المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها

المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها

يتنقل هذا الكتاب في حديقة الشعر العربي من معلقة إلى معلقة, مقدما تحليلات فنية بديعة, ونظرات فكرية ثاقبة, لم يظفر القارئ العربي بمثلها منذ (حديث الأربعاء).

استخدم العبارة التي اخترتها عنوانًا لمقالي, وأنا متيقن من أن قارئي سيدرك ما أرمي إليه, من محاولة توحيد الهوية بين عبدالله الطيب الشخص, وسفره الموسوعي الكلاسيكي المعروف: (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها). وتعود معرفتي بعبدالله الطيب إلى ستينيات القرن الماضي, إذ التقيت به أول مرة في حلقة البحث التي كان يعقدها القسم الذي كنت أدرس فيه من جامعة لندن, وكان قد جاء هو إليه زائرًا. ليلتها أفاض من علمه على الجميع, وأشبع الأدب العربي الحديث سخرية وازدراءً, معتصمًا في ذلك بخبرته العميقة بالحضارة العربية الإسلامية, وبمعرفته الواسعة بالأدب العربي القديم شعره ونثره. وكان لقائي الثاني به في بيت صالح سوار الذهب في القاهرة, وذلك بعد لقائي الأول به بربع قرن من الزمان. بدأ اللقاء على الغداء, وامتد بفعل سحر حديث عبدالله الطيب حتى جن الليل, وكان هو عبدالله الطيب القديم وقد أضيف إليه نضج الأدوات, وخبرة الأيام, وتوهج اليقين. فلما قرأت كتابه (المرشد) لأداء مهمتي الحالية - قراءة روية وتدبر - بدا لي وكأنني أجلس إلى صاحبه مرة ثالثة, وصح عندي أن ما في هذا السفر الضخم - في طبعتيه البيروتية والكويتية - إنما هو عصارة روح الرجل ورحيق فكره, وجوهر معتقده الأدبي, ومعرض عالمه المعرفي بتراث أمته وتراث الإنسانية, وأن ثمة وحدة لا تنفصم عراها بين الفكر والنص واللغة والمنهج من ناحية, والرجل من ناحية أخرى.

كثيرون هم دارسو الشعر العربي, ولكن دارسيه عن معرفة ومحبة قليلون. وقليلون هم دارسو الشعر العربي القديم, ولكن دارسيه عن معرفة ومحبة نادرون. ويأتي عبدالله الطيب في رأس هذه الندرة التي استوعبت هذا الشعر, وخلطته بذاتها, وأحاطته بعاطفة مودة وحدب, ثم مدت بصيرتها ومعرفتها إلى ما وراء حدوده من تراث العالم, فأتيحت لها بذلك فرصة للمقارنة, والمقايسة, والاعتبار, ثم قدمت خلاصة تجربتها المكمِّلة للناس في سخاء وأريحية, بروح عالية من الاكتراث, وقدرة فائقة على الفحص والإرشاد.

وقد تشي ملامح (المرشد) الخارجية بأنه بحث في موسيقى الشعر العربي, بل قد يغتر بعض من يقف عند قشرته السطحية فيرى فيه كتابًا في العروض العربي, ولكن هذا وذاك يكون ظلمًا للكتاب ما بعده ظلم. أما كونه كتابًا في العروض فهذا أبعد ما يكون عن طبيعته, وأما كونه كتابًا في موسيقى الشعر العربي فهذا بعض ما فيه, ولكنني أبادر بالحكم على هذا (البعض) بأنه ليس أفضل ما في الكتاب.

ومن الواضح أن الفكرة الأساسية التي تحكم هذه الناحية من الكتاب هي ربط بحور الشعر العربي - أو لنقل أنماطه الموسيقية أو نماذجه الإيقاعية - بالأغراض التي تقال فيها, والمعاني التي تؤديها, وبحور الشعر العربي - كما نعلم - متفاوتة فيما بينها, منها ما يبنى على ثماني تفعيلات كالطويل والبسيط, ومنها ما يبنى على ثلاث كالكامل والوافر, ومنها المجزوء والمشطور والمنهوك, ثم إنها متفاوتة كذلك في طول التفعيلات من حيث عدد الأصوات المتحركات والسواكن. ويريد عبدالله الطيب أن يقول - بجملة واحدة - إن لكل نمط تشكيلي موسيقي من هذه الأنماط أغراضًا ومطالب تصلح لها ولا تصلح لغيرها.

وقد تطلب إيضاح هذه الفكرة المركزية عرض نماذج وافرة من الشعر العربي القديم, يمكن اعتبارها بذاتها, ودون حاجة إلى أي استنتاجات منها, معرضًا مفيدًا للقارئ العربي, الذي توشك أن تنقطع الأسباب بينه وبين تراثه الشعري. لكن عبدالله الطيب يزيد فيقلب هذه النماذج المتنوعة الوفيرة بدربته العالية, فيلقي عليها - في جانبيها الموسيقي والدلالي - أضواء العارف الخبير, مقدمًا لها أوصافًا طريفة مدهشة مهما وجدت نفسي في خلاف معها في نهاية المطاف!

الشعر صوتيًا

يبدأ عبدالله الطيب في فحص الموضوع من الناحية الصوتية, فيرى أن (الضمة حركة تشعر بالأبهة والفخامة, والكسرة تشعر بالرقة واللين) (الإشارات في الأجزاء 1 - 3 إلى الطبعة البيروتية, وفي الجزء 4 إلى الكويتية). (1: 69), ثم لا يلبث أن يعلن عن هدفه الأساسي فيقول: (ومرادي أن أحاول بقدر المستطاع تبيين أنواع الشعر التي تناسب البحور المختلفة) (1: 72), وهو يقول إن تعدد البحور ذاته دليل على فكرته تلك, وإلا (فقد كان أغنى بحر واحد ووزن واحد) (1: 27). وبناءً على ذلك فإن قول (الأخطل) الجليل من بحر (البسيط):

خف القطين فراحوا منك أو بكروا وأعجلتهم نوى في صرفها غِيَر


لم يكن من الممكن أبدًا أن يصلح له الرجز المجزوء الذي استخدمه شوقي في قوله مثلاً:

فيما اجتماعنا هنا يا عضرفوت ما الخبر
لا أدر تلك ضجة حضرتها فيمن حضر


وهو إذ يقرر ذلك, يقطع علينا طريق الخلاف معه بقوله: (ومن كابر في مثل هذا, فإنما يغالط في الحقائق, ويسومها طلب المحال) (1: 73). ثم يطور فكرته فينعت بحور الشعر العربي بنعوت مبتكرة, فبحر (المديد) فيه: (صلابة ووحشية وعنف) (1: 75), وبحر (الخبب) (بحر دنيء للغاية) (1: 80), والبسيط المنهوك, والمتقارب القصير, والمقتضب, والمضارع: (بحور شهوانية) (1: 84).

وعند هذا الحد أجد نفسي مدفوعًا إلى ارتكاب جريرة مخالفة عبدالله الطيب, مغامرًا بقبول المكابرة, ومغالطة النفس, وسومها طلب المحال! وسأكون مختصرًا, فأورد طرفًا من كلامه في الموضوع, ثم أتبعه بسؤالٍ بدا يتلجلج في نفسي, ولا أجد عليه جوابًا. يقول هو: (هذه البحور سميناها (شهوانية) لأن نغماتها لا تكاد تصلح إلا للكلام الذي قصد منه قبل كل شيء أن يتغنى به في مجالس السكر والرقص المتهتك المخنث, ولو تأملتها جميعًا وجدت في نغمها شيئا يشعر بالشهوانية, ولسمعت من نقرات تفاعيلها موسيقى ذات لون جنسي) (1: 87), ويسوق مثالاً على ذلك قول شوقي:

مال واحتجب وادعى الغضب
ليت هاجري يشرح السبب


وأسأل أنا أي شهوانية يمكن أن نستشعرها من نص هذين البيتين? على أنني - وقد دخلت دائرة المكابرة - أود أن أحمل الأمر أبعد من ذلك قليلا! يصف عبدالله الطيب بحر (المجتث) بأنه: (بحر قصير ليس بجنسي اللون, ولو أريد به إلى ذلك لأطاع) (1:94). وأقول: أهو الشيء ونقيضه إذن? وكيف يمكن أن يحقق لنا بحر شعري ما (النقيضين) ثم نقول عنه إن طبيعته كذا أو ليست كذا? ويبدو لي أن جواب السؤال يكمن في العبارة التي استخدمها عبدالله الطيب وهي عبارة: (لو أريد به), وهذا يعني أن العبرة ليست في (طبيعة) البحر الشعري, بمقدار ما هي فيما يراد أن يستخدم من أجله. وقد ألح عبدالله الطيب على ناحية (الإرادة) تلك, وذلك حين قال عن بحر الكامل: (وفيه لون خاص من الموسيقى يجعله ! إن أريد به الجد - فخما جليلا) (1:246).

الموسيقى وبحور الشعر

أما أنا فأذهب إلى القول بعدم وجود (طبيعة) موسيقية لبحر شعري ما تجعله ملائما لغرض شعري دون آخر, وذلك في ضوء ما نراه من الاستخدام العملي لبحور الشعر, وفي ضوء ما أشار إليه عبدالله الطيب ذاته في أكثر من مكان من (المرشد), من أن البحر الشعري الواحد له إيقاعات عدة, وتنوع نغمي واسع الطيف وذلك لما يعتريه من ألوان الزحافات والعلل وما إليها. وهذا يجعل من مثل هذا البحر نمطًا موسيقيًا صالحًا لاستيعاب العواطف المتنوعة, بل والمتباينة, وذلك لأنه يئول بفعل ما يعتريه من الإيقاعات التي أشير إليها, إلى بحور شعرية لا بحر واحد.

يقول عبدالله الطيب فيما يقول - وكلامه كلام جليل -: (على أن سكتات الزحاف, وخلجات الاختلاس, وضربات الوزن, كل ذلك لا يتضح إيضاحًا موسيقيًا حقًا إلا مع الحركات والسكنات وضروب اللين والإشباع والمد والشد والإمالة والإتمام والمخارج التي تخرج بها الحروف, ولأمر ما اختلفت رنات الشعراء في البحر الواحد اختلافًا جسيمًا). وهذا الكلام الجليل الوارد في الجزء الثالث (3:823) يردف في الجزء الرابع (4:48) بكلام (أجل جلالة): ((طويل) امرئ القيس وإيقاعه في المعلقة, مختلف عن (طويل) زهير نفسه في قصائد أخر).

ويعز عليّ أن أقول إنني في كل مرة يقرر فيها عبدالله الطيب نظريته تلك لا يلبث أن يورد هو نفسه من الشواهد الشعرية ما يجعلني مترددا في الاقتناع بهذه النظرية. يقول: (وكان أبو الطيب المتنبي من رجال التأمل والحكم والوثبات العقلية العميقة. وقد أدرك بفطرته الصادقة أن البحر الكامل لم يخلقه الله له فتحاماه في الكثير الغالب, على أنه قد تعاطاه في بعض القصائد)(1:247), ثم يلحق ذلك بإيراد ثماني قصائد من أحلى شعر المتنبي في بحر الكامل. وهذا يجعلنا نسلم بأن هذا البحر كان ملبيا لحاجات المتنبي حين (أراد) ذلك, وهذا يغرينا بأن نقول: ما الذي كان يمنع المتنبي من المضي في الإبداع في هذا البحر إلى حد العشرة أو العشرين? واضح أنه لم تمنعه سوى إرادته الذاتية. ويمضي عبدالله الطيب فيقول إن بحر الكامل ليس بحر (تأمل), ثم يذكر أن كلا من أبي تمام وأبي العلاء قد استخدماه (ويالهما من متأملين!).

فلا يبدو أنه يتراجع عن فكرته, وإن تراجعت مساحة الاقتناع بالنظرية في ذهن قارئه!

اقتناص الأفكار

أشهد - وأنا واحد من محبّي الشعر العربي - أن الجمال والجلال اللذين يشعّان من تناول عبدالله الطيب معلقة لبيد بن ربيعة: (عفت الديار...) يناصي ما يناظره في تحليل طه حسين للمعلقة ذاتها في (حديث الأربعاء), هنا يقتنص عبدالله الطيب الفكرة البديعة التي (تماهي) بين الصورة اللغوية المجازية التي تنتج الدلالة, والدلالة ذاتها, بحيث تكون الصورة فاعلة ولودا, وليست مجرد وعاء يحمل الدلالة. وقد قام بالفعل ذاته على مستوى الصوت اللغوي, فخرج بنسق في غاية الرهافة عن طبيعة العلاقة بين الجرس الصوتي والتوليد الدلالي, وتلك كلها ألوان من التناول لايزال المجال فيها بكرا في النقد الأدبي الحديث, وذلك على الرغم من كل ما يمكن أن يقال. ويدافع (المرشد). عن (الموزون المقفى) دفاعًا معرفيًا, ممزوجًا بلمحة إشراق صوفية تجعله أشبه بالدفاع عن العقيدة. إنه يعلم أين نبتت بذور الفتنة, فتنة الترخص في مراعاة القانون الموسيقي للشعر العربي, معلنا أن قوانين الشعر الأوربي - وهو بها عليم - لا تلزم, ولا يمكن أن تصلح للشعر العربي, ذلك الشعر الذي استقرت قوانينه منذ مئات السنين. وهو يجمل موقفه في الموضوع في برهنة واضحة تتلخص في أننا أمام واحد من اثنين, إما أن نستحدث أوزانا جديدة كل الجدة, ونخترع لها ما يلائمها من قيود, وإما أن نقوم بتوسيع الذخيرة ودراسة اللغة كما ينبغي. وهو يقول إن (الوجه الأول فات وقته الملائم منذ القرن الثالث الهجري, إذ إن إحداث تغيير في لغة عريقة في القدم مليئة بالتقاليد المعتقة أدخل في باب الأوهام, وإذن فلا يبقى أمامنا سوى الوجه الثاني) (1:32).

تلك ناحية واحدة من نواحي قدرات عبدالله الطيب في البرهنة والدفاع. وثمة نواح أخرى واجهها في الكر والفر, والإثبات والنفي, تشكل جبهة منطقية صلبة في وجه ما رمي به (المرشد). أكثر من مرة من أنه لا جديد فيه أو أنه مبني على (انطباعات) صاحبه لا على منهج علمي معتمد. أما الناحية الأولى فقد واجهها في شجاعة أدبية تليق بالعلماء, وذلك حين قال: (إن شوارد العلم كالأبكار الحسان, تزداد بهاء مع تكرار النظر. فإن رأيت - أصلحك الله - أن تشاركني بالنظر المعاد المكرر إلى بهاء العلم, فعلت إن شاء الله)(2:457), وأما الناحية الثانية فقد واجهها في مرارة وسخرية وغضب خفيف: (وقد عاب بعض الفضلاء المعاصرين كتابنا بالذاتية, وأنه ليس على منهج علمي, وأغلب الظن أن هؤلاء ممن يؤثرون النقل ويرون أنه الموضوعية)(4:11).

تملق الدهماء

نحن في عصر الكلمة المكتوبة التي حلت محل الأمية, كما أننا في عصر تغلب الصحافة على ميدان التعبير - هكذا يرى (المرشد), كما يرى أن ذلك سيجلب (تغيرًا عظيمًا جدًا في الأساليب الأدبية). وهو قلق من أن يصبح(تملق الدهماء) هو الغرض الأدبي الأول, فيؤدي ذلك إلى اختفاء الكلمات المستحسنة, وشيوع السوقي المبتذل, ولست أرى نفسي جديرًا بمناقشة هذه المسألة, إنما الجديرون بها هم (علماء اللغة), وبخاصة منهم الذين يتبنون المنهج الوصفي لا المعياري, وقد تحسّر عبدالله الطيب إذ رأى (الاتجاه الخبيث في الأدب الحديث), الذي تمثله صحيفة الـ Daily Mirror البريطانية, فكيف به إذا رأى الآن صحيفة News Of The World?

ومع ذلك فعبدالله الطيب الذي يرى هذا الرأي في المستحسن والسوقي هو نفسه الذي يقول: (إن كون الألفاظ بطبيعتها أحياء متحركة متغيرة متجددة, يجعل أي مقياس يقاس به جمالها نسبيًا جدًا)(2:480).

وتأتلق أجزاء الكتاب - فوق كل ذلك - بنظرات ثاقبة في معنى الإلهام الشعري, وعالم الشعراء النفسي, وهي نظرات غاية في العمق والطرافة, وهي تنحو - في الأقسام الأخيرة من الكتاب - نحو المقارنة بين الإبداع الشعري العربي ومثيله الإنجليزي. ولا يستطيع القارئ المتمهل أن يفلت من أسر نظرته الطويلة إلى أبي العلاء المعري (2:620-261), أو كلامه الرصين عن تضافر أجزاء القصيدة العربية القديمة (وبخاصة في الجزء الرابع من الكتاب), وعن الافتتاحات الرمزية التي تزخر بوصف المعاهد والديار, وعناصر الطبيعة من البرق والليل والنسائم والنجوم, وأحاديث الرحيل والعتاب, والإبل والحداة. أما الفصل الذي عقده عن مقاييس الجمال عند العرب في الجزء الثالث من الطبعة الكويتية (403 وما بعدها) فلا أعرف له نظيرًا فيما قرأت في هذا الموضوع.

وحين يحط (المرشد) رحاله عند مقاييس الجمال عند العرب يأتي بالباهر الساحر بين نصوص الشعرالعربي. هنا تتوهج الرغبة والحرمان والغيرة والتقية, والكابح, والتخفي وراء الرمز, واللوعة الجنسية, إذ (تختلط معاني الرحمة والمودة وغير ذلك من قربان الهيام الروحي إيما اختلاط حتى يوشك أن يعسر التمييز والتعيين. ولأمر ما تخير الصوفية الرمز الغزلي فوق كل الرمز, وارتفعوا به فوق كل مدلول للمعنى الجنسي إلى فيض الأثيرية المحض)(3:106).

ليس من عادتي أن أقرأ مقدمات الكتب قبل أن أقرأ متونها. ولم أخالف هذه العادة مع كتاب (المرشد), وذلك على الرغم من الإغراء الشديد الذي تعرضت له, والمتمثل في أن كاتب المقدمة هو طه حسين, وحين بلغت غايتي من متن الكتاب - شدًا وجذبًا, واتفاقًا, واختلافًا, وأخذًا وردّا - عدت إلى المقدمة فوجدتها تحقق موقفي من الكتاب في الحالتين, وتقول كلامًا جميلاً لائقًا بهذا السفر الجميل.

يقول طه حسين: (وأنا سعيد بتقديم كتابه هذا إلى القراء لأني إنما أقدم إليهم طرفة أدبية نادرة حقًا, لن ينقضي الإعجاب بها والرضى عنها, لمجرد الفراغ من قراءتها, ولكنها ستترك في نفوس الذين يقرأونها آثارًا باقية, وستدفع كثيرًا منهم إلى الدرس والاستقصاء, والمراجعة, والمخاصمة, وخير الآثار الأدبية عندي, وعند كثير من الناس, ما أثار القلق, وأغرى بالاستزادة من العلم, ودفع إلى المناقشة وحسن الاختيار).

ويقول: (....يرضيك غالبًا, ويغيظك أحيانًا, ويثير في نفسك الشك أحيانًا أخرى). ويقول: (وليس الكتاب هينًا يقرأ في أيسر الجهد, ويستعان به على قطع الوقت, ولكنه شديد الأسر, متين اللفظ, رصين الأسلوب, خصب الموضوع, قيم المعاني, يحتاج إلى أن تنفق فيه خير ما تملك من جهد ووقت وعناية, ليبلغ الغاية في الاستمتاع به, هو طرفة بأدق معاني هذه الكلمة, وأوسعها وأعمقها, ولكنها طرفة لا تقدم إلى الفارغين, ولا إلى الذين يؤثرون الراحة واليسر, ولا إلى الذين يأخذون الأدب على أنه من لهو الحديث, وإنما تقدم إلى الذين يقدرون الحياة قدرها, ولا يحبون أن يضيعوا الوقت والجهد, ولا يحاولون أن يتخففوا من الحياة, ويأخذون الأدب على أنه جد حلو مر, يمتّع العقل, ويرضي القلب, ويصفي الذوق).

ذلك هو عبدالله الطيب, وذلك هو سفره الموسوعي الضخم (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها), وتلك هي قراءتي الحرة له, وتلك هي جمل من المقدمة الشائقة التي قدم بها له طه حسين, ويخيل إلي أن (إعادة التبشير) بفن القراءة في الأدب العربي - وهي مطلب ملح وعزيز - ينبغي أن تبدأ من مثل هذا الكتاب الذي هو (صندوق) حافل بالعجائب, يُغرق عبدالله الطيب فيه يديه فيخرج بمادة غنية ويجلبها لقارئه في بهاء, وهذا خير ما يمكن أن يفعله كاتب مكترث لقارئ محتاج.

 

محمود الربيعي