نظرة على زنجبار

نظرة على زنجبار

عبق القرنفل، وهبّات من رياح «المانسون» الموسمية، حملت زنجبار - تلك الجزيرة الصغيرة - إلى أنحاء عالمنا الواسع منذ القرن الثامن عشر. فكانت مرآة حقيقية عكست ملامح العالم القديم واختزلته بصورة مثيرة، مليئة بالتجارب التاريخية والإنسانية المتراكمة منذ القدم. لقد كان هدفي الأساس وأنا أستعد للرحيل إلى زنجبار هو تسليط الضوء على حقبة من تاريخ هذه الجزيرة، كان الدور العربي والإسلامي دورًا بارزًا فيه، ولم يكن ذلك بالمهمة الهيّنة.

أمضيت قبل سفري أسابيع طويلة في عمليات التنقيب بين الوثائق، من أجل تكوين رؤية نقدية شاملة لتلك الحقبة، وكان من الصعب اختزال الدور العربي في زنجبار، وإقليم الشرق الإفريقي الذي امتد لأكثر من ألف عام في صفحات قليلة، لذلك، كان يجب أن تبدأ رحلتي من عمان، التي كانت النواة الأولى لولادة هذا التاريخ العربي العريق في الشرق الإفريقي، معتمدًا على ما فيها من وثائق وحقائق تعيد بناء هذا التاريخ بعيدًا عن التشوه. ولعلني أمام كل هذا الحجم من الوثائق لا أملك إلا أن أقول كما قال الفيلسوف الإيطالي أنطونيو بيللو: «كانت مهمتي هي مهمة الناسج فقط، ولا يمكنني أن أنسب لنفسي مزايا القطن والكتان».

فزنجبار الجزيرة التي تبلغ مساحتها 1600 كيلومتر مربع، الواقعة مقابل ساحل الشرق الإفريقي، ويقدر عدد سكانها حاليًا بنحو 300 ألف نسمة، كان لها موعد مع القدر والتاريخ معًا، فباتت نقطة لالتقاء حضارات وثقافات سادت، وتنافست وتعايشت معًا في حقب السلم والحرب، التقت فيها إفريقيا مع بلدان المحيط الهندي سياسيًا وثقافيًا وتجاريًا.

ووصفها الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو، أثناء زيارتها، بأنها «بلد العاج الكبير»، بعد أن اشتهرت بكونها عاصمة «سلطنة أفرو-عرب» Afro - Arab Daynasty حيث أرست مبادئ الدبلوماسية وأسس علاقاتها الخارجية آنذاك، فلعبت دورًا بارزًا لا يقل قدرًا عن نظيراتها من المدن الكبرى في وقتنا المعاصر مثل نيويورك أو زيورخ أو هونغ كونغ وغيرها من المدن.

فهذه الجزيرة - التي يعني اسمها باللغة العربية «أرض الزنج» - احتضنت الثقافات الفارسية والهندية والعربية والإفريقية فتمازج سكانها وتداخلوا الواحد بالآخر، يجمعهم روح التعايش السلمي وروح الطموح غير المتناهي لتحتل موقعًا بارزًا على الخريطة الكونية في العالم القديم. مفهوم تاريخي لا ينطبق على زنجبار التي نتحدث عنها بعد أن رسموا خطوط التجارة الدولية بين الغرب والشرق في مرحلة ما بعد اكتشاف طريق الرجاء الصالح ووصول البرتغاليين إلى الهند في ذلك العهد البعيد.

ولم تقف جزيرة زنجبار - التي تتمتع حاليًا بحكم «ذاتي» بعد قيام الاتحاد بين «أنجوجا وبمبا» اسمي الجزيرة باللغة السواحلية مع «تنجانيقا» لتصبح ما يعرف باسم الاتحاد «تنزانيا» - عند هذا الحد بل وظفت كل إمكاناتها البشرية والمادية توظيفا استثنائيًا، للوصول إلى غاياتها، ومن أجل تحقيق أحلامها الكبرى.

بيد أن السلطان سعيد بن سلطان الذي حكم الجزيرة بعد خروجه من مسقط، وهو لم يبلغ 18 عامًا ولمدة 50 عامًا متواصلة قام بإبرام أول اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد تدشين العلاقات الدبلوماسية الثنائية معها، وفتح قنصليتها بالجزيرة في عام 1833، وكذلك مع إمبراطورية التاج البريطاني في وقت لاحق من العام ذاته. في حين تم إبرام اتفاقيات مماثلة مع كل من فرنسا في عام 1844، ومع مملكة شمال ألمانيا قبل توحدها في عام 1854، أي قبل قرون زمنية من ظهور النظام الدولي الجديد والعولمة بمفهومها المعاصر.

كما أولى الزنجباريون أيضًا اهتمامًا بالنهضة الثقافية والفكرية إلى جانب اهتمامهم بالتجارة الدولية عبر إرساء قواعد ومفردات اللغة «السواحلية» التي تعني «الساحل» باللغة العربية، وامتزاجها باللغة الإفريقية لتكون اللغة الأولى في الساحل الإفريقي حتى يومنا هذا، حيث تم استقدام أول مطبعة في تاريخ الإقليم في عهد السلطان برغش بن سعيد من لندن 1870، فضلا عن جلب أخرى من الإخوة اليسوعيين من لبنان في عام 1872، لنشر الثقافة وتنشيط الحركة الفكرية وطباعة الكتب ونشرها بين أبناء الساحل.

ويقول السيد برغش بن غالب حفيد السلطان برغش بن سعيد الذي يوصف دائمًا بالسلطان التنويري، وكان ذا رؤية بعيدة المدى فاق بذلك جميع أقرانه: «إن الحديث عن زنجبار لا يمكن اختزاله بعدة كلمات، فزنجبار عوالم وأمم وأعراق فهي مدينة عالمية «Cosmopolitan» بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، وقبل أن تخلق المدن العالمية التي نعرفها اليوم بمرحلة زمنية طويلة».

بقعة صغيرة واعراق متعددة

ويضيف السيد برغش الذي ولد وترعرع في حياة بجزيرة زنجبار حتى الانقلاب الدموي في عام 1964 في حديث خاص لـ «العربي» أن «زنجبار كانت تجمع وتضم أممًا مختلفة وأعراقا إثنية متنوعة بشكل لم يشهد له التاريخ مثيلاً من قبل، من حيث الوجود على بقعة جغرافية صغيرة، لكنها لعبت دورًا مميزًا أثرى التجربة الإنسانية جمعاء».

فهي تضم أيضًا «أمما وثقافات وتراثا وطقوسا ثقافية ودينية، امتزجت بها الفارسية والعربية والهندية والإفريقية في إطار التعايش السلمي فيما بينها تحت مظلة السلام والأمن والاستقرار والازدهار. وهذا النسيج الأممي كان يحمل في طياته عطر القرنفل بين المنازل ذات الطابع المعماري القديم بعد أن حملت رياح «المانسون» الأسطول البحري الزنجباري بين شرق القارة الإفريقية والساحل الهندي وأطراف العالم المترامية، بما فيها العالم الجديد - القارة الأمريكية بشمالها وجنوبها على حد سواء».

فحمل الأسطول البحري - الذي يعد في مقدمة الأساطيل البحرية العالمية آنذاك شهرة وكفاءة وعددًا، من ناحية القطع البحرية - التوابل والعاج والذهب والغلاّت الزراعية بكل أنواعها وأشكالها إلى أقصاء رحبة من العالم.

ويشدد السيد برغش - الذي يعمل في الأعمال التجارية بعد حصوله على الإجازة الجامعية من جامعة الكويت في عقد السبعينيات بالقرن الماضي - في سرد انطباعاته وذكرياته عن الفترة التي عاشها بزنجبار «أننا عشنا كأسرة واحدة حقيقية متماسكة، دون الإخلال بالمفاهيم الأخلاقية السامية التي توجبها وتحث عليها التربية الحقّة».

لذا، كان الطفل أو الشاب الذي يخل بالنظم والقواعد الاجتماعية والأخلاقية المتعارف عليها ويرتكب خطأ ما يعاقب فورًا من قبل أفراد المجتمع، إلا أنه لا يستطيع العودة إلى منزله خوفًا من عقاب مضاعف ينتظره من قبل ذويه لمعرفتهم المسبقة بما ارتكبه، وهذا دلالة على قوة الصلات التي تربط أهل زنجبار بعضهم بعضا ، دون أي تمايز ديني أو إثني أو أي عامل آخر.

إن حالة السلام الدائم بين أفراد المجتمع الزنجباري ألقت بظلالها الخيّرة على سكان هذه الجزيرة الساحرة، إحدى أجمل جزر المحيط الهندي، لدرجة باتت أبواب المنازل مفتوحة ومشرعة على مدار الساعة، وأيام السنة، لاختفاء الجريمة من القاموس الاجتماعي آنذاك، دون أي مبالغة تذكر لتلك الحالة. إنني «أشعر بحنين دائم وأبدي ومتجدد لا يمكن وصفه والتعبير عنه لتلك الحياة الزنجبارية على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود زمنية من الهجرة إلى عمان، بعد سقوط حكم آخرالسلاطين البوسعيديين - السلطان جمشيد بن عبدالله بن سعيد»، موضحًا في الوقت نفسه «أننا عندما هجرنا إلى عمان خرجنا بالملابس التي كنا نرتديها فقط، وبكل صدق فالحال الذي فقدناه لم يعن لي شيئًا على الإطلاق أمام كل من كسرات خبز «موفا»، الذي كان يخبزه ويبيعه أهل حضرموت الذين أتوا من اليمن للتوطن في جزيرة زنجبار».

ويسترجع السيد برغش أحد أفراد الأسرة البوسعيدية المالكة بسلطنة عمان ذكريات الطفولة والصبا التي أمضاها في الجزيرة الخضراء، كما يحلو لسكانها في وصف زنجبار، فيتذكر مساحة الحرية التي يتمتع بها، حيث يخرج في الساعات الباكرة من صباح كل يوم من منزل العائلة، الذي يبتعد بضعة أمتار عن ساحل البحر للسباحة بشغف كبير مع أقرانه حتى المساء، لينضم بعدها للاستمتاع بالحديث مع بقية أفراد عائلته وأصدقائه أثناء وجبة العشاء.

كما أنه يتذكر أيضًا الرائحة الزكية التي تحملها الوجبات الغذائية الزنجبارية، وأصنافها المختلفة الغنية بالتوابل فكان يحصل بسعادة على بعض هذه الأطباق الشهية عند زيارة أصدقائه من أبناء الجالية الهندية والمسيحية، الذين كانوا يعيشون بمحبة واحترام إلى جانب أبناء الجالية الإسلامية والإفريقية دون أي تمييز.

ويشير في هذا الصدد إلى أن «أصوات الباعة الجائلين كانت بمنزلة أوبرا موسيقية حقيقية للتمايز والتباين اللغوي والصوتي، فهي لاتزال تسكن في أعماق النفس، لذا أحرص دائمًا على زيارة الجزيرة بصورة مستمرة، تصل إلى أربع مرات في العام الواحد، وربما أكثر في بعض الأعوام، بهدف إشباع هذا الحنين الطفولي القابع في أرجاء الذاكرة والروح حتى هذه اللحظة».

الاستعمار يقوض السلام

وحول الأسباب والعوامل التي أدت إلى تقويض وسقوط فترة حكم البوسعيديين في زنجبار بمرحلة زمنية لاحقة، يقول الأمير الزنجباري الذي سمي برغش تيمنا بالسلطان برغش بن سعيد: «إن القوى الاستعمارية وفي طليعتها بريطانيا عجزت عن فرض سيطرتها على هذا الإقليم الغني بثرواته الطبيعية لما يتمتع به من موقع استراتيجي مهم في ظل حالة السلام والاستقرار التي تجمع أطياف المجتمع الزنجباري.

لذا، بدأت بزرع بذور الشقاق والفتنة بين هذه الجماعات الإثنية المتعددة، مستخدمة كل الذرائع، المشروع منها وغير المشروع، في ظل التنافس الشديد بين القوى الأخرى على مناطق النفوذ والحدود المتاخمة لها، وعندما نجحت في الإخلال بمبادئ التعايش السلمي - الذي ساد أكثر من قرنين من الزمن، من خلال إثارة الفتن - فرضت سيطرتها على الإقليم في نهاية المطاف.

وأذكر أن جدي الأكبر سعيد بن سلطان لم يغز زنجبار أو قام باحتلال الشرق الإفريقي، كما يحاول أن يصور المؤرخون الغربيون لتحقيق طموحاتهم السياسية الاستعمارية، بل جاء إلى هنا بناء على طلب تقدم به سكان هذا الإقليم بعد طرد وهزيمة البرتغاليين من عمان وإخراجهم من مضيق هرمز فاستقر في أول الأمر بمدينة ممباسا الكينية ثم قرر الإقامة في فترة زمنية لاحقة بجزيرة زنجبار، على الرغم من أنها لم تحظ بأي أهمية تذكر من أي نوع آنذاك كما تشير الوثائق التاريخية.

إلا أنه كان صاحب رؤية شاملة ونظرة ثاقبة بحكم ممارسة الأعمال التجارية فجعلها أسطورة خالدة في الذاكرة الإنسانية على مختلف الحقب الزمنية المتعاقبة، بل خلق واقعًا سياسيًا واقتصاديًا جديدًا تعاملت على ضوئه الإمبراطوريات الاستعمارية المتنافسة في أوربا القديمة بكل احترام دون إخلال». مؤكدا أن «المؤرخين الأوربيين لم يتصفوا بالموضوعية العلمية المطلوبة وهم في سعيهم لتحليل سلسلة من الأحداث الجسام والمتغيرات الهائلة التي شهدتها الساحة السياسية الدولية بهذا العصر».

وأعرب بهذا الشأن عن استيائه الشديد وألمه العميق عندما يتحدث هؤلاء المؤرخون أيضًا عن القصف البريطاني لجزيرة زنجبار، وتصويرها على أنها معركة لإجبار سلطانها على تحريم تجارة الرقيق المزدهرة بالجزيرة لأنها «لم تكن معركة حقيقية بل يمكن وصفها بأنها معركة من جانب واحد، لأن السلطان لم يطلق رصاصة واحدة باتجاه البارجات البريطانية المهاجمة»، وهذا دليل آخر على محاولات التشويه، التي تهدف إلى النيل من الدور العربي في هذا الإقليم». واستطرد السيد برغش بن غالب قائلاً: إن المعطيات التاريخية التي أوردتها في سياق حديثي السابق لم تنل أو تقلل من شأن سلالة وأسرة سعيد بن سلطان، على الرغم من مساحة الجانب التراجيدي، الذي تعرضت له من حملات التشويه لينال من صورتها بعد زوال حكمها على هذه الجزيرة، التي كانت في قلب الأحداث والتاريخ دائمًا.

فزوال الحكم في شرق إفريقيا لم يشكل كارثة أو طامّة كبرى بالرغم من مرارته على أسرة البوسعيديين.. فكما بعث إليها من قبل السلطان سعيد بن سلطان بعثها إليها مجددًا السلطان قابوس بن سعيد ليكمل رسالة الآباء والأجداد، وليضع سلطنة عمان من جديد على الخريطة العالمية، ولتكون لاعبًا رئيسيًا وصانعًا ماهرًا في رسم جملة من الأحداث المهمة شهدها الربع الأخير من القرن الماضي.

زنجبار ليست الأندلس

وبعد النقاط المؤثرة التي تناولها السيد برغش بن سعيد في حديثه الشائق بصفته أحد أفراد الأسرة البوسعيدية الذين ولدوا وعاشوا طفولتهم ومرحلة من شبابهم في جزيرة زنجبار، ثم هجرتهم بعد التغير الكبير إلى الوطن الأم عمان، ليواصلوا مسيرة العطاء وليكملوا مسيرة الآباء والأجداد من جديد، أنتقل إلى لقاء الإعلامي العماني محمد المرجبي أحد القائمين والمنفذين لسلسلة من الحلقات التلفزيونية التوثيقية، أنتجها التلفزيون العماني وعرضها عام 2002 عرفت باسم «أثر الوجود العماني في زنجبار والساحل الشرق إفريقي»، والتي لاقت نجاحًا منقطع النظير من قبل المشاهدين باعتبارها الأولى من نوعها، كما أنها حظيت باهتمام كبير من قبل المختصين والأكاديميين المهتمين بدراسة هذا الجانب من التاريخ لما تتمتع به من موضوعية وارتفاع مستواها المهني والعلمي.

ويقول السيد المرجبي في تطرقه إلى جانب آخر من تاريخ الساحل الشرق إفريقي، يتناول فيه تاريخ الوجود العربي من الصومال إلى موزمبيق، فضلاً عن قيام الإمبراطورية العمانية التي عرفت تاريخيًا باسم سلطنة عمان وزنجبار: «إن العرب العمانيين لم يرتكبوا الخطأ التاريخي الفادح الذي وقع فيه العرب عندما فتحوا الأندلس.

فقد عمل العرب الذين حكموا زنجبار ومدن الشرق الإفريقي لقرون متواصلة بصورة مغايرة لذلك، حيث لم يجبروا السكان الأصليين على دخول الإسلام بل أتاحوا لهم الوقت الكافي فدخلوا فيه عن قناعة بعد التعايش السلمي «لذا بقي الإسلام حتى بعد سقوط الحكم وخروج العرب الممثلين بالعمانيين من الساحل الشرق إفريقي».

الإسلام مازال موجوداً

فالإسلام لايزال موجودًاحتى يومنا هذا في الإقليم الاستراتيجي من القارة السوداء، بالرغم من كل الحملات التبشيرية التي عملت بصورة منهجية منذ عقود زمنية لإزالته كدين من الذاكرة الإفريقية، «إلا أن شعوب المنطقة وجدت في هذا الدين هوية ذات بعد عالمي لا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عنها والتضحية بها».

كما فشلت أيضًا كل محاولات التشويه التي تبنتها بعض الحركات السياسية الإفريقية المعاصرة، عبر تقديم برامج لبناء مجدها السياسي على أسس من التفريق الإثني والعرقي بين العربي والإفريقي، ويشير السيد المرجبي - الذي يعتزم تنفيذ مشروع تلفزيوني جديد يتناول فيه أحد جوانب التاريخ العربي الإفريقي - إلى أن الوجود الثقافي والحضاري الأفرو - عربي لم ينقطع ولايزال يتواصل ويتفاعل على عدة مستويات مع هذا الوجود الممتد منذ أكثر من ألف عام، وفقًا للآثار والشواهد التاريخية المكتشفة من قبل بعثات دولية متخصصة.

ويرجع أسباب هذا الوجود الممتد إلى أن العرب العمانيين ركبوا البحر منذ القدم، وبدأوا في اكتشاف مدن الساحل الشرقي، فخلقوا مجتمعات استيطانية صغيرة بدأت تكبر بمرور الزمن بالتعايش السلمي وتوالي الهجرات من عمان الداخل، رغبة من سكانها في الانفتاح على الخارج، بينما بقي سكان الساحل العماني على الرغم من صلتهم الوثيقة في مدنهم. فعلى سبيل المثال بقي أهل صور بمدينتهم على الرغم من أنهم يتكلمون اللغة السواحلية فكرًا ولغة وتجارة بفضل تعاملهم الممتد مع الأفارقة الشرقيين.

وفي نهاية الأمر أصبح الساحل الشرق إفريقي، والذي بدأً من الصومال في القرن الإفريقي وحتى موزامبيق، يوجد فيه العرب ويتعايشون مع الأفارقة، حتى أنهم أطلقوا على الأخيرة «سافلة» نسبة إلى موقعها الجغرافي في الأسفل أو الجنوب، تمامًا كما يطلقون هنا التسمية نفسها على مناطق الوديان، و«العليا» على المناطق الجبلية أو المرتفعة عن مستوى سطح البحر.

إلا أن هذا الموضوع شهد تغيرًا جذريًا عندما تولى السلطان سعيد بن سلطان مقاليد الحكم، فقامت الإمبراطورية العمانية التي ضمت كلاً من سلطنة عمان وزنجبار، لتكون بمنأى عن التدخل أو الخضوع للقوى الخارجية، فالتاريخ العماني يشهد بذلك منذ الأزل مرورًا بقيام الخلافة الإسلامية، حيث رفضت الخضوع لدولتين هما الأموية والعباسية، وأخيرًا الإمبراطورية العثمانية، حتى تكون بعيدة عن التجاذب السياسي أو الصراعات التي سادت تلك المراحل التاريخية.

فازدهرت هذه الإمبراطورية في عهد السلطان سعيد، بعد اكتشاف شنلتن «القرنفل» أثناء زيارته لإحدى جزر المحيط الهندي، القريبة حاليًا من «موريش» فعرضها على رعاياه العرب دون الأفارقة لخلق أجواء تنافسية بينهم، فكان يأمر بزراعة ثلاث شتلات من القرنفل مقابل شتلة من جوز الهند، إحساسًا منه بأنها ستكون إحدى أهم الغلات الزراعية، التي سيقوم عليها فيما بعد الاقتصاد الوطني عبر تدشين تجارة التوابل العالمية، والمستمرة حتى يومنا هذا.

فأصبحت زنجبار أحد أهم مدن ساحل الشرق الإفريقي، وفي طليعة العواصم الكبرى، التي تتطلع إليها الأبصار، حالها حال المدن الكبرى في عالمنا الراهن، لذا أرسل سلطانها ماجد بن سعيد في عام 1865 مبعوثه الخاص أحمد بن نعمان الكعبي إلى الولايات المتحدة ليكون أول سفير معتمد لديها، مبحرًا على متن سفينة «سلطانة» إحدى أهم قطع أسطوله البحري، الذي يجوب البحار وأعاليها آنذاك.

وحول أسباب تراجع الدور العربي في زنجبار ومدن الساحل الإفريقي - فالتاريخ دوراته تتراوح بين الازدهار والاضمحلال - يشير الإعلامي العماني في حديثه إلى أن تقطيع أوصال هذه الإمبراطورية، التي حظيت بمكانة عالمية غير مسبوقة، بدأ مباشرة بعد وفاة السلطان سعيد، الذي كان ينتقل خلال فترة حكمه المديد بين مسقط وزنجبار.

فكان يعين ابنه ماجد نائبًا له في زنجبار أثناء وجوده في الساحل العماني، ويعين ابنه ثويني نائبًا له في مسقط أثناء وجوده في الساحل الشرق إفريقي.

وفي ظل احتدام الصراع السياسي بين الشقيقين- ماجد وثويني - أتيح للإمبراطورية البريطانية التدخل ومنحت الفرصة التاريخية، التي طالما انتظرتها لتقطيع أوصال هذه الإمبراطورية التي نافستها على الطرق التجارية الدولية البحرية دون هوادة، عندما أبدت تسوية أبرمتها بينهما، بناء على طلب تقدم به ماجد قضى بموجبه تعيينه سلطانًا على زنجبار، ليكون شقيقه ثويني سلطانًا على مسقط، في ظل تمرّد الشقيق الثالث برغش الذي نفي إلى الهند في العام 1864، بعد فشل محاولته للاستيلاء على السلطة وإقصاء شقيقه ماجد عن الحكم.

صراع على السلطة

إلا أن برغش اختير سلطانًا لزنجبار بعد وفاة شقيقه ماجد في عام 1870 ولغاية 1888، بسبب الشعبية الكبيرة التي حظي بها من قبل سكان الجزيرة، مستفيدًا من فترة إقامته بالهند التي تجاوزت السنوات الست واطلاعه على أوجه الحياة المزدهرة هناك، الأمر الذي أدى لقيام نهضة تنويرية شاملة شهدتها الجزيرة في عهده لاتزال آثارها قائمة (حتى هذه اللحظة).

مبينا أن «الصراع على السلطة بين الأشقاء من أبناء السلطان سعيد بن سلطان لم يؤثر على العلاقات الأسرية التي ربطت أبناء أسرة البوسعيدية، «بعد الانفصال بين العاصمتين - مسقط وزنجبار - في مراحل زمنية متعاقبة على ذلك، حيث سعيا إلى توثيق أوجه التعاون المشترك بينهما، بما فيها الانتقال وحرية الإقامة، بدليل أنه تم اختيار حمد بن ثويني من مسقط سلطانًا على الجزيرة في الفترة من 1893 ولغاية 1896.

واستمر ذلك الوضع حتى قيام حكم السلطان جمشيد بن محارب، الذي لم يستمر أكثر من شهرين، بعد نجاح حركة انقلابية نظمت ضده في 14 يناير عام 1964، وبالرغم من قصر فترة حكمه فإنه أرسل أول سفير عربي يمثل ساحل الشرق الإفريقي وزنجبار، كسابقة أولى من نوعها في تاريخ الإقليم، وممثلا له لدى الجمهورية العربية المتحدة إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

تجارة الرقيق وزنجبار

إن الولوج في قضية تجارة الرقيق في ساحل الشرق الإفريقي وزنجبار شائك ومعقد للغاية، لاختلاف مفاهيم وأسس هذه التجارة التي حرّمت دوليًا بعد إبرام وثيقة بروكسل الشهيرة في عام 1890 عند أطرافها الثلاثة العرب والأوربيين والأفارقة، فضلا عن اختلاف أشكالها، إنه أشبه ما يكون بالسير في حقل مليء بالألغام عليك اجتيازه للوصول إلى الضفة الأخرى.

فمفهوم هذه التجارة التي تناولتها عدة دراسات بصورة معمقة ومن عدة زوايا مختلفة عند العرب ينطلق من مبدأ الخدمة المؤداة مقابل أجر مالي يقدر مسبقًا، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم الإخلال بمبدأ الحرية الخاصة، لذا ترى هؤلاء المستخدمين يقيمون مع هذه الأسر، كما دللت الأميرة سالمة بنت سعيد في كتابها الشهير بعنوان «أميرة عربية» الصادر باللغة الإنجليزية في عام 1888.

بينما يختلف هذا المفهوم كليًا لدى الأوربيين، فقد ساهمت هذه التجارة في مراحل زمنية تالية بوجود طبقة اجتماعية في المجتمع الأبيض عرفت بـ «الإفريقية»، فهم يطلبون من المستخدمين أداء الخدمة المطلوبة منهم دون إعطائهم مقابل مادي، مع وضع سلسلة من القيود تحد من حريتهم الخاصة، وذلك لحاجتها الماسة للأيدي العاملة، لبناء ثورتهم الصناعية في القارة الأوربية وبالعالم الجديد القارة الأمريكية بشقيها الشمالي والجنوبي منها.

أما الجانب الإفريقي - والمعني به داخل القارة الإفريقية والمدن التي تقع خارج إطار المدن الساحلية - فهو يرى أن هذه التجارة رافد مهم لتنامي وازدهار موارده المالية، بسبب عدم قدرته على التعامل ومواكبة عوامل الإنتاج الجديدة المتمثلة في ركوب البحر للتجارة أو الاشتغال بالزراعة التي بدأت تنتشر على نطاق واسع بهذا العهد بالمدن الساحلية.

فضلاً عن أن هذه تجارة تشكل جزءًا من العادات الإفريقية المؤثرة منذ القدم، حيث دأبت على سبيل المثال قبيلة وغوغو «Wagogo» على بيع أطفالها إلى قبيلة واماسي «Wamasai» في أوقات الشدة والجوع، بينما كانت القبائل ذات النفوذ الواسع تلجأ إلى استعباد أبناء القبائل المهزومة، كحال قبيلة التوتسي لقبيلة الهوتو. ويكفي تذكر المآسي الإنسانية القاسية التي شهدتها كل من رواندا وبوروندي قبل سنوات ليست ببعيدة الناجمة عن الحقد المتجذّر بين هذه القبائل الإفريقية، ورغبة كل منها في الانتقام من الأخرى.

إلا أن تحميل مسئولية هذه التجارة التي انتهكت أبسط مبادئ حقوق الإنسان - التي نصت عليها جميع الأديان السماوية - لطرف دون الآخر، كما سعت بعض المصادر الأوربية الغربية، يبقى خارج الأطر الموضوعية والعلمية المتعارف عليها ويجانبه الصواب أيضًا، لأنها مسئولية مشتركة لا يمكن عزل أحد فصولها عن الآخر أو تحميلها لطرف دون الآخر.

وقبل البدء، جالت في خاطري كلمات الزعيم الجنوب إفريقي نلسون مانديلا أحد أبرز الزعامات الإفريقية قاطبة في التاريخ الحديث، واصفًا فيها ذكرى مرور عشرين عامًا على سجنه في جزيرة روبن آيلند الشهيرة الذي امتد لمدة 27 عامًا: «إن أعظم ما في الحياة ليس في عدم السقوط بتاتًا، بل بالوقوف بعد كل سقوط».

ولتوضيح أبعاد هذه القضية المهمة في تاريخ الساحل الشرق إفريقي بصورة عامة - وزنجبار بصورة خاصة - التقت «العربي» مع الباحث الأكاديمي د.إبراهيم نور البكري صاحب عدة مؤلفات ودراسات مهمة تتطرق إلى الشئون الإفريقية ليدلي بشهادته في سياق هذا الاستطلاع الصحفي.

فيقول إن قضية حقوق الإنسان وتجارة الرقيق كانت في طليعة القضايا التي استخدمت من أجل طمس هذا الدور النهضوي العربي، مشيرا إلى أن السلطان سعيد بن سلطان كان أول الساعين للتصدي لهذه التجارة عندما أصدر أمرًا سلطانيًا في عام 1822، يحرّم فيه تجارة الرقيق، إلى الدول المسيحية الكاثوليكية، وفي مقدمتها فرنسا التي كان لها وجود بارز وحيوي في زنجبار خلال تلك الفترة الزمنية.

إلا أن الفرنسيين بدأوا بالتهديد في استخدام القوة العسكرية ضد السلطان سعيد في حال عدم تراجعه عن أمره، حيث خضع لهم في نهاية الأمر لعدم قدرته على تحمل تبعات هذه المواجهة العسكرية غير المتكافئة، وبالتالي «فإن الأوربيين هم من كانوا في مقدمة من ساهم في ترويج هذه التجارة غير المشروعة، التي حرّمها الإسلام منذ عهد الرسالة المحمدية بصورة قطعية ومطلقة».

وأنا «سوف أقبل جدلاً بصحة المعلومات الواردة في المصادر الغربية عن مسئولية العرب وحدهم عن هذه التجارة لجلبها إلى منطقة الخليج العربي، متسائلاً في الوقت ذاته أين وجود العنصر الإفريقي في المجتمعات الخليجية المعاصرة؟! فوفقًا للإحصائيات الرسمية لا يشكلون واحدا في المائة من إجمالي السكان».

مشددًا على أنه «لا جدوى اقتصادية أيضًا حتى يتم جلب هؤلاء الرقيق إلى المجتمعات الخليجية ذات الطبيعة والبيئة الصحراوية الطاردة، حيث يعمل سكانها في البحر ورعي الماشية بما فيها بلاد فارس، وبصورة تختلف تمامًا عما هو سائد في ساحل الشرق الإفريقي، الذي يعمل سكانه في الزراعة وبيع الغلات الزراعية الشهيرة، في حين لم تمارس الزراعة هنا إلا على نطاق ضيق للغاية».

ويستطرد د. البكري الذي عمل أستاذًا زائرًا في عدة جامعات إفريقية - لإتقانه اللغة السواحلية إلى جانب عدة لغات إفريقية أخرى - في حديثــه لـ «العربي» قائلا: إذا حللنا المعطيات السابقة بصورة علمية بحتة فسنجد أن الوجود الإفريقي في البرازيل وحدها فقط بلغ مائة مليون نسمة من إجمالي عدد السكان، ناهيك عن الدول الغربية الأخرى، وهي تفوق بذلك نيجيريا البلد الإفريقي الأكبر بالقارة السوداء، حيث يصل عدد سكانه نحو 110 ملايين نسمة.

وهذا دليل آخر على أن تجارة الرقيق كانت رائجة في الغرب الإفريقي أكثر منها في الشرق وزنجبار، بحكم الموقع الجغرافي المطل على المحيط الأطلسي، مما ينسف المقولات الواردة في الدراسات الأوربية التي اعتبرت المجتمعات العربية الشرقية هي أساس قيام هذه التجارة، التي أثارت حالة من الجدل المتواصل منذ أكثر من قرنين من الزمن.

وننبه إلى أن «كتابات الرحالة الأوربيين والإرساليات التبشيرية التي استعانت بالخدمات اللوجستية، التي قدمها المغامر العماني الشهير في أدغال إفريقيا - حمد بن محمد المرجبي المعروف «تيبو تيب» - أشارت إلى أنه كان يدفع المال والأجرة للأفارقة الذين يكلفون حمل الأمتعة والمعدات اللازمة لإيصالها إلى موانئ مدن الساحل المزدهرة».

بينما كان الأوربيون يجبرون الأفارقة على القيام بالمهام الشاقة نفسها بصورة السخرة، ودون دفع أتعاب مالية مقابل العمل ذاته، وهذه مفارقة أخرى تبين بصورة جلية مدى الاختلاف بين مفاهيم التعامل، التي تجمع العربي مع الإفريقي من جانب، والأوربي الذي يعد العامل الحيوي لازدهار هذه التجارة عبر إقامته أسواقا لها، وتقديم وتوفير الموارد المالية لاستمرارها مدة زمنية طويلة من جانب آخر.

الثقافة العربية في الجزيرة الإفريقية

إن الأثر الثقافي في ساحل الشرق الإفريقي وزنجبار بقي شامخًا كشموخ التاريخ، لا يستطيع أحد طمسه أو تجاهله لتجذره وتداخله في النسيج الإفريقي، ولا يمكن فصل عنصر عن الآخر. بدأ باللغة السواحلية، التي باتت اللغة الأولى في هذا الإقليم عندما امتزجت مفردات اللغة العربية بالمفردات الإفريقية السائدة بمدن الساحل.

مرورًا بالآثار والصروح والقصور التاريخية، التي شيدها العرب خلال تعايشهم الدائم في الساحل الشرقي، لتكون أيضًا شاهدًا ثقافيًا ومعماريًا ذات طابع مميز، والتي يأتي في مقدمتها المدينة القديمة ston-town والميناء الرئيسي وقصر العجائب الذي اعتبرته منظمة اليونسكو الدولية ضمن قائمة المباني الأثرية والتاريخية التي يجب الحفاظ عليها، لكونها علامة مضيئة في تطور التاريخ الإنساني الحضاري.

إلا أنني آثرت في هذا المحور التركيز على الصحافة العربية المهاجرة في زنجبار، كأحد آثار الثقافة العربية، دون الجوانب الأخرى، التي تم التطرق إليها في دراسات وتقارير مستفيضة صدرت سابقًا، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم التقليل من أهميتها التاريخية، لما تحمل في طياتها من مؤشرات ثقافية وفكرية وحضارية متجذرة، قل تكرارها في التجارب العربية المماثلة.

وقال الأكاديمي العماني مؤلف كتاب «الصحافة العمانية بالمهجر» د. محسن الكندي في حديث لمجلة «العربي»، إن الحوار الحضاري والثقافي العربي والعماني مع الشرق الإفريقي لم ينقطع منذ الهجرات الأولى، «لذا عندما يأتون لزيارة هذا المكان، لا يشعرون بالغربة على الإطلاق، لأنه مكان مألوف لهم عبر قرون زمنية متواصلة ودون أي انقطاع».

وهذه «الألفة الحقيقية ولدت من الجذور، ومن يولد من الجذور، له تواصل أعمق وأشمل على الدوام». لذا ولدت الصحافة العربية العمانية في المهجر، وزنجبار تحديدًا، كنتيجة طبيعية وحتمية لهذا التواصل مع الآخر، فكان صدور صحيفة «النجاح» في عام 1911 تتويجًا وبداية لصدور قائمة طويلة من الصحف مماثلة وصلت إلى 11 صحيفة». إن «صدور هذه الصحف وتوليها المهام التنويرية، لم يكن بالمهمة السهلة كما نتصور نحن، بل كانت صعبة للغاية، لأنها انبثقت من تحولات هائلة على المستويين السياسي والاجتماعي، فحددت مساراتها وفقًا للإمكانات المادية والبشرية المتاحة أمامها، كما كانت تعبيرًا صادقًا عن حال الحنين غير المتناهي للوطن الأم عمان».

وأوضح أن الشيخ أبا مسلم البهلاني رأس هيئة تحرير أول صحيفة عربية عمانية في زنجبار، أطلق عليها اسم «النجاح»، حيث كان حزب الإصلاح أحد الأحزاب السياسية المؤثرة في الحياة الزنجبارية السياسية في ذلك العصر، يمول صدورها منذ عام 1911 بعدد صفحاتها الأربع، تلاه فيما بعد الشيخ ناصر بن سليمان المكي في عام 1914 كثاني رئيس تحرير يتولى القيام بهذه المهمة.

وعدّد الدكتور الكندي في حديثه لـ «العربي» أبرز الصحف العمانية، التي صدرت في فترات زمنية متعددة، وهي «النادي» الصادرة في عام 1911، و«الفلق» عام 1929، و«النهضة» الصادرة في عام 1947، إلى جانب صحيفة «الإصلاح»، التي صدرت في وقت لاحق من العام ذاته، فضلاً عن كل من صحيفتي «المرشد» الصادرة في عام 1950، و«الأمة» عام 1958، التي توقفت نهائيًا بعد الانقلاب عام 1964 الذي أنهى عهد حكم أسرة البوسعيدية في زنجبار نهائيًا.

فهذه الصحف تناولت العديد من الموضوعات، التي شكلت هاجسًا لدى أبناء الجالية العربية المهاجرة، وما صاحبها من قلق سياسي واجتماعي وثقافي بسبب ما أفرزته الحربان العالميتان، الأولى والثانية، من متغيرات مهمة، لذا كان هاجسها الأول الحفاظ على كيان الهوية العربية باعتبارها هوية الأمة، والعمل بشكل جاد لجمع الشمل، ومنع التشتت والتبعثر مستقبلاً.

آفاق الحوار العربي - الشرق إفريقي

وبعد المحاور الرئيسية السابقة، التي شكلت في صيرورتها مكونات هذا التقرير الصحفي الساعي إلى إبراز التاريخ العربي في زنجبار وساحل الشرق الإفريقي، يأتي الحديث في محوره الأخير عن الآفاق المستقبلية للعلاقات العربية الشرق إفريقية، ونحن في بداية العقد الأول من القرن الجديد.

وقد يتساءل القارئ الذي تابع المحاور السابقة، وتتبع مسيرة الوقائع والأحداث المهمة، التي شكلت البنى الأولى لقيام هذه العلاقة الثنائية الممتدة من قلب التاريخ، ماذا نريد نحن من زنجبار والساحل الإفريقي؟ وماذا يريدون هم منا في هذا الإقليم؟ بعد كل ما جرى وحدث لتدشين حقبة جديدة من العلاقات الثنائية؟

فالتاريخ له دورات وجولات. الصعود منذ قدم الوجود لتكوين المجتمعات وقيامها وتأسيس نهضتها الشاملة عبر التعايش السلمي والوصول إلى ذروة القمم الحضارية والمدنية المرادفة لهذه المرحلة، كما أن له دورات هبوط تبدأ بالتفكك والصراع المحتدم، فينتهي بهذه الإنجازات الكبرى إلى الاضمحلال والسقوط، وما ينطبق على مسيرة التاريخ بصورته الشمولية، ينطبق أيضًا على أجزائه الخاصة التي منها تاريخ هذا الإقليم.

إلا أن هذا السؤال لايزال ملحًا وضروريًا أكثر من أي وقت مضى، والإجابة عنه يمكننا من خلالها وضع تصور يدفع إلى تدشين حقبة جديدة من العلاقات الثنائية تتسم بروح العصر، الذي يقوم على أسس فلسفية متجددة، تهدف إلى تقوية نقاط الالتقاء والعمل على تذليل ومعالجة نقاط الاختلاف، عبر تكوين رؤية شاملة لجملة من المصالح الحيوية المشتركة تجمع الجانبين.

إن تاريخ زنجبار وهذا الإقليم الإفريقي والوجود العربي فيه، الذي شهد هذه الدورة التاريخية الأزلية، بدأ بتكوين المجتمعات، وتراكم الخبرات فيها، لتكون القوة الحقيقية لانطلاق نهضة شاملة عبر التعايش السلمي بين الأعراق والإثنيات، فذاع صيته ليطوف أقصاء الأرض، ثم جاءت دورة التراجع بعد أن دب الصراع، وسادت الفتن وازداد الاضطراب والتشتت، حتى بلغ مداه بالسقوط الكبير، وتأثيره على الجميع دون أي استثناء.

ولتحقيق هذا الهدف النبيل، يجب على الجانبين التوقف عند المنعطفات التاريخية المفصلية، من أجل دراستها بصورة موضوعية بعيدة عن الأهواء أو المصالح الخاصة الضيقة، وهي مهمة شاقة بغير ما يتصورها البعض، لأنها تتطلب منا تشكيل نقد ذاتي بناء ذي شفافية عالية، كما أنه أيضًا بحاجة ضرورية إلى فتح حوار ثنائي إيجابي بغية الوصول إلى هذا الهدف المنشود.

دعوة للحوار

إن تأسيس مثل هذا الحوار المفقود منذ عقود بين العربي والشرق إفريقي، سيكون له أثر كبير في طي الصفحات المظلمة، التي سادت بعض جوانب هذه العلاقة الثنائية، ويساهم في إبراز الوجه المشرق الحضاري الذي ساد هذه العلاقة في جميع المجالات، وعلى مختلف الأصعدة، ليعود بالفائدة على الجميع في نهاية المطاف.

وللوصول إلى السبل المثلى لتأسيس هذا الحوار، يتحدث الأستاذ المساعد في جامعة السلطان قابوس بن سعيد الدكتور محمد المحروقي في لقاء خاص لـ «العربي»، فيقول «إن الواقع الجديد الذي أفرزته هذه المرحلة التاريخية، يتطلب التعامل معه بواقعية وصدق، فالتاريخ لن يرجع إلى الوراء، وقيام دولة موحدة كالتي سادت في زنجبار ومدن ساحل الشرق الإفريقي بعيد المنال، ولا عودة له مستقبلاً».

وأن «هذه الدعوة تنطلق أساسًا من محاولة واقعية لفهم ذاتنا قبل فهم الآخر، ولفهم الدور الحضاري والثقافي للوجود العربي في شرق القارة الإفريقية ومساهمته في إثراء الحياة الحضارية والمدنية، بالرغم من المحاولات المغرضة، التي حاولت تشويه هذا الدور». إننا نتطلع إلى إبراز نقاط الالتقاء، التي تجمعنا مع هذه البقعة الجغرافية الكبيرة في دورها الريادي عبر تنظيم المؤتمرات العلمية المتخصصة الموسعة تناط بها مهمة دراسة هذا التاريخ من خلال تنوّع مصادره.

ويقول إنه «أتى الوقت المناسب لنا كعرب وأفارقة للحديث عنها بصراحة متناهية، عبر خلق الأجواء الإيجابية والثقة المتبادلة، لأننا بتنا بحاجة ماسة للحديث عنها أكثر من أي وقت مضى، يأتي في مقدمتها الوجود العربي في الشرق الإفريقي، هل كان استعماريًا سلطويًا؟ أم كان هذا الوجود ضروريًا ولصالح الشعبين الشقيقين المرتبطين بوشائج وثيقة من العلاقات، امتدت منذ عدة قرون بعيدة ؟».

إن هذا الوجود العربي في هذا الإقليم، وفقًا للآثار التاريخية قام على أسس من التعاون الثنائي، بدلاً من الخصام، فبعد أن طرد العمانيون البرتغاليين من مضيق هرمز وجه سكان مدن الساحل الإفريقي وزنجبار الدعوة لهم يطلبون منهم إنهاء الوجود البرتغالي برمته من المحيط الهندي، وملء الفراغ السياسي والعسكري والاقتصادي الناجم عن انتهاء هذه المرحلة السياسية.

وبيّن بهذا الخصوص أن قضية التجارة بالرقيق هي ثانية أهم القضايا الحسّاسة، التي باتت بحاجة إلى بحث وتمحيص من قبل الجانبين في المرحلة المقبلة، بعد فترة من الصمت الطويل غير المبرر في ظل حملات التشويه، التي بثتها القوى الاستعمارية العظمى في سعيها للسيطرة على هذه المنطقة الجيوسياسية الاستراتيجية من القارة السوداء لتحقيق مصالحها الاقتصادية بالدرجة الأولى، وإن رفعت شعارات سامية كصيانة حقوق الإنسان، التي تضمنها الميثاق العالمي والحفاظ عليها.

«فأطراف هذه التجارة المحرّمة دينيًا وقانونيًا، لم يكن العرب وحدهم المسئولين عنها، بل شاركهم المسئولية أيضًا الأفارقة والأوربيون الذين يتحملون جزءًا كبيرًا منها، من حيث ازدهارها على مدى عقود متتالية من الزمن، عبر اهتمامهم بفتح أسواق جديدة لها بأوطانهم الأم، وتوفير الموارد المالية الكبيرة والضخمة لاستمرارها بصورتها، التي نعرفها جميعًا».

لذا «فإنه يتعين علينا في المرحلة الراهنة، وعلى الأطراف الثلاثة، التي شاركت وتحملت مسئولية استمرار تجارة الرقيق بالحقبة التاريخية الماضية من عرب وأفارقة وأوربيين الجلوس معًا على طاولة واحدة، لمناقشة كل ملابساتها الشائكة بصراحة وموضوعية، وإصدار وثيقة دولية مشتركة تهدف إلى إسدال الستار عليها بصورة نهائية وإلى الأبد، حتى يتم تدشين عهد جديد من التعاون المشترك مستقبلاً».

ودعا الأكاديمي العماني في ختام حديثه لـ «العربي» إلى بذل مزيد من الاهتمام بالتراث الثقافي والتاريخي الموجود في الساحل الشرقي الإفريقي وزنجبار عبر تشجيع حركة ترجمة المخطوطات القديمة، التي وثقت مظاهر الحياة، التي سادت في تلك الحقبة الزمنية حتى نستطيع أن نرسم صورة تاريخية دقيقة عن هذا المكان الذي تلاقت فيه حضارات وثقافات امتزجت فيما بينها لتقديمها إلى أبناء وبنات الأجيال الناشئة المقبلة.

وبعد استطلاع آفاق الرؤية المستقبلية، التي أدلى بها الدكتور محمد المحروقي في حديثه عن تصوراته والمتطلبات الواجب اتخاذها، من أجل بناء وتدشين حقبة جديدة من العلاقات العربية - الشرق إفريقية وزنجبار بالمرحلة المقبلة، وللوصول إلى نقطة النهاية لهذا الاستطلاع، لذا أجد نفسي مضطرًا للعودة إلى نقطة البداية لوضع خاتمة له ولا يمكنني إلا القول: «إنها حقًا زنجبار عوالم وأمم وأعراق».

الوثيقة السواحلية

إن للوثائق التاريخية النادرة حديثا له نكهة خاصة، فهو يسجل ويروي أحداثا مهمة وقعت في أماكن ومراحل زمنية مهمة، ساهمت بشكل مباشر في تشكيل أطر التجربة الإنسانية، وتراكم خبراتها العميقة، لترسم حدودًا ووقائع لم تكن موجودة قبلاً، ولتخلق آفاقًا رحبة جديدة.

إلا أن محاولة اكتشاف وقراءة هذه الوثائق النادرة وتسليط الضوء عليها من جديد وتحليل وقائعها وأحداثها المهمة لا يقل أهمية عما تحتويه هذه الوثائق من معلومات محورية للقضية المراد دراستها بهدف الوقوف على المفاصل التاريخية والعمل على استشراف المستقبل واستخلاص الدورس والعبر منها.

وفي إطار البحث عن تاريخ إقليم الشرق الإفريقي وزنجبار، وبدء الوجود العربي القديم فيه تظهر هذه الوثيقة السواحلية النادرة، التي نحن بصدد نشرها لأول مرة ليتسنى للقارئ العربي الاطلاع عليها بعد التنقيب عنها من قبل الدارسين للتاريخ يحيى علي عمر والباحث ب.ج.فرانكل.

ولقد عكف الباحثان على دراسة هذه الوثيقة، التي كتبت باللغة السواحلية، التي باتت اللغة الأولى في هذا الإقليم، منذ أكثر من 300 عام على الأقل بعد العثور عليها في أرشيف مدينة «جوا» (Goa) الواقعة في جنوب الهند، وهي إحدى أهم المدن، التي سيطر عليها البرتغاليون منذ منتصف القرن الرابع عشر، ولفترة زمنية طويلة، امتدت حتى بعد استقلال الهند من التاج البريطاني في عام 1948، وانتهت في عام 1969، لتكون ضمن أراضي السيادة الهندية حتى يومنا هذا.

وتقع هذه الوثيقة التاريخية النادرة، التي اطلع عليها لأول مرة البروفسور بوكس خلال زيارته لمدينة «بانجب» الهندية في عام 1950 ضمن الأرشيف البرتغالي المعروف باسم Livros das moncots do Reiwomr والمكوّن من 467 ملفًا أرشيفيًا تغطي مرحلة حكم البرتغال لهذا الإقليم الممتد لقرون طويلة من الزمن.

وتكمن أهمية هذه الوثيقة، التي حملت رقم Box.1952.299.325 من فحوى النص الأصلي المترجم، فهي تدعو - بصراحة - العرب العمانيين إلى القدوم إلى الساحل الإفريقي، بعد أن نجحوا في طرد وهزيمة البرتغاليين من مضيق هرمز وعمان، حتى لا يلتقطوا أنفاسهم ويعودوا من جديد ليبدأوا كرّة عدوانهم في المرحلة المقبلة، من أجل إخضاعهم لسيطرتها مرة أخرى. كما هي دعوة أيضًا للعرب للقدوم بأمان إلى هذا الإقليم، والعيش فيه وإقامة تجارتهم، مما ينفي بصورة قاطعة مبدأ «الاحتلال والاستغلال» ليحل بدلاً منه مبدأ «التعاون والتعايش السلمي»، مما يفند ويسقط كل الادّعاءات، التي وردت في العديد من الدراسات الخاصة بإقليم الشرق الإفريقي وزنجبار والمصادر الغربية أو الإفريقية على حد سواء، التي اعتبرت الوجود العربي احتلالاً واستغلالاً للثروات الطبيعية لهذا الإقليم، حالهم حال الإمبراطوريات الاستعمارية المتنافسة في تلك القرون الزمنية الغابرة.

ويشير الباحثان عمر، وفرانكل في دراستهما إلى أهمية الملف رقم «102» في الأرشيف البرتغالي، لما يحويه من رسائل ونصوص سواحلية ذات قيمة تاريخية كبرى، تكشف العلاقة المشتركة، التي ربطت كلا من دولة اليعاربة في الساحل العماني، وولاتها في مدن ساحل الشرق الإفريقي.

فضلاً عن أنها تدل أيضًا من الناحية اللغوية على أن هذه النصوص السواحلية حملت روح الاندماج والتعاون مع نظيرتها العربية، حيث كتبت السواحلية بالحرف العربي، بعكس المحاولات، التي بذلت لاحقًا لطمس هذا التاريخ، مشيرة إلى أن هذا دليل ماثل يدل على انتشار اللغتين السواحلية والعربية في مدن الساحل العماني والإفريقي دون أي تمايز باعتبارهما لغتي التخاطب والتعامل.

وقبل عرض النص الحرفي المترجم لهذه الوثيقة التاريخية، أود أن أشير إلى أن مرسل هذا الكتاب هو حاكم مدينة «كلوة»، الواقعة حاليًا ضمن الأراضي الكينية، التي تعد أحد أهم مراكز تجارة الذهب والنحاس آنذاك، وهي فاطمة بنت محمد الكبير، حيث لم تكن المرأة غريبة على دهاليز السياسة، وممسكة في الوقت ذاته بمقاليد الحكم، وفقًا لمصادر meiss1990 لفترات زمنية طويلة في تاريخ هذا الإقليم.

فالسيدة فاطمة بنت محمد الكبير لم تكن استثناء بأي شكل من الأشكال، فهناك ملكات ذاع صيتهن في الساحل الشرقي وزنجبار منذ زمن قديم، منهن السيدة عزيزة حاكمة زنجبار، والسيدة ميكس حاكمة مدينة ممباسا الواقعة على الساحل الكيني حاليًا، وأخيرًا السيدة ماسورو حاكمة مدينة «سيو» الساحلية، مما يدل على أن هذا الإقليم تفوق على نفسه بإعطائه الحقوق السياسية بالتعبير الدارج اليوم للمرأة، ومساواتها مع الرجل، سابقة بذلك الدول، التي تعد نفسها في مصاف الأمم المتقدمة اليوم.

إن نشر هذه الوثيقة النادرة التي نضعها أمام القارئ العربي في ختام المطاف، ليتمعن ما ورد فيها من معان ودلالات تاريخية ذات قيمة إنسانية رائعة، يهدف إلى تشجيع حركة ترجمة الوثائق الأرشيفية، التي لاتزال مجهولة، وفي طي الكتمان للاطلاع على ما تضمنته من أحداث ووقائع تاريخية مهمة بتنا بحاجة ماسّة إلى دراستها.

الترجمة العربية للوثيقة السواحلية

«أنا فاطمة بنت السلطان محمد الكبير، موجهة إلى السيد جمعة بن السيد المرحوم كاجي. بعد السلام، هذا الكتاب لتعريفك أنني رأيت والي الإمام الشيخ علي بن محمد الوكيل، ومحمد بن مبارك البحري، وأخبراني أنهما يحملان رسالة من سيدنا الإمام، أكتب إلى أتباعك في منطقة «كيريمبا» ليحضروا بلا خوف إلى كلوة، ولهم الأمان، ومن يرد العودة فليعد، ومن له أملاك فلا أحد يتعرض لأملاكه، وأي مسلم يريد أن يتاجر في المواد الغذائية، فليقبل، فلابأس عليه، وكل من يريد المجيء إلى كلوة، فليأت فلن يتعرض أحد لأملاكه. أخبر أتباعك أن أعداء الإمام هم النصارى - المقصود البرتغاليين - فقط، ليست هناك عداوة بين السواحلي والعربي، لقد انتهى كل ما سبق».

هذا والسلام

كتب الخط خادمها ابن خماس بيد 30

A12 th/18 century Swahili Letter from Kilwa Kislwani (being a study of Flio from Goa Archives Africa and U.
Bersec, Band77.1994

الأميرة العربية

سالمة بنت سعيد ولدت في عام 1844 في بيت المتوني أقدم قصور السلطان سعيد بن سلطان بجزيرة زنجبار الذي استمد اسمه من نهر المتوني الصغير، الذي يخترق القصر بأكمله ويصب خلف أسواره مباشرة في ذراع البحر الرائع، الفاصل بين الجزيرة الساحرة والقارة الإفريقية.

لقد حظيت الأميرة سالمة - أو أميلي رويته الاسم الذي عرفت به بعد زواجها من التاجر الألماني هاينزيش رويته الراعي لعدة أنشطة تجارية مرتبطة مع الجزيرة في عام 1867 على الرغم من الصعوبات والعقبات الاجتماعية التي اعترضت هذه الزيجة- بسمعة وشهرة عالمية بعد قيامها بنشر مذكراتها باللغة الألمانية في عام 1886، وتضمنت هذه المذكرات - التي لاقت إقبالاً منقطع النظير من قبل القراء فضلاً عن نجاح فاق التصور، خالقًا هالة من القدسية على الأميرة سالمة - أدق التفاصيل اليومية والمعيشية التي عاشتها في جزيرة زنجبار، والتعامل اليومي لسكانها في تلك الحقبة الزمنية، ولتصبح أحد أهم النصوص الأدبية التي كتبت عن الجزيرة خلال القرن الماضي.

وتقول الأميرة سالمة التي توفيت بمنزلها بألمانيا عام 1924 عن عمر يناهز 80 عامًا في مقدمة مذكراتها، التي طبعت وترجمت إلى عدة لغات أجنبية: «مرّت تسع سنوات منذ أن سجّلت هذه الأفكار، كتبت شيئًا في حياتي لأطفالي الذين لا يعرفون عن أصولي أكثر من أنني عربية، وأنني أتحدر من زنجبار».

وتستكمل الأميرة الزنجبارية التي حظيت طوال فترة إقامتها في القارة الأوربية باحترام وتقدير الأُسر الحاكمة الأوربية وطبقة النبلاء في مقدمتها: «كنت يومذاك منهكة جسديًا ونفسيًا، ولم أعتقد أنني يمكنني أن أعيش من أجلهم حتى يكبروا، ولا أستطيع أن أحدثهم عن تقلب مصيري وذكريات حياتي».وتضيف السيدة إميلي التي توفي زوجها هاينزيش بعد مرور ثلاثة أعوام على اقترانها به بحادث عام 1870: «لذلك قررت أن أكتب لهم تجاربي بمحبة كبيرة وتفان، إن ما فعلته كان مقالاً لأطفالي عزّاني حنوهم في السنوات العصيبة، ولم تنضب مشاركتهم العميقة في همومي التي كثيرًا ما كانت ثقيلة».

وتُبين الأميرة العربية التي عاشت وتنقلت في عدة عواصم كبرى، كان في مقدمتها العاصمة اللبنانية بيروت إنني: «لم أكتب مذكراتي للنشر وإنما لأطفالي الذين أردت أن أترك لهم وصية أمومة عنوانها المحبة، ولكنني قررت أن أنشرها لاحقًا بعد أن حاول أكثر من شخص إقناعي بذلك». وتؤكد الأميرة سالمة التي ألهمت كتاباتها الألف، السياح الأجانب الذين في طليعتهم الألمان لزيارة زنجبار سنويًا بهدف التعرف عن قرب على الأماكن التي عاشت فيها وترعرعت في سنوات صباها الأولى «لقد انتهيت من هذه الأوراق منذ سنوات، ولم أضف إليها سوى المقطع الأخير، في أعقاب الزيارة التي تيسّرت لي ولأطفالي بعد سنوات لزنجبار، وطني القديم».إن كتاب مذكّرات أميرة عربية الصادر عن دار منشورات «الجمل» عام 2002 بصفحاته الـ 371، والمترجم من قبل د. سالمة صالح، أثرى المكتبة الإنسانية والعربية على حد سواء، عبر تقديمه هذه الغربة الإنسانية الرائعة التي كانت بطلتها وباقتدار كبير، الأميرة سالمة بنت سعيد، أحد أهم الشخصيات التي سطعت في سماء زنجبار وساحل الشرق الإفريقي بالقرن الثامن عشر.

محطات زمنية مهمة اتخذت سعيًا إلى إيقاف وتحرير تجارة الرقيق بالساحل الإفريقي وزنجبار وهي كالآتي:

- في عام 1822 أصدر السلطان سعيد بن سلطان أوامره بمنع الاتجار في الرقيق مع الدول الأوربية المسيحية الكاثوليكية، إلا أن هذا الأمر السلطاني لم يكتب له النجاح، في ظل تهديد فرنسا التي كانت في طليعة الدول المتاجرة به آنذاك باستخدام القوة العسكرية، باعتباره يهدد مصالحها الحيوية في زنجبار.

- وفي عام 1845 صدر أمر سلطاني يمنع بموجبه تصدير الرقيق من إفريقيا إلى سلطنة عمان.

- وفي عام 1872 أصدر السلطان برقش بن سعيد تشريعًا خاصًا يقضي بموجبه إغلاق كل أسواق العبيد في شرق إفريقيا، سابقا بذلك الدول الأوربية، التي لم تقم بإصدار تشريعات مماثلة في المستعمرات الإفريقية التي كانت خاضعة لها.

- في عام 1980 صادقت الدول الأوربية على وثيقة بروكسل التاريخية Brussels Act التي تقضي بتحريم تجارة الرقيق في المستعمرات الخاضعة لسيطرتها، أي بعد 18 عامًا لاحقة للأمر الذي أصدره السلطان برقش بن سعيد.

- وفي عام 1897 قام السلطان حمود بن محمد بفرض أمر سلطاني يقضي بتحرير وعتق جميع الرقيق الذين يقيمون على أرض زنجبار، ومنذ ذلك التاريخ لم يعد هناك أي رق بالجزيرة بشكل شامل وملزم.

- استمرت تجارة الرقيق على نطاق ضيق جدًا في بعض مدن الشرق الإفريقي، حيث منع البريطانيون هذه التجارة في كينيا في عام 1912 بصورة نهائية.

- وفي عام 1920 توقفت تجارة الألمان للرق بصورة نهائية، ولا عودة لها بعد هذا التاريخ في تنجانيقا التي تعرف اليوم بالاتحاد التنزاني. وبذلك أسدل الستار على حقبة زمنية انتهكت فيها النصوص والبنود لميثاق حقوق الإنسان بشكل منهجي ومنظم، وبهدف تكوين ثروات طائلة من تجارة الرقيق غير المشروعة.

الملك الإفريقي.. والملك العربي

يروى أن «جزيرة بانيا» الواقعة مقابل ساحل الشرق الإفريقي، والتي تقع اليوم ضمن حدود الأراضي الكينية، استقبلت الملك سليمان بن مظفر، وهو ينتمي إلى قبيلة النبهانة العربية، التي اتخذت الساحل العماني موطنًا لها، فحظي بلقاء ملك الجزيرة المسئول الأول عن تسيير شئونها في ذلك العهد المعروف باسم الملك اسحاق فنال إعجابه من أول لقاء جمعه به.

ومن شدة إعجاب الملك إسحاق بأخلاق وعلم الملك سليمان بن مظفر، الضيف على الجزيرة خلال رحلة قام بها بين مدن الساحل، طلب منه الزواج من إحدى بناته غير المتزوجات لتوثيق أواصر الصداقة والمحبة، التي جمعتهما منذ الوهلة الأولى من اللقاء، فقبل الملك العربي العماني هذا العرض.

ومن العادات المتوارثة لسكان هذه الجزيرة أن يقوم أب العروس المتزوجة بتقديم هدية الزواج بعد مرور الأسبوع الأول على زواجها، فاحتار الملك اسحاق ماذا يقدم للملك سليمان زوج ابنته من هدية قيمة تعكس أواصر الصداقة، التي تجمعهما، فعجز عن الوصول إلى مبتغاه، وتحديد ماهية الهدية المناسبة بعد أن استغرق وقتًا طويلاً في التفكير.

وبعد هذه الحالة من العجز، لاحت للملك اسحاق فكرة تقديم سدة الملك للجزيرة إلى الملك العربي العماني، بعد أن يعلن هو تنازله عن العرش لصالحه، كهدية قيمة لزواجه من ابنته، ولثقته الكبيرة فيه، ولما يتمتع به من حكمة ونظرة ثاقبة تمكنه من إدارة شئون المملكة بكفاءة ودراية للتعامل مع المعطيات المحيطة به، فباتت هذه الجزيرة تحكم من قبل الملك سليمان بن مظفر، بعد قبوله هذه الهدية، وتدوولت قصتهما حتى يومنا هذا.

 

يحيى مطر 




صورة الغلاف





داو زنجباري وفي الخلفية بيت العجائب الذي كان يتبع قصر الحكم





قصر سعيد بن سلطان ( عام 1820) الذي أصبح حاليًا المتحف الوطني وتعرض فيه المقتنيات الزنجبارية والوثائق القديمة





منظر داخلي في المتحف وتظهر صورة السلطان الزنجباري برغش بن سعيد





منظر داخلي في المتحف وتظهر صورة السلطان الزنجباري برغش بن سعيد





خارطة حديثة للجزيرة مع معالمها الطبيعية والتاريخية





أشجار نخيل جوز الهند في الجزيرة





جانب من سوق الخضرة في وسط مدينة ستون تاون





صورة الأمير الزنجباري برغش بن غالب بن سعيد





ثمرة الكاكاو من مزروعات الجزيرة





ثمرة يستغل لونها الأحمر لزينة المرأة (الشفاه) قديما





خارطة قديمة لساحل شرق إفريقيا





فتاة في زي محلي تدخل من بوابة أحد المنازل





الإعلامي محمد المرجبي





بطاقة بريدية قديمة (1921) للاحتفال بأحد الأعياد الإسلامية





احتفال بمهرجان دول الداو الموسيقي الذي يقام في شهر يوليو سنويا في المدينة القديمة «ستون تاون»





نبات الفلفل الأسود





بورتريه لأطفال زنجباريين في أحد الأحياء





نصب تذكارية لتخليد ضحايا تجارة الرقيق في موقع سوق الرقيق القديم





مخابئ لتجارة الرقيق في الجزيرة وتتكون من غرفتين أسفل الأرض للفصل بين الجنسين (رجال ونساء)





ذكرى ضحايا تجارة الرقيق





أبراج الكنيسة ومئذنة المسجد جنبًا إلى جنب في سماء «ستون تاون»





صبي زنجباري أمام إعلان تجاري في شارع جزنجا





الدكتور إبراهيم البكري





صبية زنجبارية تمارس لعبة محلية محبوبة





عملات صُكت في عهد السلطان سعيد بن برقش (1870 - 1888)





مجموعة طوابع للسطان خليفة بن حارب (1911 - 1961) على ظرف مسجل





أطفال يلعبون على دراجة هوائية في حارتهم





الدكتور محسن الكندي





فنانة تشكيلية تنزانية في زي إثيوبي أثناء زيارتها لمعرض نحت في بيت الجمارك في زنجبار، وقد رفضت تصوير وجهها





بطاقة بريدية (15 - 4 - 1899) في عهد السلطان حمود





بطاقة بريدية قديمة لإحدى حارات «ستون تاون» في أوائل القرن العشرين





حارة بعد ترميم مبانيها وترميم المجاري فيها بمساهمة مؤسسة آغاخان المعمارية





الوثيقة التاريخية