مكامن النفط، ومسّي يدرك في قرارة نفسه أنه يخالف وصايا الصحراء، وأنه وسيط الغرباء للدخول إليها، «إن البلاء سيعمّ، والصحراء لن تعود صحراء، في ذلك اليوم الذي سيقع فيه الحجر المقدّس في يد الدخلاء» ص173، لكنه تحت وطأة الحاجة إلى قليل من الحرية وما يراه أملاً بمستقبل ابنه، وأن هذا العمل قد يفتح له باب الوساطة لاسترجاع حقوقه، كان يصمّ أذنيه عن الوصايا القديمة، ويحاول التكفير عن ذنبه، وإظهار حسن نيته أمام ضميره المفترض المتوحد مع الصحراء، فيتسلل مغافلاً خبراء النفط، مصطحباً ابنه في رحلات قصيرة إلى حيث الحجر المقدّس في الصحراء، ومجموعة قديمة من آثار الأسلاف.

الكشف

نزيه الفاضل: ويكشف الرجل الصحراوي عن اسمه، ومع توسع الحديث بينه وبين مسّي، نرى أنه الشخصية التي اختارها الراوي لتكون الصلة بين وهم مسّي، والحقيقة التي لم يكن يدركها فقد »انقلب الرجل في عيني «مسّي» درويشاً في لحظة، لأنه لم يكتف بالرقص جسداً، ولكنه تغنى بأنين مكتوم كأنه نوبة حنين» ص229.

ويعلم مسّي عن طريق نزيه الموظف السابق في السجل المدني، والسائق الحالي لسيارة الخبراء - أن الضحية والجاني شخص واحد هو ابنه «يوجرتن» الذي اتخذ لنفسه اسماً آخر هو: جريء. وقد استخدم كبير الخبراء وأتباعه ابنه كي يدلهم على موضع الحجر المقدّس، إنهم تجار آثار. وبانتهاء خيوط اللعبة البوليسية التي عرضها لنا الراوي من وجهة واحدة هي حدود معرفة مسّي، يكون مسّي قد وصل إلى النهاية الفاجعة، وقد عرف انبهار ابنه بالآخر الغريب وانسياقه وراءه.

إنه إذن نموذج لصراع الشرق مع الغرب المستعمر الذي يستهدف الوطن الذي يسكن الوجدان الداخلي للأب: إنه لم يفطن للأمر إلا متأخراً جداً ولم يعد الإصلاح ممكناً، فهو يجد نفسه الآن أمام خيارين: إما ترك الفرصة للابن بالحياة مستمراً في تيار القبيح الضارّ، والصفة اللّصيقة بالابن حتى بوابة البيت الذي يسكنه فهو «لا يدري كم مكث أمام البوابة القبيحة قبل أن يخرج للقائه الابن» ص252، أو الخيار الأصعب الذي هو اجتثاث القبيح من جذوره والقضاء عليه.

قتل الابن

لم يفكر مسّي في قتل نفسه لأنه الشخصية الواعية في الرواية والمتحملة وزر أخطائها. ولاتبدو فكرة قتل الابن غريبة في سياق الرواية، فهي تستدعي إلى الذهن تناصاً مع التراث -مع فارق الدواعي النفسية والدوافع السلوكية- في حادثتين متباينتين، الأولى هي إقدام النبي إبراهيم على التضحية بابنه إسماعيل قرباناً، ولكن يُقدّر لإسماعيل النجاة من الذبح ليستمر حاملاً لقيمة الجمال، الأمر الذي يتعارض مع الحادثة الثانية وهي الرغبة في القضاء على قيمة القبح، وعدم تردد صاحب النبي موسى في سبيل ذلك بقتل الغلام المنذر بالطغيان.

وبهذا فإن مسّي يبقى في إطار المعذّب المستسلم للحزن والذل إذا قتل نفسه، ولكنه بقتل ابنه والتضحية به يدخل باب التراجيدي، قد تتباين ردود فعل المتلقين تجاهه، ولكنها تجمع على التعاطف معه والشفقة عليه، لا لومه وتأنيبه.

لا تخلو الصحراء في عوالم إبراهيم الكوني من رسالة تقدمها إلى من ضاقت بهم السبل: «وإذا كان القدر قد أعماهم عن شجرة الرتم، فلن يعني هذا سوى رسالة. رسالة موجهة إليه هو كسليل صحراء وحيد يعرف حقيقة الرتم المقدس الذي تقول وصايا الأسلاف إنه ملجأ روح الصحراء الوحيد الذي اختاره هذا الوطن الشقي كي يستنجد به كلما حاقت به بليّة، ولكن روح الصحراء لا تخرج من مخبئها في شجرة الرتم لتعود إلى صحرائها إلا بقربان جسيم!» ص253.

ومع أنفاسه الأخيرة كان الابن يحشرج: «كأني أضحية العيد!» ص254. التضحية تكون قرباناً بشيء جميل ذي قيمة عالية، وهذا ما فعله مسّي، فابنه يبقى بنظره جميلاً بدافع العاطفة، ولكنه في الآن نفسه قبيح بما ارتكب من أخطاء لا تغفرها الصحراء، وقبيح بما يمكن أن يفعل وقد غابت عنه وصاية الأب. فكان مقتل الابن بنصل والده متزامناً مع غروب قرص الشمس، وانتهاء النهار، إيذاناً ببدء نهار جديد ومعطيات جديدة.

-------------------------------

وإني كفاني فَقْدُ من ليس جازياً
بِحُسنى، ولا في قربه مُتَعَلَّلُ
ثلاثةُ أصحابٍ: فؤادٌ مشيعٌ،
وأبيضُ إصليتٌ، وصفراءُ عيطلُ
هَتوفٌ، من المُلْسِ المُتُونِ، يزينها
رصائعُ قد نيطت إليها، ومِحْمَلُ
إذا زلّ عنها السهمُ، حَنَّتْ كأنها
مُرَزَّأةٌ، ثكلى، ترِنُ وتُعْوِلُ

الشنفري

 

عرض: علياء الداية