الأنصاري والارتقاء برسالة الشعر

 الأنصاري والارتقاء برسالة الشعر

لعبدالله زكريا الأنصاري العديد من القصائد المخطوطة، والمنشورة، ولكنه لم يطبعها في ديوانه. ويأتي شعره ليكون معلمًا على طريق الشعر الكويتي، حيث إنه يملك أدواته الأساسية من لغة وموسيقي.

غيب الثرى بالأمس القريب أديبا من أدباء الكويت، وأحد رموزها الثقافية والتنويرية ومن خيرة كتابها، وقد اقترن اسم الأنصاري بالشاعر (فهد العسكر )، حيث عني بجمع شعره وطباعته في عدة طبعات، كان في كل طبعة ينقح فيها، ويزيد عليها، وقد عين مشرفاً مالياً لبيت الكويت في القاهرة، وخلف الأستاذ عبد العزيز حسين في رئاسة تحرير مجلة البعثة، التي كانت أحد المنابر التي تعتليها كلمات الشاعر الأنصاري، كما رأس تحرير مجلة البيان في الكويت لسنوات طويلة، وهو عضو في العديد من الروابط في الكويت وخارجها، وله العديد من الكتب من أهمها: «مع الكتب والمجلات»، «فهد العسكر حياته وشعره»، و«الشعر العربي بين العامية والفصحى»، و«صقر الشبيب وفلسفته في الحياة»، و«الساسة والسياسة والوحدة الضائعة»، و«البحث عن سلام»، و«روح القلم»، و«حوار المفكرين». لقد رجح هو نفسه أن يكون ميلاده عام 1921 أو 1922، لأنه لم يكن هناك توثيق للمواليد في الكويت في ذلك الوقت.

ولقد لعبت خلفيات الحياة، التي عاشها الشاعر - في مجتمع الكويت قبل ظهور النفط، وتدفق الثروة، والتي لا تزال في أعماقه، - لعبت دوراً مهما فيما كتب.

لقد كانت «البعثة» أول نشرة ثقافية تصدر عن الكويت في مصر، حيث صدر أول عدد منها في شهر ديسمبر 1946، وكانت إيذانا بحركة ثقافية عربية، أو قل إرهاصة كويتية في مجال الثقافة الأدبية في العالم العربي.

وتسلم شاعرنا في أواخر عام 1950 ملف البعثة، واضطلع بمسئولية إصدارها، ورأى أن يسهم في تحريرها أقلام من مصر في أول الأمر، ثم أقلام من الخليج والمغرب والوطن العربي. والواقع أن هذه النشرة أو المجلة استمرت على أقلام الكويتيين والكويتيات الذين كانوا يدرسون آنذاك بمصر، ثم كانت روافدها بأقلام كتّاب من أرجاء الوطن العربي، بدفع من شاعرنا، ومتابعة منه، ودأب على انتظام صدورها.

لقد كانت اللقاءات التي يعقدها الشاعر في القاهرة عامرة بالحوارات والندوات والمداعبات الشعرية الراقية. ولقد كان سجل زيارات البعثة حافلا، لأنها كانت مقصد رجالات الكويت القادمين إلى مصر، مما كان له أكبر الأثر في تجديد دماء البعثة بصورة عصرية، وثقافة عصرية تصل ما بين ماضي النهضة الثقافية، ورصيدها الجديد في سجل النهضة الأدبية.

الدلالة اللغوية

إنه في الوقت الذي ننظر إلى الخطاب الشعري نظرة عامة عند عبد الله زكريا الأنصاري، نرانا بحاجة إلى التمعن في حركة هذا الخطاب، لنوقظ في أنفسنا الإحساس بقيمته ودلالته، فاللغة في السياق الأدبي لها دورها الواضح، كما أن أساليبها المتآلفة أو المتنازعة تحرك الخطاب الأدبي، وتمنحه قدرة متنامية على التوصيل من خلال الدلالة المعنوية المباشرة للخطاب. وفي ضوء الدراسات الاجتماعية والنفسية لا يمكن أن نهمل دور الخطاب في تقصي اللغة عبر أنماط الخطاب المختلفة.

ولقد أقرت البلاغة ومباحثها بمقولة «لكل مقام مقال»، وفي هذا إشارة واضحة إلى تنوع أنماط الخطاب، وتنوع دلالاته البنائية، عبر مباحث البلاغة القديمة كلها وعلومها من بيان وبديع ومعان، فالبيان مرتبة من مراتب الخطاب والتوصيل، والبديع بمباحثه أيضا يفعل ذلك بمحسناته اللفظية والمعنوية، وكذلك علم المعاني بدلالات الخبر والإنشاء والمباحث الأخرى المتصلة بهما. وهنا لابد أن أورد شيئا من قول شاعرنا «عبدالله الأنصاري»، والذي يراوح فيه بين أنماط الخطاب المختلفة، فهو في قصيدة بعنوان: «وكفى بالشعر قولاً نابضاً»، مخطوطة بخط الشاعر من (32) بيتا، وقد أرخت بتاريخ: 21 ذو الحجة 1418هـ-9 / 4 / 1998م يقول:

يا زمان الوصل، يا عهد الصبا يامعينا من سهاد وأرق
قد مشي العداد نحو القهقرى ومشي العمر سريعا وانطلق


فهو بندائه، الذي يمثل أحد أنماط الخطاب كأنما يرفع يديه نحو زمان الوصل وعهد الصبا. والذي يجعلنا نتصور هذا هو بنية النداء المتمثل في الأداة والمنادى، وهكذا يكون التصور في الشطر الثاني من البيت «يامعينا». وكأنما جاء هذا الخطاب الندائي ليوصلنا إلى «قد مشى العداد»، إذ إنه لو لم تكن هذه الوُصلة بالنداء لما كان جمال البناء في البيت الثاني.

ومن ذا الذي ينكر أن للتوصيل أُطُرًا متعددة، وأساليب متنوعة، منها ذلك التنويع الأسلوبي بين الخبر وأضرابه، والإنشاء وأنواعه وأغراضه، وما هذه الأغراض إلا وسائل للتوصيل. يقول شاعرنا في قصيدة مخطوطة بخطه بتاريخ 31 / 8 / 2001، ونشرت في جريدة الأنباء بتاريخ: 30 / 9 / 2001.

(أنا لا آكل خبزا يابسا إنما أكلي ثريد بمرق)
وكفي بالشعر قولا نابضا إنْ خبا طورا فطورا قد برق


وأنا هنا لا أستطيع أن أفسر الحكمة من وضع البيت الأول بين قوسين، لأن المتعارف عليه أن يكون الموضوع بين قوسين من كلام شهير، أو من كلام الآخرين، وهو ما لم يشر إليه الشاعر.

ثم يأتي البيت الثاني ليكون حكمة، أو يجري مجرى الحكمة، كما يقول البلغاء، وهل الحكمة إلا خطاب؟ ثم أليس فيها ما قصدناه بكلمة التوصيل، هذا التوصيل الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بسياق القصيدة.

ومن قصيدة لشاعرنا «عبدالله الأنصاري» تحت عنوان «ومات السمك»، يقول:

فأين الرجالُ وأهل القرار؟ وأين التقارير راحت لمن؟


فقد لجأ إلى الأسلوب الإنشائي الاستفهامي الخارج عن معناه الأصلي، وهو الاستفهام إلى معنى بلاغي هو «الإنكار»، وهو نوع من الخطاب الذي يسهم دون شك في إبراز المعنى الكلي لسياق النص. ويواصل:

فيالَكَ من وطن مُستباح ومن سمك مات بعد الوهَن!!


فهو نداء تعجبي، يثير قضية وطنية، ترتبط بظاهرة بيئية هي السمك. ويستمر إلى أن يقول:

فأين زمان طوته السِّنون وراحت بآثاره والدِّمَن
توليَّ بأصحابه الطِّيبين وصرنا بحالِ تُثير الشجَن


ولو مضينا مع الشاعر في تأمل بنية الخطاب في شعره، وأثرها في السياق لاستخرجنا منه الكثير، مما سنناقشه بشيء من التفصيل في الصفحات التالية. وما قصدت بهذا إلا الإشارة الإجمالية لبعض ظواهر الخطاب، حتى تكون مدخلا إلى تفصيل بنية الخطاب عند الشاعر.

ارتقاء الخبرة الفنية

إن ممارسة الإبداع، والبحث عن بنية الخطاب فيه، لا يمكن أن نبحث عنها من خلال التتابع الزمني فقط، لأن كل خطاب يكتسب دلالته من الأحداث والمواقف والمواجهات السابقة، والتي لا تنفصل عن اللغة، لأن اللغة هي البرهان الأكيد على الممارسات الاجتماعية والبيئية، والتي لا يمكن أن ينفصل عنها المبدع.

إن ارتقاء الخبرة الفنية والحياتية هي التي تحقق النجاح للخطاب الشعري. ولما كان الخطاب الشعري يتوجه نحو الآخر وهو المتلقي لذا وجب أن تكون هناك صلة حميمة بين الشاعر والآخر، وهذه الصلة تعتمد على قدرة الشاعر الفنية، ومعايشته حياة الناس وقضاياهم.

ويرتبط مفهوم هذه العلاقة بامتداد العلاقة أو المساحة النفسية، سواء أقَرُبَت تلك المساحة أم بَعُدت، لأنها في كلا الحالين تحقق تواصلا حميما بين الشاعر والمتلقي، مما يُحدث إثارة جمالية، ترتقي بشكل مناسب، متناغمة مع أهمية الموضوع، ومرتبطة بأفق التلقي، الذي يحقق المعرفة، التي تؤكد القيم، وتنشط الأفكار، وتستشرف الأحلام والانفعالات.

وفي ضوء ذلك ندخل إلى عالم شاعرنا «عبدالله الأنصاري» لنقف على مدى ترجمة ذاته، وارتباطه بالمتلقي. ففي قصيدته «مؤتمر فاشل» البيان: ص 15، العدد: 63، يونيو 1971، الكويت،. يقول:

دعينَا لمؤتمر فاشل يُسَوي النِّطاسيَّ بالجاهلِ
يضم جموع الشباب الغفير ويخلو من العاقل الفاضلِ
فيالك فوضى بأرجائه نهُد النظام من الداخلِ
وتبطشُ بالهادئ المسْتقر فيمعنُ بالصخَبِ الشّامِلِ
نُسَائِلُ ما هَذهِ الترّهَات ولا مِنْ مُجيبٍ على السَّائِلِ
كأنا ببحْرٍ غدا هائِجاً يُوَشْوِشُ بالزبدِ الهَائلِ
نُريدُ الأَمَانَ فلا نَهْتَدي وَنَبْغي الوُصولَ إلى السّاحِلِ


فصاحب الخطاب الشعري هو الشاعر، والمتلقي هم أبناء الأمة العربية، وقد تواصل معهم الشاعر بخطابه الجمعي في قوله ( دعينا ) بصيغة الجمع، التي يدخل الشاعر ضمنها، ثم إن هذا المؤتمر الذي يتحدث عنه الشاعر ضم جموع الشباب «يضم جموع الشباب».

ولكنه (أي الشاعر) يمنح ويمنع، فهو يتحدث عن جموع الشباب الذين تفترض فيهم الحمية والنخوة والعقل، فهو هنا يمنح افتراضا، ولكنه يمنع واقعاً عندما يقول (ويخلو من العاقل الفاضل)، وأزعم أن هذه الجملة الخطابية التقريرية الأخيرة جاءت من انفعال حريص، انفعال المشفق، الذي كان ينتظر العقل والفضل من الشباب ولكنه فوجئ بغيرهما. وهنا حدثت محاولة إيجاد التوازن بين الأنا (المبدع الشاعر) والآخر (المتلقي أو جموع المؤتمرين)، فماذا كان من الجانبين؟ إن المؤتمر عمته الفوضى التي تهدد النظام من الداخل، لأنه مليء بالترهات التي يرفضها جيل العقلاء، الذين أدهشتهم هذه الفوضى وتلك الترهات، والتي لم تحظ من المؤتمرين من الشباب بشيء من الاهتمام. فماذا كان يريد جانب العقلاء في هذا المؤتمر؟ يقول:

نُريدُ الأَمَانَ فلا نَهْتَدي وَنَبْغي الوُصولَ إلى السّاحِلِ


وقد حاول الشاعر أن يربط بين الغاية والوسيلة، فإنه ورفاقه يطلبون الأمان، ويتوسلون بالإرادة التي تحقق بغيتهم، وهي الوصول إلى الساحل، ولكنهم لا يهتدون. إن عدم الاهتداء هنا أتى بصيغة الجمع، التي تضم مجموعة إيجابية وأخرى سلبية، وربما توهمت هذه المجموعة السلبية أنها إيجابية بمعنى أو آخر، لأن الحكم هنا نسبي يخضع لمقاييس ترتبط بالجيل والهدف والوسيلة. إنه يتحدث عن قضية عامة، هي قضية العروبة، التي اجتمع عليها مجموعة أو مجموعات ممن لا انتماء لهم، ولهذا جاء تشخيص الشاعر مصحوبا بخطاب عام يقول:

عُروبتُنَا أَصْبَحَتْ نَهْزَةً لِدَسِّ الشّيوعيِّ والسَّافِلِ
هُما يَخْدَعَانِكَ باسْمِ السَّلام وَباسْمِ العَدَالةِ والعَامِلِ
وانْ رُحْتَ تَدْعو إلى وَحْدةٍ فَلَيْسَ وراءكَ منْ طَائِلِ


وماذا تكون النتيجةُ، عندما يحتدم الموقف، وتظهر ادعاءاتهم الزائفة، التي يروجون لها؟:

فَيَضْطَرِبُ الحَفْلُ ما بَيْنَهُمْ وَيَخْتَلِطُ الحَقُّ بالبَاطِلِ


إن خطابه هنا يتوجه إلى الشباب، الذين بدأ بهم الخطاب، وهنا يلين معهم، وكأنما شعر أنه قد قسا عليهم يقول:

شَبابَ العُروبَةِ ماذا بكُمْ؟ أَلَسْتُمْ بني العُرْبِ منْ وَائِلِ
أَلَسْتُمْ بني الفاتِحينَ الأُباة؟ مَنْ شَيَّدوُا المَجْدَ بالكَامِلِ
أما تُبْصِرونَ منَ الغَدْرِ ما نُشَاهِدُ مِنْ خَطَرٍ مَاثِلِ؟


إن الخطاب هنا يراوح بين الخبر والإنشاء، في محاولة لينة، وخطاب يحمل اللوم، ولكن صيغَة الخطاب خلت من المباشرة: فهناك ماذا بكم؟ ألستم بني العرب؟ إنه الاستفهام الظاهري الذي يحمل معنى اللوم والتقريع، إنه الزجر الذي يؤلم أكثر من التعبير المباشر، وكذلك كان الشاعر فيما أتى بعد ذلك من أبيات، ألستم بني الفاتحين.. إلخ أما تبصرون من الغدر.. إلخ. إن الجملة الشعرية باختصارها، وتكثيف الخطاب فيها تؤدي دوراً كبيراً في نقل المعنى وإيحاءاته فهو يقول:

دَسَائِسُهُمْ لمْ تَزلْ بَيْنَنَا لِكُلِّ غَبيٍّ بنَا خَامِلِ!


إن البيت يختصر صفحات من التاريخ، تحتل وقتا غير قصير في عمر الأمة العربية، كما أنها تحتل أكثر من مكان على خريطة هذه الأمة. إن القضايا المشتركة بين الناس هي التي تحدث التقارب بين الشاعر والمتلقي، أما ما يحدث الرفض أو النفور أو عدم التقبل فهو شيء آخر، قد يأتي من إضافات أو تعديلات غير مقبولة تؤدي إلى هذا النفور.

البحث عن المعنى

إن المتلقي يبحث عن المعنى ودلالاته في بنية الخطاب الشعري، وهذا المعنى بلغ من الشرف مبلغا كبيرا لقي المكانة نفسها من نفس المتلقي ووجدانه. وشرف المعنى لا يرتبط بالجانب الأخلاقي فحسب بل يرتبط أيضا بمجمل المدلولات الجمالية البلاغية، التي تواضع الناس على تقبلها وإساغتها.

يقول «جوناثان كلر» في كتابه «الشعرية البنيوية»، ترجمة السيد إمام ، «إن المرء ليتوقع أن يجد نقاد الأدب في علم الدلالة Semantics الفرع الأكثر نفعا من بين فروع علم اللغة. فإذا افترضنا وجود مجال يمكن أن تطبق فيه مناهج الوصف اللغوي بشكل مفيد على لغة النصوص الأدبية، فلن يكون هذا المجال سوى مجال المعنى. فأين هو الناقد الذي لم يحلم في لحظات انتشائه بطريقة علمية صارمة تحدد خصائص معنى أحد النصوص، وأن يظهر بأدوات ثبتت صلاحيتها احتمالية بعض المعاني واستحالة بعضها الآخر. وحتى لو لم تكن النظرية الدلالية كافية لتعليل كل المعاني التي يمكن ملاحظتها في الأدب، فإنها تمثل على الأقل مرحلة أولية في النظرية الأدبية والمنهج النقدي، وذلك بإظهارها للمعاني التي يتعين تمييزها بفعل قواعد ثانوية، فإذا كان باستطاعة علم الدلالة تقديم وصف للبنية الدلالية لأحد النصوص، فسوف يغدو ذلك بالتأكيد ذا نفع عظيم بالنسبة للنقاد، حتى ولو لم يكن الدواء الناجح لكل المشكلات».

ويمكن تطبيق هذه الرؤية على إبداع الشاعر «عبدالله الأنصاري» في قصيدة «الأمر أمرك» حيث يقول:

يا شعْرُ يا قَبَسَاً بهِ وَجهْتُ وجْهِي وَاهتْدَيْتْ
ورأيتُ فيكَ الحَقَ والعَدْلَ المرُجّحَ مُذْ رَأيْتْ
وَبَصَرْتُ ألْوَانَ الرؤى مِلء الجوارحِ وَاجْتَلَيْتْ

بل إنه ليزيد من شأن هذه الدلالات في شأن الشعر، في توصيل واضح يصل إلى وجدان المتلقي. يقول بعد ذلك:

أنا ما قصدتُ سواكَ ألتمسُ الحياةَ وما نويْتْ
أنت الحياة الحق إني في مناكبها سَعَيتْ

ويواصل قائلا:

إن كنت عَني قد صَددتَ فأيّ ذَنْبٍ قد جَنَيْتْ
أهَجَرْتَني أنَسيتَني أقَليتني فِيمنْ قَلَيْتْ؟
اهْبِطْ عَلي فإنني بك قد بدأتُ ومَا انتهَيْتْ

فالشاعر هنا يتوجه إلى المتلقي بوسائل مختلفة في صيغها وأبنيتها، فها هو ذا يتوجه بالخطاب الندائى: يا«شعر».. يا «قبسا» باستخدام أداة النداء «يا» مع كلمة شعر في النداء الأول، و«قبسا» في النداء الثاني، والبناء هنا متآزر، حيث ربط بين كون الشعر إبداعا متميزا فهو إذن قبس وجد فيه ضالته التي اهتدى إليها، لأنه رأى فيها الحق والعدل وهو الجانب الأخلاقي المقبول من المتلقي والذي جلىَّ له كل رؤاه.

ثم إن هناك التقاء بين اختياره ألفاظه بحكمة في قوله: «أنا ما قصدت سواك» والتي تلتقي - كعبارة شاعرة - مع ما يستخدم من عبارات في مجال الغزل الرقيق، الذي سيكون لإبداع الشاعر فيه نصيب من هذه الدراسة.

الجمال البنائي

ويأتي الجمال البنائي في استخدام الشرط مع جوابه المقترن بالفاء «إن كنت.. فأي ذنب قد جنيت»؟! فهو استفهام تعجبي بلغ مبلغا طيبا من الدلالة. ويواصل استخداماته البنائية عن طريق الاستفهام التعجبي: أهجرتني؟! أنسيتني؟! أقليتني؟! ويزيد «فيمن قليت»، لأن الشعر كموهبة قد يهجر ويقلي الإنسان الذي لا يخلص في اجتلاء هذه الموهبة، وإصفائها، وخدمة أدواتها. ويأتي بعد ذلك الأمر الخارج عن معناه أيضا في قوله: «اهبط علي»، إنه يرجو ولا يلتمس، لأن الشعر منزلةُ رقيقة. ويأتي الجمال المعنوي في قوله: فإنني بك قد بدأت وما انتهيت، ليكون دليلا على إصراره على المواصلة، في طريق الإبداع المخلص الدال، الذي يرتبط بالمتلقي، ناقلا إليه المعنى الشريف رفيع المستوى. ويأتي الخطاب في هذه القصيدة «الأمر أمرك» ليتوجه إلى الشعر كطرف يمثل الآخر الماثل في العبارات، وليتوجه أيضا إلى المتلقي بطريق غير مباشرة جعل الشعر المخاطب سبيلا إليه. إنه يكرر الجملة الاسمية «الأمر أمرك» تسع مرات، يبدأ ذلك بثماني مرات في بداية القصيدة، ثم مرة واحدة في الختام، لتكون البداية تأكيدا على جملة محورية «الأمر أمرك»، ثم يستمر في السياق، مستخدما النداء ثماني مرات بما فيه من دلالة بنائية تفيد التجسيد، وكذلك فعل الأمر ثلاث مرات مستخدما صيغة واحدة هي ( اهْبِطْ) مثيرا بذلك نزول الشعر من علٍ، كما تقول الروايات الأسطورية القديمة.

والجدير بالذكر أن بنية الخطاب الشعري يدخل فيها الجانب العروضي، أو الجانب الموسيقي فهذه القصيدة «الأمر أمرك» أتت تفعيلاتها من مجزوء الرمل (مستفعلن مستفعلن)، وهو البحر الذي كثر حديث أهل الأدب عنه.

ولا أجد غضاضة في أن أذكر هنا أن الأحرف، وهي جزء من بنية الكلمات، التي هي أساس الخطاب في الشعر وغيره، وقد تمكن شاعرنا «عبدالله الأنصاري» من أن يمزج بين الأحرف المهموسة، وقرينتها المهجورة في تشكيل بنائي سهل، لا يجعل من شعره ما يصعب على النطق، أو ينبو عن الذوق العام في استخدام الكلمات.

هذا ولابد من الإشارة إلى أننا عندما نقرأ هذه القصيدة نرى أن الشاعر اختار أحرف المد، التي تيسر قراءة الشعر حتى يؤثر في نفوس المستمعين، خاصة أننا حين ننشد الشعر نزيد من الضغط على المقاطع المنبورة، وهو ما يطيل زمن قراءة الشعر أكثر من النثر، فهو في استخدام الجمل الخبرية الأولى «الأمر أمرك» يقف عند قافية ساكنة، لها تأثيرها الصوتي الإيقاعي، مما يدخل في بنية الخطاب، ويؤثر في القارئ والسامع معا. وكذلك إطالة النطق في النداء «يا ملهم الشعراء»، «يا سلوة العشاق»، «يا مخزن الفكر».. إلخ.

ونحن لا ننكر الجمال الخطابي الذي لجأ إليه الشاعر في حرصه على القافية الساكنة، مع حسن التقسيم كقوله في البيت الأخير: إن أردت وإن أبيت.

والنغمة الموسيقية يبرزها الإلقاء الجيد، الذي يجعل من الخطاب الشعري وسيلة مؤثرة، لأن مراعاة التفاعيل في الوزن، أو الضغط على الكلمات في النبر متلازمان مع النغمة الموسيقية، التي تختلف عند النطق بالاستفهام، أو التعجب، وعند إلقاء الجمل الإخبارية التي تختلف صعودا وهبوطاً مع الانسجام الذي يتحرك به السياق حتى يصل إلى النهاية. هذا كله مع مراعاة المعنى الذي تتكيف النغْمة معهُ.

ويكاد شاعرنا في قصيدته تلك «الأمر أمرك» يبرز لنا رسالة الشعر، إنه يرى فيه الحق والعدل، بل وألوان الرؤى، وريح النبوة. وكلها عبارات تشي بأن الشاعر رومانتيكي الاتجاه، بل إنه يكاد يلتقي مع شاعر مدرسة الديوان في مصر، عبد الرحمن شكري، عندما يقول:

«لا ينظم الشاعر الكبير إلا في نوبات انفعال عصبي، في أثنائها تغلي أساليب الشعر في ذهنه، وتتضارب العواطف في قلبه، ولكنْ تضاربا لا يزعج نبضه طيور الأنغام الشعرية التي تغرد في ذهنه، ثم تتدفق الأساليب الشعرية كالسيل، من غير تعمد منه لبعضها دون بعضها» ديوان عبد الرحمن شكرى ج3، ص 210 طبعة منشأة المعارف بالإسكندرية، القاهرة، 1960.

رسالة الشعر

إن شاعرنا «عبدالله الأنصاري» يبحث عن الانسيابية في الشعر وهو يستجديه أن يقبل:

اهبط عليّ فإنني بك قد بدأت وما انتهيتْ
اهبط..لا نسبح من حروفك ما وددت وما هويت
وأصوغ منك خواطري شتى، وأعلي ما بنيتْ

بل إنه يرى أن رسالة الشعر كشف وتطهير، فعندما تصل المعاني الشعرية إلى المتلقي، فإنها تكشف له ما استغلق عليه، بل إنها تقوم بعملية التطهير يقول:

فاهبط.. كما هبط الضياء على الظلامَ بكل بيت
وامسح به كل الجروح، فكم بحرقتها اكتويت

ومن ثم فإن الشاعر أثناء إبداعه لا يكون في حالة غياب كامل، يحول بينه وبين قصد توصيل المعنى، وهو ما يراه شكرى «محمود الربيعي / في نقد الشعر ط 4، ص 106» فهو يرى أن طغيان العواطف لا يأخذ بزمام الشاعر كلية، ومن ثم فهو لا يحول دون سيطرة النغم الشعري علي ذهنه، وهذا يجعلنا نفهم من كلامه أن الفنان يكون على وعي بفنه، وسيطرةٍ عليه حتى كتابته «ولهذا يظل شاعرنا» عبدالله الأنصاري «متمنيا» يقول:

يَا ليَتَ أنّكَ طَوْعُ أمْرِي، ليَسْ غَيرُكَ.. ليتِ ليتْ
فَالأمْرُ أمْرُكَ ليسَ غيرُكَ إنْ أرَدْتَ وإنْ أبَيْتْ

إن الشعر طاقة بشرية هائلة، ترتبط ارتباطا وثيقا بالاتصال الجميل بين الشكل والمعني الذي يخرج من المضمون. كما أن العاطفة ليست فورانا مؤقتا للنفس، أو شيئا طارئا للانفعال، بل إن عوامل كثيرة تتضافر في نقل المعنى وتأثيره، منها الفكر والإحساس والذكاء والتأمل، والدراسة القائمة على التمحيص وإعمال العقل في أنواع المشاعر والعواطف التي تحفل بها نفس الشاعر، فهو - أي الشاعر - يعيش معها حياة شعرية موسيقية - قدر الطاقة - «لأن قلب الشاعر مرآة الكون، فيه يبصر كل عاطفة جليلة شريفة، فاضلة، أو قبيحة مرذولة وضيعة» ديوان عبد الرحمن شكرى، ج 3، ص 209 (مرجع سابق).

وإذا كان الخيال مرادفا للشعر - من وجهة نظري - فإنني أركز على ضرورة الاهتمام بإبراز الخيال ودوره في تنشيط الذاكرة، حتى تتمكن من التقاط المعاني، التي يريد الشاعر توصيلها إلى المتلقي، وشاعرنا «عبد الله الأنصاري» يخدم هذه الفكرة في شعره، وإن أتت في سياق طبيعي غير مقصود يقول:

يا مخزن الفكر المجنح كم سموت، كم اعتليت
ياخمرة الخلد.. المعتقة المشعشعة الكميت
يا منبع الإلهام.. كم من نبعك الصافي ارتويت

إن الصور التي رسمها الشاعر تحمل معنى إيمانه بالشعر، كما تحمل مدى إدراكه قيمة الخيال فيه، ففي الوقت الذي يلجأ فيه إلى الخطاب الندائي، يخاطبنا بالصورة الخيالية من خلال سمو الشعر واعتلائه المراتب العليا، فهو - أيضا - منبع الإلهام، وكلها صور كنائية استخدمها الشاعر لينقل معنى خطابه إلى المتلقي، الذي ينتظر وصول المعني من وراء كل تعبير.

رحم الله رحمة واسعة أديب الكويت والعروبة «عبدالله زكريا الأنصاري» وأسكنه فسيح جناته، إنه سميع مجيب.

 

نورية الرومي