إلى أن نلتقي
هل نستحق آثارنا؟
لا أشير بهذا السؤال إلى النهب المنظم للآثار العربية، ولا للهجوم الكاسح الذي قام به بعض الأوباش ضد متاحفهم وآثارهم في أعقاب سقوط بغداد، ولا إلى محلات العاديات في «الجاليري دي لوفر» في باريس وغيرها في أوربا، وهي تعرض تحفًا نادرة وأصيلة من تراثنا للبيع جهارًا نهارًا، ولكن ما أعنيه هو تلك المعاملة السيئة والمهينة التي تلقاها منا الآثار التي نملكها بالفعل، فمنذ فترة رأيت في التلفزيون واحدًا من كبار المسئولين عن الآثار، كان عصبيًا وعالي الصوت ولا يطيق أي انتقاد، مثله في ذلك مثل معظم المسئولين العرب، قال متفاخرًا أنه يوجد في مخازن هيئته ما يزيد على 30 ألف قطعة أثرية، غير مصنفة، ولا مرتبة، لذلك، فمن الطبيعي أن تتم سرقتها بانتظام، وعمومًا فكلها سرقات غير مهمة لأنها قطع مكررة، اغتظت من هذا المسئول وهو يتحدث عن تلك الكمية الكبيرة من الآثار المطمورة في المخازن دون أي مبالاة، ودون أي إحساس بالجريمة التي يرتكبها، وتذكرت جموع الزائرين وهي تتدافع لأقسام المصريات في متاحف لندن وباريس، وكيف تعرض كل قطعة فيها - مهما صغر حجمها - كأنها جوهرة نادرة، وتذكرت الزيارة الوحيدة التي قمت بها لمتحف «المتروبوليتان» في نيويورك، وكيف وقفت مذهولاً أمام ما فعلوه بمعبد «دندرة» الصغير، وهو بالمناسبة اسم له وقع سيئ في الحوليات المصرية، فقد غرقت واحدة من سفن الركاب الضخمة كانت تحمل هذا الاسم، وكان السبب في غرقها - كالعادة - هو الإهمال وليست مياه النيل الهادئة، وتحول اسم السفينة إلى مادة يتندر بها المصريون ويؤلفون حولها النكات كعادتهم في مواجهة الكثير من الكوارث، وعاد الاسم يطفو مرة أخرى في منتصف السبعينيات حين قام الرئيس السادات بإهداء الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون معبدًا كاملاً يحمل اسم المدينة نفسه، يومها ثار الجدل هل من حق الرئيس - مهما كانت الصلاحية التي وهبتها له السماء - أن يهدي شيئًا لا يملكه أصلا ولكنه ملك أصيل لجموع الشعب وجزء من تاريخه وتراثه، كان معبد «دندرة» يحتل دورًا كاملاً في المتحف، يقف شامخًا وسامقًا ومشعًا بضوء خافت، مليئًا بسحر معتق وشجن حزين وعذوبة آسرة، تحيط به جداول من الماء تشبه نيلاً صغيرًا تؤازره بضع من أشجار النخيل، تحاول أن تزيل غربة المعبد الذي أقصي عن وطنه، كان الجميع يتحركون حوله في صمت وخشوع، كأن أصداء الصلوات التي كانت تقام فيه تتناهى إليهم من أزمنة غابرة، وكانت جدران القاعة التي ينتصب فيها المعبد حافلة بالصور الوثائقية التي توضح كيف تم بها تفكيكه من جذوره وجلبه إلى هذا المكان، لفت نظري أن صور أعمدته القديمة كانت ملوثة بالعديد من الأحبار والكتابات العربية بخط رديء «عطية يحب عزيزة، وعويس هو أجدع واحد في الصعيد»، وغير ذلك.. مرسوم بجانبها قلوب متعرجة وسهام متكسرة، وتواريخ وأسماء تلف أعمدة المعبد كأنها بردية قديمة، بات المعبد الآن نظيفًا وأنيقًا ولكنه فاقد الروح، مليء بجلال آفل ومشبع ببرودة التحنيط، المهم أنه كان محاطًا باحترام لم يتمتع به حتى في بلده الأصلي، كنت حزينًا لأن «الرئيس المؤمن» قد فرط في هذا الأثر النفيس، ولكني عزيت نفسي بأنه قد وقع في يد من يهتمون به حقًا، ويعرضونه لملايين البشر ممن يتوافدون بلا انقطاع عن هذا المتحف الشهير من العالم وهو يمثل جزءًا من غربة البشر والحجر.