جمال العربية

جمال العربية

حجازي بين صقيع الغربة وتجاوز الموروث

في ذروة من ذُرا النضج والاكتمال، وفي الديوان السادس للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي «أشجار الأسمنت» تلفتنا عودة الشاعر إلى فراديس أحلامه الأولى، حيث يشتبك الوعي واللاوعي معاً، في عناق الأماكن والوجوه الحبيبة، وانغماس الذات المحاصرة في ثلج الغربة، وبرودة التوحد، باحثة عن أطياف وصور وملامح، هي مِزقٌ من وجود غائب، ومحاولة اقتناص لحظة الغياب التي يتمثلها الأندلسيون أبناء السبيل، والزمن كلّه هو منتصف الوقت، حين يخرج الشاعر من ظله، ويعرّيه فراغ عاصف يلتف من حوله.

هذه الحال الوجودية المزلزلة، هي التي جعلت شاعرنا يأوي ويتكئ إلى أبنية شعرية سامقة، شيدتها القصيدة العربية في رحلتها الجمالية عبر العصور، وتوهجت جمالياتها في صور «الطللية» و«الطردية» و«الخمرية»، لا على سبيل الاستعادة والتكرار، وإنما على سبيل اعتصار الحاضر وتقطيره في الأواني التي ظلت على مدار قرون من الشعر تمثل خروجاً على النسق، وجرْحاً للمألوف، وخروجاً إلى برّيّة الشعر، مزودة بأقنعة الاستعارة، مدرّعة بغواية الجمال وفتنته، التي تطبي أصحاب النفوس القلقة، والقلوب الظامئة النهمة.

وحجازي في محاكاته لقوالب الخروج على المألوف في مسار القصيدة العربية. لا يهدف إلى تحقيق ما كان يسمى بالمعارضة الشعرية، أو الإتيان بما لم يستطعه السابق فحققه اللاحق، وإنما هو في قلب المشهد الزماني والمكاني لا يغادره، ولا يغيب عنه، ويسعى إلى معرفته أكثر بنقائضه، والاقتراب منه أكثر بالاغتراب عنه في نماذجه، واستئناسه حتى لا يتسرّب أو يتبدّد. هنا يكفي اللمْح والإشارة، والإصغاء المرير إلى حزن الرجال، والقفز فوق السدود والأشواك.

لم تكن مصادفة إذن أن تدلهم ظلمات الغربة والاغتراب - والوطن هو الغائب الحاضر ولا أن تشخص وجوه بعيدة تمد يد العون والمؤازرة لمن يوشك أن يغرق، علّها تدفئ برودة القلب، وتسعف بقبس من جذوة الحضور الإنساني، وتساند الشاعر الذي يستند بدوره إلى أعمدة دخانية تصّاعد من قصائد الخروج. وجوه لعبدالرحمن منيف وصلاح عبدالصبور وعبدالفتاح غبْن وأمل دنقل وجاك بيرك وجورج البهجوري وسيف وانلي وفيكتور هيجو وكارل ماركس وكامل عبدالغفار وأخيرًا جمال الدين بن الشيخ. مُردّداً: «ياصاحبىّ، أخمرٌ في كؤوسكما * أم في كؤوسكما همٌّ وتذكارُ»، وهو يقول في قصيدته «طللية»:

كان الحنينُ مدًى عذْبًا، وكان لنا
من وجهها كوكبٌ في الليل سيّارُ
هذا دخان القرى، مازال يتبعنا
وملءُ أحلامنا زرعٌ، وأجنحةٌ
وصبيةٌ،
وطريق في الحقول إلى الموتى
وصبّارُ،
فملتقى الأرض بالأفْق الذي اشتعلت
ألوانُه شفقًا،
فالقاطرات التي غابت مولولةً
في بؤرة الضوءِ،
فالحزنُ الذي هطلتْ
عليََّ أمطارُه يوماً
فَصِرتُ إلى طيْرٍ،
وسافرتُ من حزن الصبيِّ إلى
حزن الرجال، فكلُّ العمر أسفارُ
يا صاحبىَّ قفا!
فالشمسُ قد رجعت،
ولم تعِدْ بغدٍ
كلّ المقاهي انتظارٌ، ساء ما فعَلتْ
بنا السنونَ التي تمضي،
ونحن على موائدٍ في الزوايا،
ضارعين إلى شمسٍ تخلّلت البِلّوْر واهنةً
ولامست جلدنا المُعتلَّ، وانحسرتْ
عنَّا إلى جارنا،
فما نعِمْنا، ولم ينعم بها الجارُ
يا صاحبيَّ
أخمرٌ في كؤوسكما
أم في كؤوسكما همٌّ وتذكارُ!
وما الذي تنفع الذكرى إذا نكأتْ
في القلب جُرحًا، علمنا لا دواءَ له
حتى نعودَ،
وما يبدو أن اقتربتْ
أيامُ عودتنا، والجرحُ نغّارُ
ها نحنُ نفْرطُ فوق النهر وردتنا
وتلك أوراقها تنأى، ويأخذها
وراء أحلامنا موجٌ وتيّارُ
يا صاحبيَّ
أحقّا أنها وسِعتْ،
أعداءها،
وجَفتْ أبناءها الدارُ؟
لو أنّها حوصرتْ حتى النهاية،
حتى الموتِ، لو سَحبتْ
على مفاتنها غُلالةً من مياه النيلِ،
واضطجعتْ في قاعهِ!
لو سفتْها الريحُ فانطمرتْ
في الرمل واندلعتْ
من كل وردةِ جُرحٍ وردةٌ
فالمدى عشبٌ ونُوّارُ
هذا دخان قراها يقتفي دَمنا
وملءُ أحلامنا زرعُ، وأجنحةٌ
وملءُ أحلامنا ذئبٌ نهشُّ لهُ
نسْقيه من كأسنا الذاوي
ونسألهُ عنها،
وننهارُ!

من اللحظة التي ينطلق فيها دخان القرى، تتداعى الصور الشعرية والوجودية لقرية حجازي، التي تمثل عمود هذه الوقفة الطللية، حيث طريق الحقول إلى الموتى، والصبار الذي يجد نماءه وازدهاره من حول المقابر، والقاطرات المولولة من بعيد، وسرعان ما يصبح دخان القرى ذئبًا يقتات الأحلام، واندلعت وردة من كلِّ وردةِ جرح، بعد أن سفت الريح غلالة من مياه النيل فانطمرت في الرمل!

أيُّ غُصة كابوسية تلك التي تجتاح الشاعر العائد إلى حيث أطلالهُ الأولى، علّها تسعفه وتعينه، ولعلّ في كئوس صاحبيه خمرًا تشتاقها روحه، فإذا الذي يملأ الكئوس همّ وتذكار، بعد أن حلَّ «التذكار» لضرورته الفنية والشعورية بدلاً من «التسهيد» في بيت المتنبي الذي يتكئ عليه حجازي، وشتان بين مرارة التذكار وقسْوته ولوعة التسهيد وأوصابه.

وفي «طرديته» التي أصبحت من كلاسيكيات الشعر الجديد، ولآلئه الباهرة، التي لا ينقضي عجبُ القارئ منها ولها وفيها، والمُقاربة بعد المقاربة تكشف عن مكنون فات الذين انبهروا ومضوْا، ولايزال في جعبة الآتين من بعدهم مزيد: في هذه «الطردية» يقول حجازي:

هو الربيع كانَ
واليومُ أحد
وليس في المدينة التي خلتْ
وفاح عطرُها سوايّ
قلتُ: أصطادُ القطا
كان القطا يتبعني من بلدٍ إلى بلد
يحطّ في حُلمي، ويشدو
فإذا قمتُ شَردْ
حملْتُ قوسي،
وتوغْلت بعيدًا في النهار المبتعدْ
أبحث عن طير القطَا
حتى تشمّمْتُ احتراق الوقت في العُشْبِ،
ولاح لي بريقٌ يرتعد
كان القطا
ينحلُّ كاللؤلؤ في السماءِ،
ثم ينعقدْ
مقتربًا،
مُسترجعا صورتهُ من البَددْ
مُسّاقطًا،
كأنما على يدي
مرفرفاً على مساربِ المياهِ، كالزّبدْ
وصاعداً بلا جسدْ
صوّبْتُ نحوه، نهاري كُلَّهُ،
ولم أصدْ
عدوْتُ بين الماء والغيْمةِ،
بين الحلْم واليقظةِ،
مسلوبَ الرَّشدْ
ومذْ خرجتُ من بلادي،
لم أعدْ!

هذه البنية الدرامية ذات الطابع القصصي، وهذه اللغة المقتصدة المحكمة، وهذا الإيقاع الجياش المرتطم بوقفة التقفية التي يرتدّ عنها وهو أكثر تدفقاً وانسياباً، وهذه الوقفة الإنسانية التي تُجسّد الظفر والهزيمة، والانتصار والخيبْة، وكأنها جميعاً محكومة بتراجيديا قدرية، و«القطا» ذلك الأمل الإنسانيّ، والمطلب المستحيل تحقيقه استحالة مجيء «جودو». كيف لا يتجاوز هذا كلّه بمدى شاسع فضاءَ القصيدة «الطردية» في الشعر العربي، الذي لم يتسع أبداً لما هو أبعد من الصياد والبازي أو الصياد وكلب الصيد والفريسة وشتان بين الفضاءيْن.

في قصيدته الثالثة «خمرية» يقول أحمد عبدالمعطي حجازي:

الأصدقاءُ الحميمون أقبلوا
في ثيابٍ جديدةٍ
من بلادٍ بعيدةٍ
وقبور
ساقوا سماءً إلى البهو من دخانٍ
وشدُّوا
نجومها بخيوطِ
ورفرفوا كالطيورِ
بعيدةٌ كأسُنا الأولى،
والوجوهُ عليها من النهار انطفاءاتٌ،
والمدينة ضمّت أسواقَها
وتهاوت
تحت الزجاج المطيرِ
بعيدةٌ هذه الكأسُ، والنهار بعيدٌ
وعن يمينٍ بساتيننا التي لا نراها
لما ركبنا عليهم أسوارهَا، ودخلنا
كانت هناك تلالٌ
من خالص التِّبْرِ،
كانت من النساء عذارى
كلؤلؤٍ منثورِ
ورُبَّ ظبيٍ غريرِ
دعوتهُ لسريري!
وكان ثمَّ رُفاتٌ
يسيل بين محطّاتٍ أدبرتْ،
ومحطاتٍ أقبلتْ
وجُسورِ
ولات حين نُشورِ!
من يُنزلُ الغيْمَ؟
لي فيه وردةٌ
أزهرت وحدها هناكَ، وأبقتْ
جذورها راعياتٍ
في جسميَ المهجورِ
بعيدةٌ هذه الكأسُ، مثل شمسٍ شتائية
تدورُ، وتفترُّ عن سناً مقرورِ
ونحن بين المرايا
نعشو لها بمهيضِ،
من الجناح كسيرِ
محاصرين بأشباحنا
نُبادلها الكرَّ والفرارَ
إلى أن مضى الزمانُ فقُمنْا
وانسلّ كلٌّ لمثواهُ في الظلامِ الأخير
الأصدقاءُ الحميمون أقبلوا
في ثيابٍ جديدةٍ
من بلادٍ بعيدةٍ
وقبورِ
ساقُوا سماءً إلى البهو من دخانِ
وشدُّوا
نجومها بخيوطٍ
ورفرفوا كالطيورِ!

أية كأسٍ هذه تلك التي تفيض من نشواتها جلوات كمراقي الصوفية، وفضاءات حالمين بين اليقظة والنشور، واستقطابٌ للأصدقاء الحميمين القادمين من عالم الغيب، مرفرفين بأرواحهم كالطيور. إنها وحدها كأسُ حجازي التى لم تنتسب لرحيق الأديرة ولا حانات الكرْخ، قدْر انتسابها إلى حُميّا الروح، وفضاء الإشراق، فكان هذا الشعر البديع، وهذه اللغة المغموسة في الجمال.

---------------------------------

ولولا اجتناب الذأم، لم يُلْفَ مَشربٌ
يُعاش به، إلا لديِّ، ومأكلُ
ولكنَّ نفساً مُرةً لا تقيمُ بي
على الضيم، إلا ريثما أتحولُ
وأطوِي على الخُمص الحوايا، كما انطوتْ
خُيُوطَةُ ماريّ تُغارُ وتفتلُ

الشنفري

 

فاروق شوشة