ابن خلدون. كيف قرأه المؤرخون؟

ابن خلدون. كيف قرأه المؤرخون؟.. د. قاسم عبده قاسم

عاش ابن خلدون في زمن «كان» العرب والمسلمون فيه لايزالون يقودون البشرية صوب التقدم والرقي. فهل نجح المؤرخون العرب في قراءة ابن خلدون في زمن تتزايد فيه المخاطر الوجودية؟ وتثور أسئلة قلقة عما «يكون» وما «سيكون» في دنيا العرب والمسلمين؟

تنطوي الإجابة عن هذا السؤال على إجابتين في زمنين مختلفين. فالسؤال يتعلق بكيفية قراءة المعاصرين لابن خلدون من ناحية، ثم كيفية قراءة الأجيال الحديثة من المؤرخين العرب لابن خلدون من ناحية أخرى. و«قراءة» ابن خلدون تتعلق بكيفية فهم الأفكار التي طرحها في مقدمته الشهيرة والتي صاغت هيكل فكرة التاريخ في الثقافة العربية الإسلامية.

وإذا كانت فروع العلم الاجتماعي والإنساني تتنازع الانتساب إلى ابن خلدون حاليًا، فإن هذا التنازع يدل على مدى ما سببه التخصص الضيق في منظومة العلم الحديث من جزئية النظرة، التي تتنافى مع مفهوم «وحدة المعرفة» الذي عاش ابن خلدون في رحابه، وكان من نتاجه. فإذا قال المؤرخون إن ابن خلدون من روادهم فهم محقون وعلى صواب، وإذا ما قال علماء الاجتماع إن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع، فهم - أيضًا - محقون وعلى صواب. وإذا زعم غيرهم هذا، أو شيئًا من هذا، فهم أيضًا على صواب، لأن مقدمة ابن خلدون تجسيد لوحدة المعرفة التي أفرزتها الحضارة العربية الإسلامية، وجسدها آلاف مؤلفة من علماء المسلمين في شتى فروع العلم. وإذا كانت منظمة اليونسكو الآن تتبنى الدعوة إلى ما يسمى «النظرة الكلية للتعليم»، فإن الأمر يدعو إلى مزيد من التأمل وإعادة النظر فيما نتج عن النظرة التجزيئية التي تتبنى التخصص، وتخصص التخصص.

على أي حال، فإن ابن خلدون كان تجسيدًا لتلك الفترة من تاريخ الثقافة العربية الإسلامية باتجاهاتها العامة والكلية، فقد هاجر الرجل من المغرب الإسلامي (تونس) إلى المشرق الإسلامي (مصر والشام)، تحت وطأة السحب السياسية القاتمة. وفي المشرق أعاد التأمل فيما كان قد كتبه في المغرب، ولكن الرحلة كانت في رحاب العالم العربي المسلم جغرافيًا، وفي إطار الثقافة العربية الإسلامية فكريًا. وفي ترحاله الجغرافي, وفي رحلته الفكرية كان ابن خلدون عنوانًا على حقيقة واحدة، هي: الوحدة الثقافية التي لم تستطع الخلافات السياسية أن تحول دونها.

فكرة التاريخ

فمن الخطأ أن نتصور أن ابن خلدون قد «أبدع» مقدمته الشهيرة أو اخترعها من فراغ، فقد كانت كل الأفكار التي جمعتها مقدمته في سياق فكري بديع مطروحة بشكل جزئي ومتناثرة في كل الكتابات العربية منذ القرن الثالث الهجري - التاسع الميلادي، على الأقل.

وكانت كلها نتاجًا لفكرة التاريخ في الثقافة العربية الإسلامية من ناحية، والفكر السياسي والاجتماعي والسكاني في هذه الثقافة من ناحية أخرى.

ولا يحسبن أحد أن هذه محاولة للانتقاص من قدر ابن خلدون، فالعبقري لا يعيش في صحراء فكرية، بل لابد له من صحبة عباقرة آخرين حتى يمكنه أن يقدم إبداعه. ومن هنا كانت عبقرية ابن خلدون الذي وضع هيكلاً فكريًا مدهشًا جمع فيه شتات الأفكار، التي كانت بلورة للخبرة الفكرية العربية الإسلامية. ومن ناحية أخرى، كان العصر الذي عاش فيه ابن خلدون هو عصر «التجميع»، الذي أنتج الموسوعات الكبرى. إذ إن هذا العصر كان عصر التوهج الأخير الذي شهد محاولات «جمع» أكثر من محاولات «الإبداع»، فقد كتب النويري «نهاية الأرب في فنون الأدب»، وكتب العمري «مسالك الأبصار»، وكتب القلقشندي «صبح الأعشى»، كما كتب غيرهم مؤلفات وموسوعات ومعاجم «جامعة». ومن ناحية أخرى، ازدهرت الكتابة التاريخية العربية، وتنوعت أنماط الكتابة التاريخية ما بين الكتب العامة، والرسائل ذات الموضوع الواحد، والسير الملكية، والتاريخ الحضري الذي يختص بمدينة ما، وفضائل البلدان، والخطط، ثم الكتب التي تكتب في تاريخ التاريخ. من هذه الزاوية يجب أن ننظر إلى ابن خلدون، ومن هذه الزاوية أيضًا، يجب أن نحاول الإجابة عن الشق الأول من سؤال كيف قرأ المؤرخون العرب ابن خلدون؟

كان الفكر الخلدوني جزءًا من النتاج الفكري العربي الإسلامي حقًا في زمن كان العرب ينتجون في كل مجال، ومن ثم كانت دروس ابن خلدون في مدارس القاهرة فرصة تبلورت فيها مواهب المؤرخين الذين تتلمذوا عليه، وأشهرهم المؤرخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، لقد أجلّه معاصروه، وعرفوا قدره، وتعلموا منه، وقرأوه جيدًا. ومن يقرأ كتابات المقريزي وغيره من المعاصرين يعرف أن المؤرخين العرب في ذلك الزمان أحسنوا قراءة ابن خلدون. ففي «الخطط» المقريزية، وفي «السلوك لمعرفة دول الملوك»، وفي كتابه الصغير المدهش «إغاثة الأمة بكشف الغمة» يكشف المقريزي عن موهبة مؤرخ فذ تمكن من الإفادة من أستاذ فذ.

وحين يتحدث المقريزي عن ابن خلدون يتحدث عن أستاذ يخلب لُبَّه، ويستولي على إعجابه، في عبارات تفيض إجلالاً وتقديرًا. وحين يحلل المقريزي أسباب التدهور السياسي، والتراجع الاقتصادي، والضمور العلمي والثقافي الذي اتضحت معالمه في زمانه، تسمع صوت ابن خلدون في حلقات الدرس التي كان يحضرها المقريزي وغيره من مؤرخي زمانه.

إن المقريزي الذي ينعى التراجع العلمي والفكري في زمانه يكيل المديح بلا تحفظ لابن خلدون. ولكن المقريزي نفسه كان تجسيدًا لنجاح مؤرخي ذلك الزمان في قراءة ابن خلدن. بيد أن التدهور العام الناتج عن سلطة مستبدة، واقتصاد منهوب، ونظام سياسي وعسكري بات خارج التاريخ، لم يكن يسمح إلا بالإفادة من الفكر الخلدوني على مستوى الكتابة التاريخية. ومثلما كان ذلك العصر هو عصر التوهج الأخير في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، كان ما كتبه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة مشعلاً من المشاعل التي أضاءت هذا التوهج الأخير.

آخر عصور الثقافة

فماذا كان حال المؤرخين العرب، وكيف قرأوا ابن خلدون في عصرنا الحالي؟

حتى لا نظلم أنفسنا ينبغي أن نشير إلى حقيقة بسيطة تقترب من البداهة تقول إننا أبناء زماننا، وأسرى ظروفنا التاريخية الموضوعية. وليست هذه محاولة لتبرئة الذات أو الشكوى بأي حال من الأحوال، وإنما محاولة رصد الظروف التاريخية، التي لا نعفي أنفسنا من مسئولية تغييرها نحو الأفضل.

أولاً - يجب الإشارة إلى أن ابن خلدون عاش في العصر الأخير من عصور الثقافة العربية الإسلامية (القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي). ففي القرن التالي مباشرة كانت الدولة العثمانية قد أحكمت سيطرتها على معظم بلدان العالم العربي. والحقيقة أن العثمانيين لم يكونوا مسئولين عن حالة الجمود التي خيمت على الفكر والثقافة العربية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يبعثوا فيها نهضة أو يقظة. لقد حافظ العثمانيون على العالم العربي عدة قرون بعيدًا عن السيطرة الاستعمارية الأوربية، بيد أن هذا كان لصالح السلطان العثماني وحكومته، ولم يكن لصالح البلاد العربية، التي شهدت نوعًا من الركود الذي وقف بها على حدود العصور الوسطى حتى محاولات النهوض، التي بدأت في خلال القرن العشرين، ولاتزال متعثرة حتى الآن.

ثانيًا - عندما بدأت الدراسات الحديثة بإنشاء الجامعة المصرية كانت الرؤية الأوربية هي السائدة في مجال التاريخ والاجتماع والاقتصاد .. وغيرها. وكان طبيعيا أن تنشأ الدراسات في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية نشأة تجعلها تبدو امتدادًا لاتجاهات هذه الدراسات في الجامعات الأوربية. وكان طبيعيًا أيضًا أن تظل دراسات الباحثين العرب وكأنها رجع الصدى لما يجري في أوربا. ومع مرور الوقت، تحررت الجامعة من سيطرة الأساتذة الأوربيين، ولكنها لم تتحرر من سيادة الفكر الأوربي، وربما تكون رسالة طه حسين عن ابن خلدون، والتي اعتمد فيها على الترجمة الفرنسية للمقدمة، مثالاً واضحًا على هذا.

ثالثًا - لم يكن الفكر التاريخي استثناء في هذا بطبيعة الحال، فمنذ البداية، تم بناء قسم التاريخ في الجامعة المصرية على أساس من الرؤية الأوربية للتاريخ. ذلك أن تقسيم العصور التاريخية إلى أقسام ثلاثة، أو أربعة (التاريخ القديم - والتاريخ الوسيط - والتاريخ الحديث والمعاصر) تقسيم أوربي النشأة والهدف، وهو تقسيم يجعل من الحضارة الأوربية الحضارة المرجعية، على الرغم من حداثتها النسبية. ومن الجامعة المصرية، انتقل هذا التقسيم إلى كل أقسام التاريخ في الجامعات العربية.

مدارس تفسير التاريخ

ومن ناحية أخرى، بدأت مدارس التفسير التاريخي، وفلسفة التاريخ تفرض نفسها على رؤى المؤرخين العرب وآرائهم. وبينما حاول بعضهم الانتساب إلى هذه المدرسة الأوربية، أو تلك، من مدارس التاريخ الأوربية (الماركسيون وأتباع مدرسة فون رانكه، ومن يأخذون بنظرية التحدي والاستجابة التي طرحها أرنولد توينبي)، ظل البعض يكتبون بطريقة لا تختلف كثيرًا عن كتابات الجبرتي وغيره من مؤرخي زمانه دون أن تكون لهم رؤية أو رأي. ومع مرور الزمن، بدأت تتضح محاولات لقراءة «عربية» لتاريخ العرب، وظهرت هنا وهناك محاولات فردية جسورة لاختراق أسوار الاستبداد الثقافي، الذي فرضته ظروف الاستبداد السياسي الذي يحكم العالم العربي عامة.

رابعًا - حدثت زيادة كمية مدهشة في أعداد المؤرخين العرب، وحدث تراكم مثير في إنتاجهم الكمي نتيجة للطفرة، التي حدثت في أعداد الجامعات العربية بعد السبعينيات من القرن العشرين، ولكن هذا التطور الكمّي المدهش لم يكن يواكبه تطور كيفي في مجال الفكر التاريخي ذاته. وعلى الرغم من الحراك المهم الذي أحدثته مراكز الدراسات التاريخية، وجمعيات المؤرخين على امتداد العالم العربي من مشرقه (الخليج)، إلى مغربه (المغرب العربي)، فإن الفكر التاريخي العربي لايزال غير قادر على قراءة ابن خلدون بالشكل الإيجابي. وأعني بهذا أننا مازلنا نستهلك الفكر التاريخي الذي ينتجه الغرب الأوربي والأمريكي بشكل خاص. ولم تقم حتى الآن محاولة جادّة لقراءة تراثنا الذي يمثله ابن خلدون قراءة جديدة، تجعلنا نحاول صياغة الفكر التاريخي الذي يعبّر عن حركتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية. ولا يمكن لأحد حتى الآن أن يزعم أن هناك «فكرة تاريخ» عربية.

ولا يمكن أن يكون هذا ناتجًا عن قصور أو عيب خلقي في المؤرخين العرب بطبيعة الحال، ولكن ظروف العالم العربي الذي يعاني الاستبداد السياسي، ويخضع لنوازع الاستهلاك الاقتصادي، ويرضى قادته بالتبعية والانصياع للقوى العالمية، ويئن تحت وطأة تيارات تخاصم الحاضر والمستقبل، وتجرّنا إلى كهوف ماض وهمي لم يوجد أبدًا، هذه الظروف جميعها هي التي تحول بين المؤرخين العرب، وبين القراءة الصحيحة لفكر عبدالرحمن بن خلدون، الذي كان تجسيدًا لثقافة تنتج ولا تستهلك ما ينتجه الآخرون.

إن القراءة الصحيحة ينبغي أن تطرح الأسئلة، عما هو «كائن» وعمّا «سيكون» في الحاضر والمستقبل من أحوالنا، والقراءة الخاطئة ستكتفي بما «كان» يمثله ابن خلدون، والثقافة العربية الإسلامية، التي «كانت» البيئة الحاضنة التي أنجبت ابن خلدون.

فهل ننجح في الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بما هو كائن, وبما سيكون, في زمن نرى فيه الخطر يهدد وجودنا؟ أم نكتفي باحتفال، نردد فيه كلامًا مريحًا عمّا كان؟!.

 

قاسم عبده قاسم