اللغة حياة.. عودة إلى التهجين اللغويّ

اللغة حياة.. عودة إلى التهجين اللغويّ

اتّصل بي أحد علماء النفس الذين عنتهم مقالتي: «النحت ليس الاجتزاء بالأوّل ولا الإلصاق»، وأقرّني على آرائي، لكنّه أراد الثأر، على ما يبدو، من بعض أقرانه، فسألني التوسّع في شرح معنى التهجين اللغويّ، ذاكراً بعض المصطلحات الهجينة التي يستعملها هؤلاء، محاولاً التسلّل بمصطلحات ومنحوتات خاصّة به، أو أثيرة عنده، علّني أقرّه عليها، واقترحَ أن ابتدع بنفسي مصطلحات تغني عن تلك الهجائن. والحقيقة أنّه لا هجائنهم ولا منحوتاته ومصطلحاته ممّا يُقنع، وإن كان ما عنده أقلّ خطراً ممّا عندهم.

التهجين، في ما بيّنا في المقالة المذكورة، هو أن نُدمج زيادة أجنبيّة، هي البادئة غالباً، بكلمة أو جزء من كلمة عربيّة أو معرّبة، بطريقة الإلصاق. وهذا كثير في لغتنا الإعلاميّة، نحو: الأفرو - آسيويّة (أي الأفريقيّة الآسيويّة) والأورو - متوسطيّة (أي الأوربيّة المتوسطيّة). وهاتان اللفظتان مؤلّفتان من بادئتين: لاتينيّة afro وتختصر صفة الأفريقيّ، وأوربيّة حديثة هي euro وتختصر صفة الأوربيّ؛ ومن نسبتين إحداهما ذات أصل معرّب هي آسيويّة، وثانيتهما عربيّة، هي متوسطيّة. وشبه ذلك صفة البترو كيميائيّ واسم البترو دولار ... إلخ. على أنّ العربيّة لا تحتمل مئات الزيادات الأجنبيّة اللاتينيّة واليونانيّة والأوربيّة والأمريكيّة الحديثة، ولا يفهم تلك الزيادات إلاّ القلّة، فضلاً عن أنّها لا تستقيم للمقاييس العربيّة؛ فليس في العربيّة مثلاً أسماء تنتهي بالواو الممدودة إلاّ الأسماء الستّة، ولا تكون إلاّ في تركيب إضافيّ، ولا تقع في تركيب مزجيّ أبداً، كالذي في الأسماء الهجينة الممثّل بها؛ وليس في العربيّة ما يمكن أن نسمّيه الواصلة (-)، نجمع به بين البادئة والاسم أو الصفة، كما رأينا في الأفرو- آسيويّة وأشباهها.

ومن التهجين ما يحاوله بعض المؤلّفين في علمي النفس والاجتماع، كإلصاق اسم عربيّ بكلمة لوجيا اليونانيّة، ومعناها كما هو معروف: العلم أو الدرس المنهجيّ، نحو: نفس لوجيا، إنسان لوجيا، مجتمع لوجيا. وقد يزيدون الواو على الاسم العربيّ فيقولون: إنسانو لوجيا! إلخ. فهم لا يكتفون بإلصاق العربيّ بالأعجميّ، بل يدخلون العربيّ نفسه في صيغ أعجميّة غريبة، لم يستعملها عربيّ قط، ولا تسيغها العربيّة. ولا أدري لماذا يصيبهم المغص اللغويّ من التراكيب العربيّة الإضافيّة، على قصرها وسهولة لفظها: علم النفس، وعلم الناسوت (نقترحه بإزاء علم اللاهوت: ثيولوجيا)، وعلم الاجتماع، إلخ. وهي مصطلحات متّفق على أكثرها، ويكاد يفهمها جميع الدارسين والباحثين في الميادين المتّصلة بها. ولنفترض أنّ المصطلحات المترجمة لا تروقهم، فليستعملوا المعرّبات أو الدخائل، كما فعل أسلافهم، فيقولوا مثلاً: سيكولوجيا، وأنتروبولوجيا، وسوسيولوجيا، وإن كان سيعترضهم مشكلة اختلاف اللغات التي أُخذت منها المعرّبات والدخائل؛ فهل يقولون: سيكولوجيا، الأقرب إلى الإنجليزيّة مثلاً، أم بسيكولوجيا، الأقرب إلى الفرنسيّة والألمانيّة؟

لا شكّ في أنّ الترجمة أفضل، وإن كان لها مشاكلها؛ لأنّ الترجمات تتعدّد أحياناً بحسب المترجمين والمصادر التي تؤخذ الترجمة منها؛ وقد وضّحنا ذلك في مقالة :«أما آن للجوّال أن يستريح»، واقترحنا اقتراحات عمليّة لتجنّب ذلك.

ومن التهجين في علوم اللغة استعمال أحدهم لمصطلح «ميتالغة» المأخوذ من الفرنسيّة métalangage أو métalangue، ومعناها الكلام المستوعِب، أو اللغة المستوعِبة؛ ويعنون بها ما يصف اللغة الطبيعيّة باعتبارها موضوعاً، أو ما يعبّر عن محتواها ويدلّ على استعمالاتها، مثل العبارات والمصطلحات النحويّة والصرفيّة والفقهيّة التي قلّما تستعمل خارج هذا الميدان. ولعلّ بوسعنا أن نترجم الكلمة بعبارة: اللغة القواعديّة، أو اللغة الفقهيّة. وليس مقبولاً أن نُدخل البادئة اليونانيّة meta، المفيدة لمعنى التتابع أو التبدّل أو المشاركة أو الشمول أو التجاوز، على كلمة «لغة» العربيّة، على الأقل لأنّها تستغلق على المستعمِل العربيّ، ولا تستقيم لوزن صرفيّ عربيّ.

بيد أنّ بعضهم أراد تحاشي التهجين بنحت كلمات يصعب فهمها؛ فقد أخبرني صاحبنا نفسه أنّهم يستعملون اليوم منحوتات مؤلَّفة من كلمة «بَيْن» وكلمة دوليّ أو مجتمعيّ، بعد حذف النون من «بَيْن»؛ فيقولون، مثلاً، بَيْدَوْلي لترجمة كلمة international وبَيْمجتمعيّ لما لا أعرف أصلاً له. ويبدو صاحبنا على اقتناع بهذا النحت. وصحيح أنّه أهون من الإلصاق، لكنّه على نسب بالتهجين، والبادئة «بَيْ» لا توحي البَيْنيّة أبداً؛ فكثير من الكلمات تبدأ بها وأشهرها كلمة «بيت»، ولذلك قد يُفهم أنّ المراد بالمنحوتة هو بيت دوليّ. ثمّ إنّ العرب يحذفون، في العادة، حروف العلّة أكثر ممّا يحذفون الصوامت، ولا نعلم أنّهم ينحتون من الظروف أسماء. وقد اصطلح الناس على ترجمة الكلمة بدَوْليّ، ولدقّة أكبر دُوَليّ، وهم يفهمون مدلول البَيْنيّة فيه من غير استعمال «بَيْن». وبعضهم ترجم الكلمة بأُمميّ.

هذا وبين العلماء من رأى استعمال زنة «فِعالة» للدلالة على علم من العلوم؛ فقد أقرّ مجمع اللغة في القاهرة مصطلح خِطاطة لعلم الخطوط القديمة paléographie الذي يُعنى بحلّ رموز الكتابات وبتأويل معانيها؛ وهو أمر غير مقنع لأنّ زنة فِعالة تغلب في الدلالة على الحِرَف أو الصنائع، ولا تشمل معنى العلم، وقد تصح الخِطاطة لمعنى حرفة الخطّ لا لمعنى علمه. وقد استعمل بعضهم هذه الزنة في مصطلح الإناسة، ترجمة لـ anthropologie - وينسب بعضهم ذلك المصطلح إلى الشيخ عبد الله العلايليّ -. ومع أنّ هذه الترجمة أفضل من إنسان لوجيا، التي مضت منذ قليل، فإنّ مصطلح علم الناسوت يبقى الأفضل والأكثر إقناعاً.

وقد حاول بعضهم التوكّؤ على الدلالة المزعومة لزنة فِعالة، فاقترح مجموعة من المصطلحات التي لا أعرف إن كانت مترجمة أو مبتكرة، للتعبير عن نظريّات جديدة؛ ومن ذلك مصطلح الإيادة، بمعنى العلم الذي يدرس التعبير باليدين يصاحب الكلام أو يستقلّ عنه؛ ومصطلح الإصاخة، بمعنى العلم الذي يدرس حركة توجيه الأذن عند الاستماع إلى متحدِّث، ومصطلح الحِداجة، بمعنى العلم الذي يدرس تعبير العينين باعتباره لغة تدلّ على معنىً، سواء عند الاستماع أو عند التكلّم. والحقيقة أنّ هذا دليل آخر على فساد استعمال زنة فِعالة للدلالة على العلم؛ فالإيادة توحي معنى القوّة والحماية، وإن كان في اللغة إياد وليس إيادة؛ والإصاخة مصدر فعل أصاخ ولا يدل على علم، والحِداجة مَرْكب للنساء أو هي أداة القَتَب المشدود على البعير. والمهمّ أنْ ليس من تلك الألفاظ ما يدلّ على المعنى العلميّ المطلوب أو يوحي به.

يبقى أنّ اللغوي ليس مخترع مصطلحات، وأنّ لكلّ علم أربابه، وهم أجدر بإنشاء مصطلحاته أو ترجمتها، وليس على اللغويّ إلاّ النظر في صحّة الصيغة أو خطئها، فيقرّها أو يتحفّظ منها، أو يقترح غيرها.

 

مصطفى الجوزو