سيمون بوليفار محرر أمريكا اللاتينية

سيمون بوليفار محرر أمريكا اللاتينية

«إن الحرية هي الهدف الوحيد الذي من أجله تستحق التضحية بالحياة البشرية».

«سيمون بوليفار»

سيمون بوليفار، محرر فنزويلا، كولومبيا، بنما، إكوادور، بيرو وبوليفيا - هذا الكتاب الذي يقع في 240 صفحة من القطع المتوسط، متضمناً ثلاثة عشر فصلاً، عدا المقدمة، من تأليف البروفيسور خوزيه لويس سالسيدو باستاردو (1926-...)، الحائز على الدكتوراه في العلوم السياسية. والذي شغل مناصب منها مدير جامعة فنزويلا، أستاذ كرسي علم الاجتماع، عضو بمجلس الشيوخ الفنزويلي، سفير لفنزويلا في إكوادور، البرازيل، فرنسا، إنجلترا وألمانيا، وزير سكرتارية رئاسة الجمهورية ووزير دولة للعلوم والتكنولوجيا، وله اهتمام واسع بالتاريخ الفنزويلي، القديم والحديث.

يقول في مقدمته كتابه: «يسعدني ويملؤني غبطة أن أقدم هذا الكتاب، لواحد من أبطال أمريكا اللاتينية، الذي يتبوأ مركز الصدارة، جنباً إلى جنب مع أبطال الحرية في العالم، وهؤلاء الأمريكيون الغر الميامين الذين شملوا ميراندا، بوليفار، سكرى، سان مارتن، أوهجنز، هيدالجو، خوزيه بونيفاسيو ومارتي. هؤلاء الأبطال كانوا خير ممثلين لأمريكا اللاتينية، كانوا صوتها الصادق، ولسانها المعبّر، وهأنذا أقدم واحداً من هؤلاء الكوكبة بمناسبة مرور قرنين وربع على مولده».

ولد بوليفار في كاركاس في 24 يوليو 1783م، وكان واحداً من أربعة أشقاء، حيث كانت كاركاس آنذاك عاصمة جديدة لفنزويلا، وعندما بلغ عامين ونصف العام، توفي والده، ووقعت مهمة تعليمه على عاتق أفضل المعلمين بالعاصمة.

سنوات التكوين

أيقظ أحد مدرسي بوليفار، الفضول الثقافي والوعي السياسي لديه، وشجع فيه روح الاستقلالية، وفهم القوى التاريخية، وتبني الأفكار الخلاّقة، ونفخ فيه روحاً باعتباره الرجل الموكل إليه مهمة تحرير أمريكا، حتى أنه اصطحبه إلى أوربا، ليدرس الرياضة بمدريد في أكاديمية سان فرناندو والعلوم العسكرية في فرنسا، واغتنم فرصة وجوده في إسبانيا، حيث أتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية بإشراف الأكفاء من المدرسين وتحت وصاية العالم الماركيز جير نموري استاريز، حيث كان الأخير ذا إلمام واسع بالسياسة وفلسفة الأخلاق، وكان يرتاد المسارح والحفلات، بل والقصر الملكي، وكان لزياراته الثلاث لأوربا فضل آخر، إنه في أولى زياراته اقترن بزوجته في مدريد في 26 مايو 1802 - والتي توفيت بعد ثمانية أشهر - والزيارة الثانية بدافع السلوى بعد وفاة زوجته، حيث أقام فيها أربعة وأربعين شهراً، لينسى أحزان وفاة زوجته، وقد أقسم عند جبل مونتي ساكرو في روما بأن يحرر بلده، شملت زياراته بعد إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، النمسا، بلجيكا، هولندا، ألمانيا، وحط رحاله أخيراً في الولايات المتحدة الأمريكية التي علّق عليها بقوله: شعرت لأول مرة في حياتي بأن هناك نموذجاً للحرية المعتدلة، وكانت رحلته الثالثة إلى إنجلترا، وأبدى إعجاباً بالشعب الإنجليزي الذي يمتاز بالكرامة واحترام الآخرين وحسن الإدراك والنظام الديمقراطي، البعيد عن العنف الذي يسهم في استقرار المجتمع، وقد أدرك بفطنته وإدراكه المرهف أن هذا ما تفتقر إليه بلده.

مظهر حاد

جبهة عالية ضيقة، تخطها التجاعيد، حاجبان كثّان، عينان حادتان يبرق منهما سنا الذكاء، أنف طويل، وجنتان غائرتان، شعر أسود مُجعد، شارب خفيف السواد، قوام نحيل، طوله 165سم، وعن مكوناته الشخصية، الذكاء، الاعتدال في الرأي، الرقة، التسامح، الرصانة، الهدوء والقدرة على تحمّل الحرمان والمشاق.

كان شديد الاقتناع بأن قيام الجمهورية يعتمد أكثر ما يعتمد على قادة ذوي مبادئ، لأنه بغيرها تنهار أحلام إقامة الجمهورية، وقد ذكر لاحقاً: إني أتحرى البحث عن الرجال ذوي الكفاءة والأمانة للمناصب العامة، هؤلاء الرجال الذين يكونون قرابين أمام مذبح الضمير ومبادئ القانون، حتى أنه ورث ثروة طائلة تقدر بأربعة ملايين بيسو Pesos، وعندما شرع هلال نجوميته في البزوغ، أنفقها كلها على حملاته في حرب الاستقلال، فضلاً عن أنه كان يمتلك منجماً في أروا Aroa وقد ارتهنه لاستجلاب رجال تعليم أكفّاء، حتى ينشئوا قاعدة تعليمية سليمة لفنزويلا.

وكان يقول دوماً: إن أي فرد يدان بالتهرّب من قانون الضرائب على الدخان بالبيع بطريقة غير قانونية أو بالسرقة، فإنه يُعدم وتصادر أملاكه، والقضاه الذين لا يحكمون بمقتضى مراسيم، يكونون عرضة للعقوبة نفسها. وكان متعففاً عن المال، بل ورفض بإباء مَنْحه مكافأة مقدارها مليون بيسو، بل وتنازل عن راتبه السنوي البالغ 130 ألف بيسو.

بدأ ينشط بعد عودته من لندن إلى كاركاس في فنزويلا في الدفاع عن الاستقلال، ولاسيما في الجمعية الوطنية، إلى أن تم إقرار أول دستور نيابي في أمريكا اللاتينية، الذي تمت الموافقة عليه في كاركاس في 21 ديسمبر 1811، وجاء في ديباجته «لقد أوحى إلينا المشرّع الأكبر لهذا العالم الصداقة والمحبة المخلصة، كل تجاه الآخر، وأيضاً تجاه كل سكان أمريكا اللاتينية الذين يرغبون في الانضمام إلينا للدفاع عن عقيدتنا وسيادتنا الطبيعية واستقلالنا». وبميلاد الجمهورية الفنزويلية الجديدة، لم تتعد صلاحيات بوليفار الجانب العسكري الذي تم إسناده إليه ما بين 7 / 1811 و7 / 1912.

ضد الاحتلال الإسباني

ما فتئ بوليفار أن يحشد الجماهير للوحدة، ويقطع دابر الانقسامات الداخلية، حيث وقف ضد الاحتلال الإسباني، بينما تناوئه أمريكا وإنجلترا اللتان تساعدان الجيش الإسباني، في الوقت نفسه الذي كان فرديناند الرابع ملك إسبانيا، قد تم استقراره على العرش الإسباني بعد هزيمة نابليون، وقد أرسل الملك الإسباني في فبراير 1815 جيشاً إلى أمريكا تربو قواته على عشرة آلاف مقاتل مدججين بأحدث الأسلحة تحت قيادة بابلو ماريلو Pablo Morillo، وكان مصمماً على إعادة القارة الأمريكية إلى حظيرة الحكم الإسباني منكراً على أهلها المبادئ التحررية، وقد تمكن من احتلال جزيرة مرجريتا الفنزويلية وإخضاع كولومبيا.

وقد مر بوليفار إلى قرطاجنة في سبتمبر 1814، وإلى كولومبيا، أخبر الكونجرس بهزيمته، بيد أن الكونجرس أكّد ثقته فيه وأسند إليه بعض المهام، ومنها إلى جاميكا، حيث بقي فيها سبعة أشهر، وفي ديسمبر 1815، وصل إلى هاييتي حيث قدم له رئيسها بيتون Petion المساعدة، لأن بوليفار كان مقتنعاً بأن المعاضدة الخارجية لا محيص عنها، بل وقدم بيتون عرضاً مغرياً لبريطانيا العظمى: تشمل امتيازات تجارية، وامتيازات تختص بربط المحيطين بقناة، لأن بوليفار كان في مسيس الحاجة إلى ثلاثين ألف بندقية وعشرين سفينة ومليون جنيه إسترليني، بعد أن رفضت أمريكا تقديم يد العون له، وذلك لصداقتها مع إسبانيا وعدم اكتراثها بتطلعات أمريكا اللاتينية نحو الاستقلال، وعلى الرغم من هزيمة بوليفار للمرة الثالثة، فلم يجد مساعداً أفضل من رئيس هاييتي - مرة أخرى - حتى خُلع عليه لقب «المحسن إلى فنزويلا»، وأرسل له خطاباً بالغ التأثر قال فيه: «إذا كان الحظ لم يحالفك مرتين، فربما يبتسم لك في الثالثة، وأنه يمكنك التعويل عليّ وإلى أقصى حد وفي حدود طاقتي». وقد قام بوليفار بتحرير كل العبيد، وتوزيع الأراضي على الرجال الذين حاربوا من أجل الاستقلال، وعلى الجانب السياسي بدأت مشروعاته تترى، بإنشاء مجلس دوله، كونجرس نشط، سلطات تنفيذية بوزراء تكنوقراط، إنشاء إذاعة وصحيفة اسمها Coreodel Orinoco للترويج لمبادئ التحرير. وكانت المدرسة تمثل حجر الزاوية في تفكيره وهي التي يمكن الحكم على المجتمع عن طريقها، كما أنها أيضاً تقوم مقام الوعاء الذي يتم فيه صهر وصياغة مستقبل الأمة، فأصدر مرسوماً في يناير 1825، بإنشاء مدارس لإعداد المدرسين، واختيار الطلاب المتميزين وإرسالهم إلى Hazel Wood School مدرسة هازل وود بلندن، حيث يطبق المنهج العملي في التعليم، عمل على إنشاء مدرسة للأيتام والفقراء، أنشأ مدارس للبنات، حيث اعتبرهن الأساس المكين للأخلاق في الأسرة، كان يفتح ذراعيه للعلماء والباحثين، وكان الكثير من الكُتّاب من مختلف البلاد يرسلون له نسخاً مما جادت به قرائحه، أسهم في إنشاء «جامعة كولومبيا»، وما طفق أن يقول: «إن الدول تتقدم نحو العظمة بنفس درجة تقدمها العلمي، فإذا كان تقدمها سريعاً، كانت مسيرتها نحو التقدم سريعة، أما إذا كانت مسيرة التعليم إلى الوراء، وكان يحوطه الفساد، والإهمال التام، فإن الدولة تسير نحو الظلام والإظلام وتدنو من الكارثة».

واعتبر بوليفار الصحافة عاملا مهماً بحيث كانت تعادل معدات القوات الحربية، وقد أعطاه بتيسون (رئيس هاييتي) ماكينة للطباعة، ومع ذلك فقد أصدرت الثورة صحيفتها الخاصة بها.

أفكار بوليفار

لم يكن يعجبه التعصب الإقليمي، كان يسير إلى الأمام مع احترام الاختلافات بين الجمهوريات، لم يكن حالماً أو ساذجاً، بل كان ديمقراطياً حقيقياً، كان يعطي للسياسة بعض المعقولية، ويضع الديمقراطية في إطار معتدل بحيث تتلاءم والمتناقضات الموجودة في أمريكا اللاتينية، وكان يرى أن الدولة ينبغي لها أن تتخذ موقف الحياد في المسائل الدينية، وتضمن فقط ممارسة الشعائر الدينية، من دون مساندة عقيدة بعينها، لأن العقيدة مسألة تتعلق بالضمير والوجدان: «لم أعل من شأن أحد من أقاربي قط، بل إن أحد معاوني، كان يعمل معي عام 1813 برتبة نقيب، رُقي لكفاءته حتى أصبح جنرالاً».

كان يمجّد العمل، وأزاح من الطريق عقبات احتقار العمل اليدوي: «رأيت أن توزيع الأرض على من يحرثونها ويزرعونها وذلك لتحسين الكفاءة في الزراعة، لم أخش تدخل الدولة حتى أنني قمت بمبادرة تأميم المناجم، الوحدة بين دول أمريكا اللاتينية لا تتعارض مع فكرة التضامن العالمي، ولا تتنافى مع أي هدف نبيل كالسلام والتعاون بين الأمم».

«منحت تسهيلات تجارية للأجانب ويجب أن يستمتعوا بحماية القانون شريطة دفعهم للضرائب، شجعت الهجرة لشغل المناطق الخالية من السكان، ورأيت أن أي أجنبي حارب في جيش التحرير يتحول تلقائيا إلى مواطن للبلد»، ويقول: «إن دم مواطنينا مختلف، دعنا نمزجه كي نجعله واحداً». وتوفي بوليفار في 17 ديسمبر 1830 عن عمر ناهز سبعة وأربعين عاماً.

وأخيراً، وعلى الرغم من أن بوليفار نفسه لم يتخرج في جامعة، فإنه كان يعطي الجامعة اهتمامه الأعظم، حتى أنه ذكر في وصيته قبيل وفاته ما يلي: «أحب أن أهدي إلى جامعة كاركاس، المجلدين اللذين أهداهما لي صديقي الجنرال ويلسون وهما كتابا العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، والفن العسكري لمونتي كوكولي».

وينتهي الكاتب بما قاله أديب جواتيمالا ميجل أنجل أستورباس Miguel Angel Astureas والحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1968:

إني أؤمن بالحرية أم أمريكا
صانعة البحار الجميلة على الأرض
وبوليفيا ابنك يا قديسي
ولد في فنزويلا وعانى الكثير
تحت السيطرة الإسبانية
لقد لمس الخلود بيديه

------------------------------------

وكلٌّ أبيٌّ، باسلٌ. غير أنني
إذا عرضت أولى الطرائدِ أبسلُ
وإن مدتْ الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم، إذ أجْشَعُ القومِ أعجل
وما ذاك إلا بَسْطَةٌ عن تفضلٍ
عَلَيهِم، وكان الأفضلَ المتفضِّلُ

الشنفري

 

تأليف: ج.ل سولاسيدو باستاردو 
عرض : علي سيد أحمد