نجيب محفوظ (1911- 2006م) رحيل البسيط العظيم

نجيب محفوظ (1911- 2006م) رحيل البسيط العظيم

«لست بطلاً بالتأكيد، أنا شخص ما يحب الأدب، شخص ما يؤمن بعمله ويخلص له ويحبه أكثر من حبه للمال أو الشهرة، لو أتى المال وأتت الشهرة فمرحبًا بهما، لكنهما لم يكونا غايتي أبدًا، فأنا أحب الكتابة أكثر من أي شيء آخر».

بهذه الكلمات المتواضعة ودّع الراحل العظيم نجيب محفوظ الدنيا في صبيحة الثلاثين من أغسطس عام 2006م، كان يعلم جيدا أن الحياة في مصر صعبة، وأن الأمر يحتاج إلى نوع من جلد الرهبان وصبرهم حتى يتمكن من المواصلة. بهذا الإحساس من التقشف والزهد عاش حياته التي امتدت على مدى 95 عاما شاهد فيها الشطر الأكبر من أحداث القرن العشرين، كان أشبه بأبي الهول جالسًا على حافة مدينة القاهرة العتيقة، يلقي أحجيته في كل صباح، لم يعشق غيرها من المدن، ولم ينتقل منها لا قلبا ولا روحا، كان شاهدا على أفراحها وأحزانها وأحلامها المجهضة، عشق كل تفاصيل الأحياء القديمة، ليس البشر فقط، ولكن جمود المكان، وآل على نفسه أن يبث حياة جميلة في هذا الجماد، كان قلمه فقط هو سر قوته وتواضعه، استعان به وحده، فلم يَحْتَمِ خلف منصب أو جاه أو سلطة، وتواضع أمامه، لأن القلم قد علمه أن الكتابة هي دائما أكبر من الكاتب.

كان نجيب محفوظ هو أكثر كتاب مصر في التقائه مع الحياة اليومية، وأكثرهم معرفة بمعاناة وآلام الرجل البسيط، فقد عاش موظفا في الشطر الأكبر من عمره، وأفادته الوظيفة، حيث أمدته بعشرات من النماذج الإنسانية، ولم ينعزل يومًا عن الناس، فظل المقهى بالنسبة له هو المكان الأمثل للجلوس والمسامرة ولقاء الأصدقاء.

ولد الأديب الكبير في حي الجمالية في القاهرة في 11 ديسمبر 1911، وقد أخذ اسمه المركب من الطبيب الذي أشرف على ولادته، فقد سماه أبوه باسم الطبيب العالمي نجيب محفوظ، الذي كان واحدًا من رواد الطب العربي، وشاءت الأقدار أن يحافظ الوليد الجديد على هذا الاسم، وأن يرفع من درجة تكريمه، وأن يجعله يفوز بأرفع جائزة أدبية في العالم، هي جائزة نوبل العام 1988. حصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة العام 1934، وقد أثرت هذه الدراسة على كل أعماله، فبالرغم من أنه استقى كل شخصياته من البيئة الشعبية القاهرية فإنه أضفى عليها طابعا فلسفيا وفكريا، وطرح من خلالها أسئلة الكون المهمة حول الحياة والموت والمصير الإنساني. أمضى طفولته في حي الجمالية حيث ولد، ثم انتقل إلى العباسية والحسين والغورية، وهي أحياء القاهرة القديمة التي أثارت اهتمامه في أعماله الأدبية وفي حياته الخاصة.

بدأ كتابة القصة القصيرة العام 1936. وانصرف إلى العمل الأدبي بصورة شبه دائمة بعد التحاقه بالوظيفة العامة، وقد لفت الأنظار إليه منذ كتاباته الأولى، على الرغم من أن روايته كانت تدور حول التاريخ الفرعوني، فإن النقاد اعتبروها بعثا للحياة في تاريخ ميت، وإيقاظًا لروح القومية، لم تكن تجد من يوقظها. وقد استقبل سيد قطب رواية «كفاح طيبة» بحفاوة بالغة، ولفت الأنظار إلى هذا الكاتب وهو يقول: «لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وكل فتاة، ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان، ولأقمت لصاحبها - الذي لا أعرفه - حفلا من حفلات التكريم التي لا عدد لها في مصر للمستحقين وغير المستحقين». وقد لفتت هذه الدعوة الحارة أنظار القائمين على شئون التربية والتعليم، فقرروا أن تصبح هذه الرواية ضمن المقررات الدراسية.

كان نجيب محفوظ حريصا على الوظيفة، لأنها مصدر دخله الأساسي، وكما يقول «لقد نشرت ثمانين قصة دون أن أحصل على شيء»، ولم يربح من قصصه بالفعل إلا عندما ترجمت هذه القصص للغات الأجنبية، وعندما جاءته الدعوة من مؤسسة الأهرام ليكون كاتبا متفرغا بها أمهلهم حتى بلوغه سن التقاعد وقد تقلّد خلال هذه الحياة الوظيفية - التي امتدت من العام 1959 حتى إحالته إلى التقاعد العام 1971 - عدة مناصب، حيث عمل مديرًا للرقابة على المصنفات الفنية، ثم مديراً لمؤسسة دعم السينما، ورئيساً لمجلس إدارتها، ثم رئيساً لمؤسسة السينما، ثم مستشاراً لوزير الثقافة لشئون السينما. وطوال هذا التاريخ لم يتوقف عن الكتابة، وتجلت موهبته في ثلاثيته الشهيرة ( بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية) التي انتهى من كتابتها، العام 1952، ولم يتسن له نشرها قبل العام 1956 نظرا لضخامة حجمها، وقد أنهت هذه الرواية مرحلة الواقعية، التي شملت روايات مثل بداية ونهاية، وخان الخليلي، وزقاق المدق. ثم أعقبتها فترة طويلة من الصمت عن الكتابة الروائية استمرت ثماني سنوات، ولكنه استغل هذه الفترة في كتابة أهم الأعمال في تاريخ السينما المصرية، مثل، درب المهابيل، والنمرود، والفتوة.

في العام 1959 كتب روايته المثيرة للجدل «أولاد حارتنا» وقد تميزت بأسلوب رمزي وفلسفي يعلو بها عن الفهم الواقعي المغلق، وقد نشرت أولا مسلسلة في جريدة الأهرام، وكانت مثيرة للقلق، وبالرغم من أن نجيب محفوظ كان يشغل منصب مدير الرقابة الفنية فإن مدير الرقابة الأدبية نصحه ألا ينشر هذا الكتاب في مصر، ليتجنب أي نوع من الصراع مع أي فهم خاطئ له، ونشرت الرواية بالفعل في بيروت، ولم يسمح بدخولها إلى مصر منذ ذلك الحين، ولكن كان يتم تهريبها باستمرار.

وبعد هذه الرواية حافظت بقية روايات محفوظ على هذا الطابع الرمزي، بالرغم من أن البعض منها قد استمد أحداثه من وقائع حقيقية، مثل رواية «اللص والكلاب». كتب نجيب محفوظ 37 رواية و12 مجموعة قصصية و17 فيلما للسينما - بخلاف العشرات من الأفلام التي أخذت عن رواياته - وعددًا كبيرًا من المقالات القصيرة في السياسة والفن والحياة، ونشر كتبًا عن سيرته الذاتية وعن أحلامه ورؤاه، وتحول الشكل الروائي في أيامه الأخيرة إلى نسيج راق لا يعترف بأي قواعد ولا مسميات، ولكنه يستمد وجوده من جوهر الفن الصافي ومن واقع الخبرة والتجربة الإنسانية العميقة. رحم الله نجيب محفوظ وأسكنه فسيح جناته، فقد أثرى حياتنا، وأضاف رصيدًا لا ينسى للثقافة العربية، وحصل لها على أرفع الجوائز العالمية.

العربي





الجمالية والحسين والغورية أحياء القاهرة القديمة التي أثارت اهتمامه