إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

البريد

تحول البريد إلى نقطة مهمة في البرنامج اليومي من خلال المرور به في العودة من العمل كل يوم عدا يوم الجمعة، حيث يكون مغلقاً، وإلا كنت أطير إليه كسائر الأيام..!

في اليوم الذي يكون صندوقي البريدي بلقعا، أجرد، ليس فيه سوى الصاجات الأربع التي ترسم حدوده، وموقعه، أعزف عن الغداء، بالرغم من أن الجوع والتعب يأخذان مني كل مأخذ، وأبقى لساعات عدة مكتئباً، قلقاً، غاضباً، سادراً، حزيناً قد استحال كل شيء عندي إلى مرارة!

أدخل المنزل عابساً - على غير عادتي - فيعرف أهلي الحكاية بحسب العادة والخبرة / أدخل المنزل مردّداً: «بريدي كئيب، وقلبي وجيب، وصوتي ينادي ولا من مجيب!». وغالباً ما يرددها معي أهلي وأولادي أيضاً الذين حفظوها بحكم التكرار، بل إنهم يبادرونني بها حالما يرون عبوسي!

الغريب أنني أعلم أن البريد مثله مثل البحر، فيه الجزر والمد، ولكني في الحقيقة لا أشبع من الرسائل الواردة، ومثلي مثل أي شاب كان قد بدأ يمارس للتو هواية المراسلة مع أنني الآن في مرحلة الكهولة، والله المستعان..!

والغريب أيضاً أن اللهفة التي سكنتني وأنا أستقبل أول رسالة في حياتي في عام 1969م، وكنت حينئذ في الصف السادس الابتدائي هي هي.. نفسها الآن مع كل رسالة تماماً حتى بعد أن بلغ عدد الرسائل الواردة إلي، بكل أنواعها منذ تلك الرسالة: 12651 رسالة حتى يوم: 28 / 4 / 1429 هـ،الموافق: 31 / 7 / 2008م، ومازلت أحتفظ بها كلها، (ومَن يدري فربما عملت يوماً ما معرضاً خاصاً بها)، وفي معرض الإحصاء البريدي، فلديّ كذلك أكثر من 450 كتاباً عبر البريد، وأكثر من 300 مطبوعة ثقافية، و10 مطبوعات دورية/شهرية وفصلية من داخل وخارج المملكة منذ أكثر من عشر سنوات.

- أما اليوم الذي يكون فيه البريد «وارم» كما أطلق عليه فإن الفرحة تتنامى بمقدار ما فقدته يوم خلو البريد من الرسائل، وبمقدار عدد الرسائل والطرود والمطبوعات، وحتى «الفواتير» التي ليس فيها سوى «المصاريف والخساير».

والآن وقد مضى على تسجيلي للبريد الآلي (الإيميل) أعوام عدة، وفي أكثر من موقع للبريد: فلم أشعر بعد بتلك اللهفة والحميمية والفرحة، وذلك الشعور الخاص الذي ينتابني ويصاحب كل رسالة واردة عبر صندوق البريد العادي، ولعل من نافلة القول أن تلك الحميمية هي ذلك الخيط العاطفي الجميل الذي تنعشك معطياته وعوامله المتعددة التي من بينها: فتح صندوف البريد وتسلم الرسالة بيدك واضطجاعها مدللة بين أناملك وعينيك والكشف الإيجابي المباح لسترها وأنت تفتحها ثم رؤيتك لحجم وشكل ولون الورق والحروف والمداد ورائحة الحبر، والورق أيضاً وإحساسك أن الرسالة نفسها هي التي تناجيك قبل صاحبها.

إنني أعبّر عن هذا الشعور الخاص والجميل مع حبيبي البريد العادي، وأعتقد أنني لست الوحيد في هذا الأمر، فقد يكون هناك الكثير من الأحبّة القرّاء ممن يماثلني ذلك.

 

محمد الجلواح