حنا مينه يتذكر الماغوط.. اليراع المنضّر

حنا مينه يتذكر الماغوط.. اليراع المنضّر

في هذه السطور تداعب الذاكرة الأيام الخوالي التي جمعت بين المبدعين السوريين الكبيرين الروائي حنا مينه والشاعر محمد الماغوط.

هأنا في السلمية أخيرًا، وكم دعيت لزيارتها فلم يسعف الوقت، وكم رغبت، في رجوة الأمل، أن يكون صديقي وأخي، محمد الماغوط، معي في هذه الزيارة «فشاء ربك ألا يحقق الأربا»، وشاء - سبحانه وتعالى - أن تكون العبقرية في مثواها الأخير، فلا أملكُ إلا الانحناء أمامها، حزينًا، باكيًا، ملتاعًا، معزيًا- لو ينفع العزاء- أهلها والصحب فيها، صارخًا «وامحمداه» دون أن يستجيب، حتى في الصدى، للهتفة الحرّى، لا لوقر في أذنيه، «وحاشا، ففي أذن الثرى وحده الوقر!»، إنما الشذى في المعجز يكون، والشذى، في الكلمة الجامحة، المتوفزة، النافذة، في الكلمة النصل، التي في حدّها الحد، يتضوّع، يتصاعد، يتعالى، بين أرض وسماء، في شعر عبقر، وما عبقر، في وادي الإلهام، إلا هبة سماء، لمن أوتي أن يرقى إلى مستواها، ويتجاوز، عنوة وبغير إشفاق، على الذين أضرّت بهم، وبنا، الشفقة الرعناء!

إن الشاعر، الذي في جنون الشجاعة، يغزل الشعر لفحًا مجنونًا، وفي المبضع، الأصيل الأصيل، الجارح الجارح، يفقأ الدمامل النتنة، المدوّدة، ثم يعطي في ترف اللفظ، لأنق اللفظ جمالاً فتاكًا، ويعطيه، كذلك راحة حنونًا، ملساء، منداة بالأريحية والعزاء، بها يمسح على القلوب الكليمة من أسى، حاملاً إليها في القنوط رجاء، وفي الإظلام نورًا، وفي اليأس أملاً، وللبدء، من وجع الفاقة والمرض، موعدًا في اللامنظور من الزمن، إلى أن يصير موعدا منظورًا في الزمن، آتيًا لا ريب فيه، في القريب أو البعيد من الأعوام والعقود، إن هذا الشاعر، شاعرنا، تصرخ، في قافيته المدماة، المجنحة، الكبرياء قائلة: أنا هنا! رجوة حق، في طلاب حق، غلابًا يؤخذ، وغلابًا يزهو، وهذه الصرخة، المتضرّمة، المدويّة، المجلجلة، المنضرة، العنيفة، الغضوبُ، هي صرخة شاعرنا الكبير، الحبيب: محمد الماغوط، وستستمر هذه الصرخة، ما استمر عطاء الشاعر، وهذا العطاء سيستمر، مع الدعاء في أن تكون العافية في بردتِه، والصحة النفسية في جوارحه، والنار الكاوية في عزمته، مادام المثل العربي يقول: آخر الدواء الكي، والكي آخر ما تبقى لنا من دواء.

أما العين، في لحظها والدلِّ، فإنها عين المرأة الأسطورة، عين إلزا لدى أراغون، وعين إلزا المجهولة، المعلومة، لدى الماغوط، والشاعر وحده، مَن نفذ، كالمتنبي الرائع، إلى سرها المخفي، في الريش المجنّح النسر، المحلق عاليًا عاليًا، ومن عليائه ينقض على فريسته، انقضاض الشاعر النابه على فكرته، التي هو مالكها، سيدها، مروّضها في أغراضه الشعرية.

عبوس هو الماغوط، ضحوك هو الماغوط، حاضر البديهة، لاذع النكتة، فجائي الالتفاتة، وفي التفاتته السابرة بعمق، الجارحة حتى العظم، مدّعي شوق، أصيل أصيل، شديد شديد، سائغ سائغ، تنز منه الرغبة الشهّاء، كما في زئير الأسد، نداء إلى وليمة حب، في الغابة العذراء، على شرف لبوته، التي في ملغميها الحياة والموت معًا!

إنني، يا إخوتي القرّاء، لا أملك يدًا سحرية تقطف النجوم، وأصابعي التي أخذتُها من اللجة، وشفتاي المأخوذتان من زبد الموجة المصطخبة، هي أصابع إنسان يكون حيث تكون المغامرة، وما هذه الأصابع إلا أغصان شجرة مرجانية، منسية في قاع البحر الأحمر، لا تورق كزهرة الثلج، في الفضاء الحليبي الرحب، وشفتاي قد تقرب الإثم «لكن ليس ترتكب» وحروفي منذورة للحرق، في اللهب القدسي، ولساني هو الآهُ في صوت المغني، يردد في فلاة القهر: «يا شعب، يا شعبي، وبعض القول لا يُحكى فيضمر».

نعم! بعض القول، في الهتفة الحرّى، آهٌ من ألم، وفي هذا الألم لي شراكة مع شاعرنا الماغوط، الذي هذا النثر المقدس، بعض تكريم له، وبعض احتفاءٍ به، وربما- أقول ربما- أنساهُ يسيرًا مما به، إلا أنه، التكريم، لن ينسيه، ولن ينسيني، رعف الطفولة شقاءً، ورعف الشباب سجنًا، ورعف الكدح لأجل الرغيف زؤانًا، ورعف الكأس شرابًا للتمويه، في هذا الزمن المموّه بالأضاليل، تسّاقط بردًا، في عيد سلام، على رءوسنا، الأضاليل التي هي سكب إشفاق، وهل نملك سواه؟ على إخوتنا المفادين، في فلسطين الجريحة، الذبيحة بمدية باترة، من السلاح الحديث، الموهوب لسفاح أشر، يُقال له شارون، ويُقال لمن وراءه، سيد سند، مفرد أحد، بسبب من استفراده بدنيانا المعذبة به، وبأمثاله من المقنعين بالإرهاب، والإرهاب هم، ونية العدوان، وحتى العدوان، هُمُ على العراق وشعبه الشقيق، بذريعة امتلاك سلاح التدمير الشامل، وسلاح التدمير الشامل في إسرائيل وحدها، هذه الربيبة الشمطاء، المدججة بالسلاح حتى العنق، والمالكة للسلاح النووي الرهيب، على الرغم من السيد البرادعي الذي يتهم إيران، ويستقوي عليها، لأن بوش يريد ذلك!

ما همّ، يا صديقي الشاعر، الخطر!؟ يراعنا الخطر، صبرنا الخطر، والمدى، بعد، قصير، وأنت، الذي تحرك قيثارته روح إلهام، قولة أولئك الديسمريين، المنفيين في بيت الموتى، للشاعر العظيم بوشكين، «لتأتينك الفرحة بعد الجهمة، خلل قفل ومفتاح، ويأتينّك الإبداع، شعرًا ونثرًا، في موكب الوطن الذي أعطيته، بشجاعة لا تردد فيها، وسخاء لا شح فيه، وأمثولة لا منكرة فيها، أعظم ما يُعطى، وهو الفن، ذوب القلب، وعصارة الوجدان، بينما هم، المنفيون، يضحكون من القياصرة من وراء القضبان»!

إني، في عناق الحرف، وعلى اسمه الماجد الممجد، أعانقك، أقبلك، أمنحك، مقابل كتاب لك، حبي وإعجابي، مفاخرًا بك، زائرًا لك، مؤنسًا لوحدتك، حَدِبًا على صحتك، واثقًا، والعزم في الإرادة مضاء، إنك ستعطينا من شجنك سلوة، ومن قبسك نارًا، فدمت عزيزًا علينا، نكبر بك، كي تكبر بنا، فوق ما أنت كبير، وفي هذا كفاء في القول، يصدر من قلب أخ، إلى قلب أخيه، وسلام عليك في كل أحوالك، وسلام على المفادين، الناذرين أنفسهم للموت، في فلسطين والعراق، والجهات الأربع من دنيانا!

سقراط شرب السم، امتثالاً للقانون، وأي قانون هذا الذي يقتل فلاسفته؟ وأي قانون هذا الذي يسجن الكبار من مبدعيه؟ وأي قانون، في دول اللاقانون، هذه التي ترمي المجدلية بالحجارة؟ وأي عرف، يذهب بددًا؟ مع أن العرف لا يضيع بين الله والناس؟ وأي تضحية، في موكب اللاأضاحي، حين الحرف، شعرًا ونثرًا، تسفيه الريح السموم، وليس من صوت ينادي «أوقفي الركب يا رحال البيد، إنه تاه في مداك البعيد»؟

إني أفضّل سقراط على أفلاطون، وأفضّل أرسطو على سقراط، وأرفض، في الوقت نفسه، صنيع سقراط وهو يتجرع السّم امتثالاً لقانون جائر، يدوس بنعليه، في المكان غير المقدس، على الفكر الفلسفي، وعلى المبدعين، في الفلسفة وغيرها، دون أن يرعى حرمة الإبداع، التي هي، وحدها، باقية، وما عداها إلى زوال، وبعد هذا يُقدم لنا، في طاعة القانون، سقراط مثلاً يُحتذى، مع أن تجرعه السم، باطل الأباطيل باطل، وقد زال ذلك القانون، وبقي سقراط، وبقيت فعلته عيبًا، في تاريخ الإغريق كلّه، وفي كل مثل يضرب به، لإقناعنا، عبثًا، أن علينا، كما سقراط، أن ننصاع لكل قانون، مهما يكن جائرًا.

إننا لن نغضي على الذل، حتى لو تأنّق الذل قولة بدوي الجبل، ولن نبكي عتابًا، فعتابنا «ثاراتنا الحمر، أحقادًا وأضغانًا».

أيها الشاعر الصديق، يا صاحب القلم النافذ الطعنة كالحربة، والكلمة التي منها المشرفيّة، اعذرني إذا جنحت عن الأصول، فأنت أكثر مني كرهًا للأصول، لأننا، كلينا، نرغب في اختراق المألوف، وقتله أيضًا!





الشاعر الراحل محمد الماغوط