حروب الصدع المفتعلة تشعلها القِلة لتحترق بها الكثرة

حروب الصدع المفتعلة تشعلها القِلة لتحترق بها الكثرة.. د. سليمان إبراهيم العسكري

  • نستغرب رعونة فلتات اللسان وتهافت انفلات التعبير من أشخــاص لـديـهم مـسئـوليـات سياسية وروحية عالمية وفي مواجهة أكثر من مليار مسلم معظمهم مسالم ومخلص لدينه.
  • قلة من الجانبين دأبت على اصطناع الكراهية، واختلاق الأعداء، وتعميق صدع سطحي لم ترده الأغلبية، ولم تخلقه طبيعة الأرض ولاحضارة الإنسان.
  • مسئولية الأغلبية من المسلمين ومن الغربيين هي عدم الانجرار للخوض في مستنقع هذه المواجهات المفتعلة من قبل أقلية جانحة على الجانبين لديها أجندتها الخاصة لتأجيج الصدامات بدلا من تكامل الحضارات.
  • هنتنجتون لم يكن جادًا إلا في إصراره على اصطناع عدو للغرب حتى لو اضطر لردم بحر من التاريخ الإنساني، ليعود بالبشرية إلى منطق الصراعات القبلية الغابرة.

في لحظة من لحظات التاريخ يبدو العالم وكأنه فقد عقله، وتنشأ أنواع من الصدامات كان يمكن تحاشيها بقليل من المسئولية التاريخية والإنسانية، لكن هناك قلة من الفعاليات والبشر لا يتورعون عن دفع هذه الصدامات المفتعلة إلى أقصى حدودها المدمرة. وبعد ثلاثة عشر عامًا من نشر هنتنجتون لمقالته التي تحولت إلى كتاب عن صدام الحضارات، يتضح بجلاء أن السيناريو عن صدام بين الإسلام والغرب، يجري تنفيذه بإرادة قلة من الناس، من الجانبين، لتُساق الأغلبية - من الجانبين أيضًا - إلى فتنة لا يُعرَف مداها.

«ليس هناك أصدقاء حقيقيون دون أعداء حقيقيين. إننا ما لم نكره الآخرين فلن نستطيع أن نحب أنفسنا. تلك هي الحقائق القديمة والتي نستعيد اكتشافها بمرارة بعد قرن أو مايزيد من الميل الشعوري. أولئك الذين ينكرونها إنما ينكرون عائلاتهم، وتقاليدهم، وتراثهم، وحقوق ميلادهم، بل وذواتهم! إنهم لن يُغفر لهم بسهولة».

هذا المقطع الأسود من رواية «البحيرة الميتة» أورده صمويل هنتنجتون، في كتابه الصدمة «صدام الحضارات». ومن الغريب أن هنتنجتون وصف مؤلف الرواية بأنه أحد الغوغاء الوطنيين الفينيسيين - نسبة إلى فينيسيا أو مدينة البندقية الإيطالية - كما وصف ما جاء في المقطع بأنه «إحدى الأفكار أو الفلسفات الضارة حول هذا العصر الجديد». وأضاف: «إن الحقيقة التعيسة في هذه الحقائق القديمة لا يمكن تجاهلها من طرف رؤساء الدول والباحثين، وبالنسبة للبشر الذين يبحثون عن هوية ويعيدون اختراع نَسَب عِرقي جديد، فإن الأعداء شيء جوهري، وإن أكثرهم خطرًا هم أولئك الذين يقعون عند خطوط الصدع «Fault Lines» بين حضارات العالم الكبرى». ويبدو أن هنتنجتون، دون أن يدري لم يكن يصف هذا الكاتب الفينيسي وأفكاره فقط، بل كان يصف نفسه، وتحديدًا عبر الأفكار التي تمحور حولها كتابه، فلم يكن هذا الكتاب إلا تعبيرًا عن غوغائية ثقافية، وسيناريو للفتنة، واختراعًا للكراهية عبر ترويج لأفكار مسمومة سابقة التصنيع. بل هو ما كان يصف نفسه فقط، وإنما حفنة من الناس القليلين الذين دأبوا - في الفترة الأخيرة - على اصطناع الكراهية، واختلاق الأعداء، وتعميق صدع سطحي لم ترده الأغلبية من البشر، ليكون هناك صراع حضارات مفتعل، وحروب على جانبي صدع لم تخلقه طبيعة الأرض ولا حضارة الإنسان.

لقد وجدت نفسي أعود لكتاب هنتنجتون «صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي» The Clash Of Civilizations And The Remaking of world Order، وبرغم مرور عشر سنوات على صدور هذا الكتاب عام 1996، والذي لم يكن إلا تطويرًا لمقالة نشرها المؤلف نفسه صيف عام 1993 في مجلة Foreign Affairs وهو تاريخ سبق بسنوات حادث الحادي عشر من سبتمبر! ولم تكن عودتي إلى هذا الكتاب رغبة في مراجعة الموقف السلبي منه، بل كانت دهشة واستغرابًا لاستمرار سيناريو الإيقاع بالعالم الإسلامي في أتون صراع مفتعل، ودخول أناس جدد من الحفنة القليلة على خط هذه المحاولة، سواء بسوء نية أو بغباء وجهل شديدين، سواء بفلتات اللسان أو عن سابق إصرار وترصد. وكان الأخير على هذا المضمار شخصية دينية مرموقة، فجر حملة غضب عربي وإسلامي بحديث مستغرب منه، مستغرب بمحتواه، وبتوقيته، وبمقاصده. وقبل الخوض في هذه اللجة، لابد أن نتفق على أن بابا الفاتيكان بينديكت السادس عشر لا يمثل كل المسيحيين، كما أن الرئيس الأمريكي - بحسابات الديمقراطية الأمريكية نفسها - لا يعبر عن أفكار كل الأمريكيين، وكذلك هنتنجتون لا ينطق نيابة عن كل مفكري الغرب. وفي المقابل فإن بن لادن، والزرقاوي، والظواهري، ومن لف لفهم، لا يمكن أن يكونوا معبرين عن كل المسلمين، ولا حتى نسبة قليلة منهم.

وبرغم بداهة هذا الاتفاق، فإننا نجد أنفسنا - معظم المسلمين - وقد تم حشدنا، على الرغم منا، لنكون في جانب من جانبي صراع من صراعات خط الصدع - بتعبير هنتنجتون في «صراع الحضارات»، أما الصدع الذي تم حشدنا على إحدى ضفتيه، فهو الصدع بين الإسلام والغرب! كل الإسلام، وكل الغرب.

وحتى نتبين خلل هذه الظاهرة برمتها، تعالوا نرجع إلى نشأة هذا الصدع، ونراجع كيف تمت وتتم مجريات تعميقه وحشوه بمتفجرات الكراهية مريبة المصدر خطيرة الأهداف.

اختراع الأعداء

يتذكر كل من قرأوا كتاب «صدام الحضارات» بعين ناقدة أن هنتنجتون كان يريد من كتابه الوصول إلى نتيجة حددها سلفًا، وربما حُددت له في إطار البحث المؤسساتي الذي يريد رسم سيناريوهات للمستقبل تتوافق مع غايات بعينها، وهو نوع من البحث عجيب، يُخضع المعلومات لقراءات متعسفة ليصل إلى النتيجة المطلوبة، لا التوقع المحتمل. ومن هذه الزاوية كان خطاب صدام الحضارات مصرًا على الانطلاق من قواعد متباينة ليفرض مقولة «إن الديانات هي المعيار الأول لرسم الفوارق بين الحضارات»، ومن ثم يكون الصدام الديني حتميًا بين هذه الحضارات، ويتجلى الصدام بأقسى حالاته على جانبي ما أسماه «خطوط الصدع»، أي الخطوط الفاصلة بين الحضارات الدينية المتجاورة والمتباينة، وفي النهاية يصل إلى أن أوضح هذه الصدامات سيكون - أو ينبغي أن يكون! تبعًا لمنهجه الاستباقي - على خط الصدع الفاصل بين الإسلام والغرب، وهو خط ليس جغرافيًا بالضرورة، لكنه خط مواجهة بين الغرب والعدو الأول الذي حدده هنتنجتون بالإسلام، هكذا، كل الإسلام. وعلى الرغم من أن كتاب هنتنجتون أشار للحضارة الكونفوشيوسية - التي تمثلها الصين - كخصم مستقبلي للحضارة الغربية، فإنه اختص الحضارة الإسلامية بموقع «العدو الأول» ضمن ما أسماه «الحضارات المتحدية». وكان يعني بالتحدي، عدم الامتثال للمصالح والثقافة الغربيتين. وعلى الرغم من أن الكاتب حدد أن الدين هو «الخاصية الأساسية في التعريف بهذه الحضارات» وكان يعني ثماني حضارات هي: الحضارة الغربية، والحضارة الأرثوذكسية، والحضارة البوذية، وحضارة أمريكا اللاتينية، والحضارة الإفريقية، والحضارة الهندوسية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الكونفوشيوسية أي الصينية. ومن الواضح أن خاصية التعريف التي اعتمدها للتمييز بين الحضارات - أي الدين - لم يطبقها إلا مع الحضارة الإسلامية، في إخلال واضح بمعايير البحث، أي بحث جاد. وهو لم يكن جادًا إلا في إصراره على اصطناع عدو للغرب حتى لو اضطر لردم بحر من التاريخ الإنساني، ليعود بالبشرية وهي في مدخل القرن الحادي والعشرين إلى منطق الصراعات القبلية الغابرة، يقول: «الحضارات هي القبائل الإنسانية وصدام الحضارات هو صراع قبلي على المستوى العالمي. وفي هذا العالم المنبثق دولاً وجماعات من حضارتين مختلفتين ربما تشكل ارتباطات وتحالفات تكتيكية وذلك لخدمة مصالحها ضد كيانات من حضارة ثالثة أو لأغراض مشتركة أخرى، ولكن العلاقات التي بين جماعات من حضارات مختلفة لن تكون حميمة، فهي عادة باردة وغالبًا عدائية».

إن هنتنجتون في النهاية هو منظر سياسي مؤسساتي، وكاتب سيناريوهات سياسية مطلوبة، وحتى نعرف لماذا هي مطلوبة ينبغي أن نرجع إلى فترة سياسية حاسمة برزت فيها ضرورة العثور على سيناريو مستقبلي جديد. وهذه الفترة - في التاريخ القريب - هي انتهاء الحرب الباردة، التي مهّد لها انهيار الاتحاد السوفييتي - العدو الأول السابق للغرب - والذي لم يتداعَ - لأسباب عديدة من داخله قبل خارجه - إلا بعد هزيمة السوفييت في أفغانستان على أيدي «المجاهدين» ومنهم بعض العرب، وباستخدام «الصواريخ والدولارات الأمريكية» كما يعترف هنتنجتون في كتابه.

في هذه الفترة بدأت إعادة تشكيل السياسة الدولية، البرجماتية، أي التي يأتي فيها تماسك البعض من خلال وجود عدو، أو آخر ظاهر التحدي، ومن هذه الزاوية يقول هنتنجتون: «بعد الحرب الباردة أصبح يعاد تشكيل السياسة العالمية حسب الخطوط الثقافية، فالشعوب والدول ذات الثقافات المختلفة تأخذ في التباعد، والتحالفات المرتبطة بالأيديولوجيا وعلاقات القوى العظمى تترك طريقًا لتحالفات مرتبطة بالثقافة والحضارة. إن الحدود السياسية بدأ يعاد رسمها بشكل متزايد لكي تتوافق مع الحدود الثقافية والعرقية، والدينية، والحضارية. الالتزامات الثقافية آخذة في الحلول محل كتل الحرب الباردة، وخطوط الصدع بين الحضارات تصبح الخطوط الرئيسية للصراع في السياسة الدولية».

خرافة الحدود الدامية

خطوط الصدع هذه، كان نصيبنا منها هو الخط الأكثر دموية، وعلى حد تعبير هنتنجتون «حدود الإسلام الدامية»، وليبرهن على استحقاقنا لهذه القسمة يقول هنتنجتون: إن «الدول الإسلامية لديها نزعة للالتجاء إلى العنف في الأزمات الدولية، فلقد استخدم العنف لحل حوالي 76 أزمة من إجمالي 142 ما بين 1928 - 1979. ولع المسلمين بالقتال والعنف من حقائق القرن العشرين، والذي لا يستطيع المسلمون وغير المسلمين نفيه»!

وما أسهل نفي هذه المداخلة الجائرة فيكفي أن نتذكر الحروب والمذابح، التي لم يكن للإسلام ولا المسلمين فيها أي مساهمة، وهي التي توصف بكونها الأكثر دموية، خلال القرن العشرين الذي يسميه بريجنسكي «قرن المذابح المليونية»، فالذين قتلوا في حروب القرن العشرين حوالي 87 مليون إنسان، غير الجرحى والمعوقين والمشوهين الذين تقدر أعدادهم بنحو 33 مليون شاب، تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والثلاثين، فقد استهلكت الحربان العالميتان الأولى والثانية - اللتان اشتعلتا في الغرب - من العسكريين قرابة تسعة ملايين في الأولى، وتســـعة عــــشر مليـــونا فــي الــثانيـــة. أما الحروب الأخرى التي شهدها العالم خلال ذلك القرن فقد قتل فيها 6 ملايين من العسكريين، بينما وصل عدد المدنيين من ضحايا الأعمال العدائية إلى 13 مليونا من النساء والأطفال والعجائز في الحرب العالمية الأولى، وفي الحرب العالمية الثانية بلغ عددهم 20 مليونا، ويضاف إلى هؤلاء 15 مليون صيني مدني راحوا ضحايا في الحرب الصينية - اليابانية، التي جرت قبل الحرب العالمية الثانية، وما لايقل عن 6 ملايين مدني قضوا نحبهم في صراعات أخرى لا علاقة للمسلمين ولا الإسلام بها، مثل الحروب المكسيكية في مطلع القرن، والحروب بين بوليفيا وأروجواي (1928 - 1935)، والحرب الأهلية الإسبانية، والغزو الإيطالي لإثيوبيا، والحرب الأهلية الكورية، والحرب النيجيرية عام 1967. فأي دموية، وأي حدود دامية، وأي عنف، يريد هنتنجتون وأمثاله وصم الإسلام والمسلمين بها. إنها فرية ممعنة في التلفيق، ولاتأخذ في الحدود الدنيا بحقيقة أن مظاهر العنف، التي ألصقت بالعرب والمسلمين في معظمها كانت رد فعل لظلم فادح، أبرزه مأساة فلسطين والفلسطينيين.

ثم هل السيد هنتنجتون بحاجة إلى تذكيره بعداء الغرب للإسلام والمسلمين، والذي تمثل في الحروب الصليبية على بلاد المسلمين، ثم الموجة التالية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بالاستيلاء على العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه وتمزيقه بعد انتصارهم على الخلافة العثمانية؟

أقلية تختطف الأغلبية

ومع ذلك، ينبغي أن نعترف، بأن هناك من بيننا من ييسر على أمثال هنتنجتون وبرنارد لويس وأضرابهما مهمة وصم المسلمين بالدموية والعنف، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، التي تطوع بن لادن وأتباعه بزعم ارتكابها، وهي بكل المقاييس الإنسانية ومعايير الأخلاق الدينية والدنيوية، جريمة شنعاء في حق مدنيين منهم مسلمون وعرب، لا ناقة لهم ولا بعير في ارتكاب ما يبرر قتلهم على هذا النحو المرعب. وعلى المنوال نفسه، ينبغي إدانة مرتكبي الهجمات العدوانية على قطارات مدريد وقطارات الأنفاق في لندن، فضلا عن التفجيرات الخسيسة الدامية في أكثر من مكان في بلاد العرب والمسلمين. هذه كلها أعمال إجرامية ندفع ثمنها نحن العرب والمسلمين مرتين، مرة حين يحترق بعضنا بنيرانها، ومرة حين نوصم بالدموية والعنف من قبل المتربّصين بنا ويبقى أن مرتكبي هذه الأعمال الدموية من المسلمين، وبمزاعم إسلامية أحيانًا، هم قلة لا تبرر أعمالهم الجنونية والجانحة وصم أكثر من مليار مسلم بالدموية والإرهاب، وإلصاق صفة العنف بدين حنيف جوهره المسالمة بالحق، وأخلاقه الرحمة مع كل نفس إنسانية أيًا كان دينها وجنسها.

إن القلة من الجانحين المسلمين لا تبرر ظلم الأغلبية السوية، وشظايا الأعمال الإجرامية التي يرتكبها هؤلاء الجانحون بمزاعم دينية، لاتسوغ الاعتداء على رفعة دين سماوي وأكــثر من مليار إنسان يعتنقون هذا الدين الحنيف.

فالعنف والدموية ليستا خصيصتين إسلاميتين كما يريد البعض أن يدمغ هذا الدين والمنتمين إليه، كما أنهما ليستا خصيصتين غربيتين، بالرغم من قرن المذابح المليونية الغربية، لأن مرتكبي هذه المذابح أو المسئولين عنها هم أفراد قلة لا يمثلون الأغلبية، التي تحرقها الحروب وتأكلها المذابح. فمن أين تأتي سهام الاتهامات والافتئاتات إذن؟

فلتات وانفلات

الأمر المثير للتساؤل، هو تلك الرعونة التي ينتهجها بعض الغربيين ممن لا تليق بهم الرعونة في شأن جلل، يخص دين الإسلام، ويمس روح أكثر من مليار مسلم معظمهم مسالم ولا يعرف أبعد من السعي الطيب في هذه الحياة.

على الجانب الغربي، يمكننا أن نحتج على فلتات لسان مسئولين كبار كالرئيس بوش أو رئيس وزراء إيطاليا السابق بيرلسكوني، لكننا نظل نستغرب فلتات اللسان من أشخاص لديهم هذا الحجم من المسئولية الدولية، وفي شأن يتعلق بأكثر من مليار إنسان من سكان الأرض، بعضهم مواطنون في بلدان هؤلاء المسئولين أنفسهم. ويكون استغرابنا أكبر وأكثر عندما يتعلق الأمر بمرجعية دينية كبرى، بل الأكبر، لدى المسيحيين الكاثوليك في العالم. وهو أمر يتطلب التدقيق والتمحيص، ففي أوائل سبتمبر الماضي، ألقى البابا بنيديكت السادس عشر محاضرة في جامعة ريجينسبورج الألمانية عنوانها «الإيمان والعقل والجامعة: ذكريات وتأملات»، وبعد أن تحدث عن ضرورة إثارة مسألة الإيمان بالله عبر إعمال العقل، وفي سياق إرث الإيمان المسيحي، قفز إلى محاورة قال إنه تذكرها أخيرًا، وحدثت «ربما عام 1391» في الثكنات الشتوية قرب أنقرة بين الإمبراطور البيزنطي مانويل باليولوجوس الثاني، وفارسي مسلم متعلم حول مسألة المسيحية والإسلام وحقيقة كليهما. وأورد البابا سؤالاً جاء على لسان الإمبراطور البيزنطي عما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) وتضمن سؤال الإمبراطور - الذي وصفه البابا نفسه بالفظاظة - اتهامًا فظًا يلمح إلى انتشار الإسلام بالعنف.

بديهي أن نغضب لهذه القفزة، التي لم يكن هناك مبرر لها بإدخال الأديان في مقارنات، وبهذه الفظاظة، التي نقلها الحبر الأعظم عن الإمبراطور البيزنطي، في هذه المرحلة من المشاعر المتأججة لما يجري في أفغانستان والعراق ولبنان، وثارت عواطف العالم الإسلامي، وقدم البابا اعتذارًا ضمّنه استغرابه لردود الفعل لدى المسلمين.

جميل أن يعتذر البابا، لكن اعتذاره لا يعفيه من أنه ارتكب خطأ جسيمًا في حق دوره ومكانته، فهو ليس محاضرًا جامعيًا أكاديميًا يعبر حديثه عن بحث علمي يحتمل الجدل والنقاش، بل هو مسئول روحي لكلماته وزن وخطر. ومن المستغرب أن يدخل في مقارنات تجعله كمن يكرر آراء هنتنجتون التي سبقه إليها برنارد لويس.

ومع ذلك، فإن كل هؤلاء في الجانب الغربي، ومعهم من يماثلهم من جانبنا، هؤلاء المشعلون لفتنة الصدام بين الحضارات، أو إثارة حروب الصدع. ما هم إلا أقلية من كثرة كاثرة من البشر هم نحن، نحن مليارات سكان الأرض من كل الأجناس والأديان والمذاهب والمشارب، نحن الذين نقول بتسامح فطري وروحي «لكم دينكم ولي دين»، ينبغي ألا ننجر لهذه الصدامات وهذه الحروب، لأننا نقدّر قيمة الحياة، التي وهبها الله لمخلوقاته جميعًا، وهي هبة تستحق إعمال العقل، وإدراك الخطر، والتشبث بفضائل التعايش، والمسالمة التي تزدهر بها الحياة، كل حياة.

 

سليمان إبراهيم العسكري