جمال العربية

جمال العربية

أحمد رامي
الشاعر الذي كسبه الغناء وخسره الشعر!

عندما ظهر ديوان (أحمد رامي) في صورته المكتملة - عن الدار القومية للطباعة والنشر في مصر, منذ أكثر من ثلاثين عاما, فوجئ الناس بأن المجلد الذي يضم ثلاثة كتب في كتاب واحد هي: القصائد وغرام الشعراء (مسرحية شعرية) والأغاني, هو أقل بكثير مما كانوا يتوقعونه من إبداع رامي الشعري. وأدركوا أن ما نظمه الشاعر على امتداد أكثر من خمسين عاما لا يرقى إلى المكانة التي يحتلها رامي في قلوب محبّي فنه, وعشّاق أغنياته التي سار ذكرها في الشرق والغرب, بفضل سيدة الغناء العربي أم كلثوم, في المقام الأول, وغيرها من المطربين والمطربات, الذين تغنوا بكلمات رامي, وحملوا عطره إلى كل مكان.

أما ناشر الديوان, فقد اكتفى بوضع هذه السطور على غلافه الأخير: (يتصف هذا الديوان بصدق التصوير وحسن التعبير, وفيه صورة لحياة شاعر رسمها نظمًا وأرسلها غناء). وهو كلام باهت, لا حرارة فيه ولا حماس للشعر أو الشاعر, وإنما هو - كما يقال - كلام مرسل, يمكن أن يطلق على رامي وغير رامي من الشعراء.

أما المقدمة الضافية التي كتبها الشاعر صالح جودت للديوان, فأغلبها في وصف العلاقة الوثيقة بين الشاعرين, وكيف بدأت بالحرب والعداء, وانتهت إلى المودة الحميمة والإخاء. ولابد أن حجم شاعرية رامي في ديوانه, قد شغل صالح جودت, كما شغل الكثيرين, وكذلك التفات رامي إلى كتابة الأغاني أكثر من حرصه على الإبداع الشعري, الأمر الذي جعل صالح جودت يقول في معرض حديثه عن بدايات رامي: (ولكن القدر شاء له أن يلتقي بأم كلثوم, في منتصف العشرينيات, فإذا هو يضعف أمام سحرها, وتلين موهبته لإلهاماتها, فينصرف عن الشعر إلى نظم الأغنية الدارجة لها, وتستمرئ عاطفته مرعى ذلك الصوت الخصيب. حتى يكاد ينسى نفسه وينسى موهبته الأصيلة, وينسى ما جُبل عليه وما خلق له, قربانًا لوتر أم كلثوم).

ثم يقول صالح جودت: (ومهما يكن من أمر, فإن رامي في نزوله من قمة الشعر إلى سهل الأغنية الدارجة, لم يهبط عبثا, وإنما حمل رسالة أدبية وقومية ضخمة, هي رسالة الوثوب بالأغنية الدارجة من السفوح إلى القُنن, في الكلمة والمعنى معا, واستطاع أن يطوّع الصور والمعاني الشعرية العالية للكلمة العامية, وأن يرقق عواطف العامة بالشجى والأنين والذكريات, وغيرها من الكلمات التي تخلق الصور. والتي لم تعهدها الأغنية الدارجة من قبل. حتى صارت أغنية رامي مميزة على كل أغنية غيرها بشيء جديد, هو قربها إلى الشعر, وحتى أصبح رامي زعيم مدرسة في الغناء, لم يتأثر بها المؤلفون المحدثون وحدهم, وإنما امتد تأثيرها إلى روح الملحن وحنجرة المغنى أيضًا).

ولقائل أن يقول: وما الذي يدريكم - أنتم يا من تهتمون بالدفاع عن شاعرية رامي - أن حجمها الحقيقي لم يكن, بالصورة التي تمثلت في ديوانه, وأنه لو أخلص للشعر لكانت مكانته أعظم وأكبر في ديوان الشعر الحديث? أليس الذي تحقق فعلا, وواقعا, هو دليلنا إلى هذه الشاعرية? فلماذا تريدون له شأنا فوق شأنه, وصورة أضخم من صورته?

الحقيقة التي لا تُدفع, هي أن اهتمام رامي بكتابة الأغنية جعله على رأس الهرم الذي ينتظم نوعية من مؤلفي الأغاني في مصر, في الوقت الذي كان فيه بيرم التونسي - بالرغم من حياته العاصفة المضطربة وتقلّبه بين أحوال المنفى والإقامة في مصر - على رأس الهرم الذي ينتظم نوعية ثانية من مؤلفي الأغاني في مصر, مذهبهم ليس مذهب رامي وطريقتهم ليست طريقة رامي. كانت لغة رامي: في الشعر وفي الغناء أقرب إلى لغة (الصالون) القاهري في رقته ونعومته والحرص على تقاليده وقيمه في الحب, من خلال الاهتمام بأمور الوصل والصد والهجر والقرب والدلال والتمنّع والمصافاة والجفاء والنسيان والقطيعة إلى آخر مفردات هذا الحب (القاهر) الذي ينتظم شرائح من طبقات المجتمع الأكثر اقترابًا من الغنى والجاه والمنزلة والحداثة. أما كتابات بيرم - في الأغنية وفي غيرها - فجاءت أكثر اقترابًا من الوجدان الشعبي, وبالتالي أكثر اهتمامًا بالتعبير عنه, وهو وجدان يحتفل بصورة المحب في أدائها المعتد بذاته, غير المنكسر لوعة وجوى, الحريص على أن يكون (ابن البلد) مرة و(المصري الأصيل) مرة أخرى, الوجدان الذي يمتزج فيه حب الحبيب بعبير الأرض وروائح الأحياء الشعبية, وصولا إلى ريف مصر وفلاحيها, ومعاناة الطبقات الكادحة في المجتمع, التي كان إبداع بيرم - في قصائده وأغنياته وأزجاله ومقاماته وسائر كتاباته - تصويرا لها, وتغنّيا بأصالتها ودفاعا عنها. لن نجد إذن في أغنيات بيرم: (عزّة جمالك فين من غير ذليل يهواك), أو (ولما أشوف حدّ يحبك يحلالي أجيب سيرتك وياه) أو (لو كنت باصعب عليك راعيني واعطف عليّه) التي كتبها رامي تعبيرًا عن وجدان قاهري لا تعيبه المذلة أو الانكسار أو التولّه, مادامت الدائرة المحكمة لهذا اللون من العواطف لا تتسع إلا للحدّين المتباعدين: الهجر والوصال.

لابد إذن لمن يقرأ شعر رامي - في قصائده القليلة - أن يتمثل دائما انطلاقات رامي في أغنياته, باعتبارها الامتداد الحيّ الأكثر إيغالاً ونفاذا ووصولاً إلى الناس. وكأن هذه الأغنيات بمنزلة الحواشي الضافية على المتنْ, المتنْ هو الشعر, أما الإضاءات والشروح والاجتهادات والتطبيقات والمغامرات اللغوية والعاطفية, فهي أغنياته التي ستصدح بها سيدة الغناء, أو غيرها من مشاهير العصر بدءًا بمحمد عبدالوهاب مرورًا بأسمهان وليلى مراد وفايزة أحمد.

وفي الحالين: شعرًا وغناءً, لغة رامي هي هي. صفاء ورقة ولين حاشية وجرس مطرب, وافتتان في توليد الصورة التي يفتتها ويجزّئها إلى عناصرها ثم يعود فيلملمها ويجمعها, شأنه شأن الصياد الماهر, يعرف كيف يلقي بشبكة مفرداته إلى اليمّ, وكيف ينتشلها من الماء محمّلة بصيد وفير من الكلمات المختارة والعبارات الدّالة, والظلال البينية التي ينسكب عليها الخيال وتسرح فيها الخواطر والظنون.

وشعر رامي في قصائده, وعاميته - في معظم أغانيه - يمثلان المستوى المختار من اللغة القاهرية, لغة العاصمة التي تتميز بالرقة والرهافة, والبعد عن الطابع المحلي أو الإقليمي الذي يستوقف الأذن بنشوزه أو غربته أو خروجه على مألوف الكلام, ومستأنس المعجم اللغوي. ورامي الذي تمرّس طويلا بلغة شارع (عماد الدين), شارع الفن الرئيسي في عشرينيات القرن, وثلاثينياته حتى أربعينياته, ومارس الكتابة المسرحية والسينمائية والصحفية, يعرف - أكثر من غيره - كيف يتخيّر الكلمة المأنوسة, وكيف يؤثر الصياغة الرقيقة الدالة, النافذة إلى القلب من أيسر سبيل.

وليس هذا الشعر بعيدًا عن الأفق العام الذي استشرفه شعراء جماعة أبولو, وعلى رأسهم إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وأبو القاسم الشابي, بل إن فيه ومضات وقبسات من المنجز الشعري لهذه الجماعة على مستوى المعجم الشعري, والصور المشتركة, فضلاً عن الاهتمام بالطبيعة, والانكفاء على الوجدان. ورامي في هذا الإطار هو الأقرب إلى الأداء التعبيري والتصويري عن علي محمود طه على وجه الخصوص, وإن كان يسبقه في التاريخ الشعري. فديوان (رامي) الأول صدر عام 1918, بينما صدر ديوان (علي محمود طه) الأول في مستهل الثلاثينيات.

ويختلف رامي عن شعراء أبولو جميعا في شدة اهتمامه بالمسرح, ومن هنا كانت الذخيرة المسرحية التي ترجمها عن شكسبير, وتبلغ نحو خمس عشرة مسرحية, من بينها هاملت ويوليوس قيصر والعاصفة وروميو وجولييت والنسر الصغير وغيرها مما قدمه مسرح يوسف وهبي ومسرح فاطمة رشدي في زمن ازدهار المسرح. ومع كثرة اهتمامات رامي الأدبية, وانشغاله بالمسرح, وترجمة رباعيات الخيام, وتأليف الأغاني, وإبداع القصائد, فإن الناس لا يذكرون من بين هذا كله إلا رامي, شاعر الأغاني التي بها - كما يقول صديقه صالح جودت - اشتهر وطار ذكره في الآفاق. وبقيت مكانته في الشعر الوجداني الحديث, تاليةً - في الترتيب والقيمة - لمكانة ناجي وعلي محمود طه والشابي ومحمود حسن إسماعيل مجاورة ومماثلة لمكانة صالح جودت وغيره ممن ضمتهم جماعة أبولو من الشعراء الذين يمثلون ألوان الطيف المختلفة في تراث هذه الجماعة.

يقول أحمد رامي في قصيدة عنوانها (حيرة النسيان):

حفِل الكون بالمعاني وبالحسْنِ ولي خاطري, ولي وجداني
كيف لا تأخذ المشاهد من نفسي وتُوري الكمين من أشجاني
ويُلين الجمال كلٌ عصيٍّ من فؤادي وخاطري وبياني
كنتٍ لي فالحياة تزدحم الآمالُ فيها, وتستجيش المعاني
وأرى فيكِ حسنها, وأرى فيها مجالي تصوّري وافتناني
ثم ولّيْتِ, فانطوى عهدي الماضي وأُعقبتُ حسرة الحرمانِ
وتمشّت بنا الليالي وطولُ البعدِ يُغري القلوب بالسلوان
غبْت عني من قبل هذا, ولكن كان لي رِقْبةُ اللقاء الداني
أتعزّى بما تُمّنين من وعدٍ وما أستطيبُ من نُشدانِ
وأُريغ القصد النبيل بما يبعثهُ الحبُّ من بعيد الأماني
فإذا ما لقيتُ وجهك جدّدْتُ طِماحي إلى العلا, واسْتناني
وتزوّدْتُ ما أطيق به الصبْرَ على ما حملت من أحزاني
هذه نعمةُ البعاد إذا خالطهُ القربُ بين آنٍ وآنِ
فإذا طال طال بي اليأسُ, واليأسُ سبيل تُفضي إلى النسيانِ
وعزيزٌ عليَّ أنّى أنْساكِ وأنسى الذي مضى من زماني
إنه صفوةُ الحياة, وهل أَقربُ منها هوًى إلى الإنسانِ?
نرتضيها رنْقًا فكيف تناسيَّ الذي فات من زمانٍ هاني
صوّرتهُ يدُ الخيال على الخاطرِ نقشًا مُنضّر الألوانِ
وقّعْتهُ أوتار قلبي بالشعرِ نشيدًا مُرجّع الألحانِ
هاتفا في فضاء صدري طورًا بالمراثي, وتارةً بالأغاني
ولهذي وتلك عندي شجْوٌ في مدى مسمعي ولُبّ جَناني
خبّريني, على العهود تُقيمينَ فأَغْنَى عن اللِّقا والتداني?
وأرانا وقد تراسل رُوحانا بنجوى الهوى وهمْسِ الأماني
أم تغيّرتِ بعدما انسلّ طول البُعدِ فاستلّ منكِ روح الحنانِ
وتبدّلْتِ والليالي قُساةٌ تبعث اليأس في قلوبِ الغواني!
آهِ لو أكشفُ المخبأ من أمري وأدري الخلاص مما أعاني
إنني إنْ قدرْتُ عشتُ قرير النفْسِ عُمري, بِنعمةِ الإيقانِ
فتناسيْتُ - إن نسيتِ - وما كنتُ بقاسٍ في الحبّ أو خوّانِ
أو ظللت الأمين رغم تجافيكِ وكنتُ الوفيّ في الهجرانِ
غير أني في حيرةٍ والذي يبقي لك الحبَّ حيْرةُ النسيانِ


(النسيان) خاطر شعري, أو (حال) شعرية كثيرة التجلي في شعر رامي الفصيح وأغانيه على السواء, حتى ليمكن القول بأن شعره العاطفي يدور في دائرة واسعة قُطْباها: التذكّر والنسيان, بكل ما يحتمله الهاجسان أو تفيض به الحالان من رضا أو تعاسة, ومن قبول أو شكٍّ وتساؤل على درجات متفاوتة في إبداع رامي.

فهو يقول في ذكْر النسيان:

هجرتك علّني أسلو فأنسى وأطوي صفحة العهد القديمِ
وغالبت التناسي فيك حتى غدا من فرط ذكراه همومي
ذكرتك ناسيًا ونسيت أني أريد البْرءَ للقلب الكليمِ
وكنت أحاول النسيان جهدي فصرت أحنُّ للحب المقيم


ويعيد رامي إنتاج هذا الموقف الشعري والشعوري من النسيان في إحدى أغنياته الذائعة الصيت, وهي أغنية (هجرتك) التي يردد فيها مفردات الأبيات السابقة وسياقها الوجداني وهو يقول:

هجرتك يمكن أنسى هواك وودّع قلبك القاسي
وقلت أقدر في يوم أسلاك وفضّى من الهوى كاسي
لقيت روحي في عزّ جفاك بفكّر فيك ونا ناسي


وصولا إلى قوله في الأغنية نفسها:

غصبْت روحي على الهجران وأنت هواك يجري في دمّي
وفضلْت أفكّر في النسيان لمّا بقى النسيان همّي!


ثم يختتمها بقوله:

وصبحت بين عقلي وقلبي تـايــه حـيــران
أقول لروحي من غُلْبى أنـسـى الـنسـيان!


هذا النموذج الدالّ من شعر رامي وعاميته يكشف عن البنْية التحتية العميقة لكليهما, وعن الحياة المشتركة التي تتدفق من تحت شعره وأغانيه, وكثيرا ما يكون السبق لهذه الأغاني في سرعة الوصول والانتشار, وأيضًا في الكشف عن الفكرة الطريفة أو المعنى المبتكر أو الحال العاطفية التي سبق رامي إلى اقتناصها وتصويرها.

لقد امتدت حياة رامي (1892-1981), واتسع عطاؤه, وتشعبت آثاره, وهو يرسي دعائم مدرسة في الشعر والأغاني, تابعها الكثيرون في مصر والعالم العربي, وخرج عليها أبناء بيرم التونسي وأحفاده - الذين يمثلون طريقا آخر ونهجا مغايرا - من أمثال: صلاح جاهين وفؤاد حداد وسيد حجاب وعبدالرحمن الأبنودي ومجدي نجيب وغيرهم. لكن إبداع رامي المتواصل على امتداد أكثر من خمسين عامًا يظل حتى اليوم قابلاً للمقاربة والتأمل واستجلاء جمالياته وطرائقه.

 

فاروق شوشة