أفضل من فهم أشعار العرب

أفضل من فهم أشعار العرب

كان لطلبة العلم في القاهرة في النصف الأخير من القرن الماضي حظ كبير في التعرف إلى العديد من أعلام علماء الأمة العربية. فإلى جانب الأساتذة الكبار الذين تفاخر بهم الجامعات المصرية, يوجد العديد من مجالس العلماء الذين لم يكونوا من بين أساتذة الجامعة لكنهم وصلوا بطموحهم وهممهم العالية إلى مرتبة رفيعة من العلم والمعرفة.

وقد ترددت منذ أواخر الستينيات على عدد من تلك المجالس ومن أبرزها مجلس أستاذنا المرحوم محمود محمد شاكر -طيب الله ثراه - الذي كان بيته مقصدا لكل طالب علم, وكانت مكتبته الغنية مثل توجيهاته وعلمه مبذولة لكل باحث وسائل. وفي هذا البيت المبارك التقيت طائفة من كبار علماء الوطن العربي أذكر منهم الأساتذة عبدالله كنون وأحمد راتب النفاخ وإحسان عباس وحمد الجاسر - رحمهم الله - وناصر الدين الأسد وشاكر الفحام وإبراهيم شبوح - أطال الله بقاءهم - وغيرهم من الأدباء والشعراء الذين يصعب ذكرهم جميعا.

في هذا البيت الكريم التقيت لأول مرة المرحوم د. عبدالله الطيب, وقد جاء إلى القاهرة لحضور اجتماعات مجمع اللغة العربية.

وقد تلقاه الأستاذ محمود شاكر - كعادته - بالمودة والترحيب. ولم يكن هذا هو اللقاء الأول بينهما, بل كانت زيارته الأولى في الستينيات مصحوبا بالأستاذ الدرديري أحمد إسماعيل - رحمه الله - الذي كان سفيرا للسودان بمصر, ويصف د. الطيب تلك الزيارة في قصيدته التي رثى فيها الأستاذ محمود شاكر بقوله:

يزوره الطلاب في منزل رحب بنور العلم مزدان
مأوى أولي الألباب في داره الـ جود وفيها زاد أذهان
وأم فهر كم أعانت على البر هما في الجود صنوان
أذكر لما جئته زائرا صاحب درديري وحيَّاني


وفي تلك الجلسة التي شهدتها دار حوار أدبي طويل عرفت فيه تميز عبدالله الطيب واتساع علمه ووفرة محفوظه من الشعر القديم والحديث على السواء.

ومن أحداث تلك الزيارة أنه سأل الأستاذ محمود شاكر -رحمهما الله- عن ديوان لشاعر سوداني لم يستطع العثور عليه رغم تطلبه له, فأحضر الديوان وهو بعنوان (الشاطئ الصخري) للمنصوري, وهو شاعر جيد غير أنه لم ينل حظا من الشهرة, وقد أخذ الطيب يقرأ بعض القصائد والمقطوعات. ومنها قصيدة بعنوان (أمير الشعارير) ينتقد فيها المنصوري شعر عباس محمود العقاد, ويصفه بما جاء في عنوان القصيدة, فأثار ذلك أحد تلاميذ العقاد الموجودين في الجلسة فأدت تلك القصيدة إلى حوار منهجي حول شعر العقاد: ما له وما عليه.

ثم تعددت لقاءاتي بالدكتور عبدالله الطيب -رحمه الله- في كثير من الندوات والملتقيات العلمية, ودعوته لزيارة الكويت حينما كنت مسئولا عن قسم التراث العربي في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في عام 1984م, وألقى خلال تلك الزيارة محاضرة حضرها جمهور غفير من الناس. وانتظمت رؤيتي له بعد انتخابي عضوا مراسلا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة, فقد كان عبدالله الطيب من الأعضاء الحريصين على حضور المؤتمر السنوي للمجمع المذكور. وكان أعضاء المجمع يأنسون بلقائه وبروحه الطيبة التي يلقى بها الجميع بتواضع جم وخلق رفيع.

من هو عبدالله الطيب?

ولد عبدالله الطيب في قرية قريبة من بلدة الدامر بشمال السودان في الثاني من يونيو عام 1921م, وتلقى تعليمه الأولي في بعض الخلوات, وقرأ على أبيه كثيرا من شعر شوقي ومن قصائد مسلم بن الوليد وأبي تمام التي كانت في مختارات البارودي. وعلى والده كذلك درس النحو من كتاب قواعد اللغة العربية لحفني ناصف.

وقد توفي والده عام 1933م وهو في الثانية عشرة من عمره وترك له -فيما ترك- كتابي (البيان والتبيين) للجاحظ و(الكامل) للمبرد, فكان يديم قراءتهما. وتوفي بعد والده بسنة أخوه حسن غريقا, وكان شديد التعلق به, ثم توفيت والدته عام 1937م, ولم يمض ذلك العقد إلا وقد ثكل الطيب أيضا بشقيقتين له مع عدد من الأقارب.

ولم تثنه تلك الظروف القاسية عن مواصلة التعليم والتحصيل العلمي, فأتم تعليمه الثانوي والتحق بكلية غوردون بالخرطوم وتخرج في كلية الآداب عام 1942م, وعين مدرسا بمعهد التربية ببخت الرضا ثم معلما في أم درمان, وابتعث بعد ذلك إلى لندن في دورة تدريبية عام 1945م قص حكايتها وما عاناه في أثنائها في كتابه (من نافذة القطار) ثم عاد فاستكمل دراساته العليا, فنال الدكتوراه من جامعة لندن عام 1950م, وكانت بعنوان (أبو العلاء شاعرا).

وبعد أن عمل عاما في معهد اللغات الشرقية بجامعة لندن عاد إلى السودان فعمل بمعهد التربية ببخت الرضا ثلاث سنوات, ثم انتقل إلى جامعة الخرطوم وتدرج بعد ذلك في الأعمال الأكاديمية والعلمية, فتولى عمادة كلية الآداب بجامعة الخرطوم (1961م - 1974م) ثم مديرا للجامعة (1974م ـ 1975م) وتولى إدارة وتأسيس جامعة جوبا في جنوب السودان (1975م ـ 1976م) وتولى تأسيس كلية عبدالله بابيرو (بكانو) بنيجيريا منتدبا من جامعة الخرطوم (1964م ـ 1966م) وهي الآن جامعة بابيرو (بكانو). وفي كتابه (بين النير والنور) الذي نشره عام 1970م تفصيل لكثير من الأحداث التي مرت بها بلاد نيجيريا وأحاديث عن مدنها ورجالاتها وقبائلها والنشاط التبشيري بها مما لا يوجد في كتاب غيره, ولا يصدنك عن قراءة ذلك الكتاب والاستفادة منه منهجه الغريب في تأليفه وتبويبه.

وعمل أستاذا للعربية بجامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس بالمغرب في الفترة من 1977م إلى 1986م. وخلال هذه الفترة عين أستاذا ممتازا مدى الحياة بجامعة الخرطوم (1979م), ومنح الدكتوراه الفخرية منها عام 1981م. كما منح الدكتوراه الفخرية أيضا من جامعة بابيرو بكانو بنيجيريا عام 1988م تقديرا لجهوده في إنشائها.

وقد عين عضوا عاملا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1961م, وقام في عام 1990م بتأسيس مجمع اللغة العربية بجمهورية السودان حيث أسندت إليه رئاسته.

ولعبدالله الطيب -غير ما ذكرناه آنفا- العديد من المؤلفات منها تفسير جزء (عَمّ) (1970م) وجزء (تبارك) (1990م) وكان قد أعد تفسير جزء (قد سمع) للطبع. ويقع جزء (عَمّ) على سبيل المثال في نحو 450 صفحة, ويقوم منهجه في التفسير على شرح بعض الكلمات والعبارات والمفردات والتنبيه على بعض ما جاء في ذلك من وجوه التأويل. ثم يتناول كل ذلك بتلخيص منظور فيه إلى ابن جرير والجلالين وتفسير البخاري وسوى هؤلاء, ثم يتبع هذا التلخيص بتلخيص آخر باللهجة السودانية الدارجة. وكان عبدالله الطيب قد فسر القرآن كله من إذاعة أم درمان بين عامي 1958م ـ 1969م.

ومن مؤلفاته القيمة أيضا كتاب (التماسة عزاء بين الشعراء) نشره عام 1970م, وهو مجموعة خواطر كتبها, (والنفس منقبضة ونوائب الدهر ماينين) كما يقول في تصديره للكتاب. ويشتمل محتواه على قراءات في الشعر الإنجليزي والعربي مع التركيز على شعر أبي تمام والمتنبي, ولا يخلو الكتاب -كما عودنا في كتبه الأخرى- من الحديث عن قضايا السودان وصفحات من أحواله, ومثال ذلك ما ورد عن الصراع الذي عاصره في جامعة الخرطوم عندما تحولت الإدارة فيها من الإنجليز إلى السودانيين (ص 102 وما بعدها).

أما الكتاب الذي يشتمل على خميرة علم عبدالله الطيب وخلاصة فكره فهو كتاب (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها) الذي فرغ من تأليف الجزء الأول منه عام 1952م, وأكمل الجزء الثاني عام 1955م. أما الثالث فقد انتهى منه عام 1963م, ثم أنجز الجزء الرابع بقسميه في أواخر السبعينيات. وقد طبع الأول والثاني في القاهرة عام 1955م وقدم الكتاب للقراء د. طه حسين -رحمه الله - بقوله: (هذا كتاب ممتع إلى أبعد غايات الإمتاع, لا أعرف أن مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث. ولست أقول هذا متكثرا أو غاليا, أو مؤثرا إرضاء صاحبه, وإنما أقوله عن ثقة وعن بينّة, ويكفي أني لم أكن أعرف الأستاذ المؤلف قبل أن يزورني ذات يوم, ويتحدث إليّ في كتابه هذا, ويتركه لي أياما لأظهر على بعض ما فيه. ثم لم أكد أقرأ منه فصولا حتى رأيت الرضى عنه والإعجاب به يُفرضان عليّ فرضا, وحتى رأيتني ألحّ على الأستاذ المؤلف في أن ينشر كتابه, وأن يكون نشره في مصر, وآخذ نفسي بتيسير العسير من أمر هذا النشر).

وتكفي هذه الشهادة من د. طه حسين لبيان قيمة الكتاب وأهميته العلمية.. ونحمد الله أن تيسر فيما بعد طبع الكتاب كاملا بأجزائه في الكويت عام 1989ـ 1990م برعاية دار الآثار الإسلامية.

وكان عبد الله الطيب ذكيا سريع البديهة قادراً على التخلص من الأسئلة التي لا يود الإجابة عنها, ففي إحدى السنوات وقعت بين مصر والسودان جفوة في أيام الرئيس جعفر النميري, وحدث أن التقى د. الطيب في هذه الفترة رئيس المجمع الأسبق د. طه حسين, فبادره الأخير بقوله: (ما هذا النميري?) فلم يتردد أن رد عليه:

ولما رأت ركب النميري أعرضت وكن من أن يلقينه حذرات


وهي من قصيدة لمحمد بن عبدالله بن نمير الثقفي مطلعها:

تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت به زينب في نسوة خفرات


فقال له طه حسين وهو يضحك على الفور:

فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا


نشأ عبدالله الطيب في أسرة كلها تنظم الشعر, فقد كان جده الفقيه الطيب بن محمد شاعرا, وكانت أخته شاعرة وكثير من بني عمومته وعشيرته ينظمون الشعر فصيحا ودارجا, وملكة الشعر فيهم قديمة رجالا ونساء. وكان والده أيضا شاعرا, ذكر له عبدالله الطيب أبياتا في مقدمة ديوانه (أصداء النيل), وذكر أنه كانت لديه وهو في المدرسة الوسطى كراسات من شعره وخطه رحمه الله محفوظة في شنطة, فضاعت منه بمدينة (عطبرة) سنة 1934م أو 1935م, وذلك أنه قدم من (بربر) مع زملاء له يقصدون الخرطوم, فلما وصلوا (عطبرة) ناموا بساحة الجامع, يقول الطيب: (وربطنا شنطنا بعمائمنا, فصحونا الصباح ولا عمائم ولا شنط).

وقد نظم عبدالله الطيب الشعر صغيرا, وأول قصيدة منشورة له قالها في رثاء شيخه الفقيه عبدالله النقر رحمه الله سنة 1935م, وقد أنشدها في محفل تأبينه بالجامع الكبير بصوت جهير, ثم نشرتها من بعد جريدة (السودان). ويذكر الطيب أنه في إثر هذه القصيدة أصيب بعين فمرض بعد ذلك مرضاً شديداً ألزمه الفراش إلزاما, حتى إذا ما شفي صار أول أمره كمن يتعلم المشي حول العنقريب (السرير) تعلماً.

ويقول الطيب: (وقد حاولت من ضروب النظم أصنافا منها المرسل الذي لا قوافي فيه, والدرامة والملحمة, وقد جاوزت الأوزان المألوفة إلى أشياء اصطنعتها اصطناعا, ثم بدا لي أن هذا كله عبث لا يفصح بعواصف النفس وزوابعها, وانما النفس بنت البيئة, وبيئتي العربية الفصيحة تسير على نحو الذي نرى من أوزان الخليل وتخير المطالع والمقاطع).

ويرى أن خير الشعر ما كان مستقيما سليما ناصع المعاني يفصح بالأغراض إفصاحا ولا يجنح صوب الغموض والإبهام والتكلف, وأنه قد قلب نظره في كثير من الدواوين العربية والإنجليزية, واستقر في نفسه بعد الموازنة أن الشعر العربي ليس كمثله مما قرأه في الإنجليزية شيء حتى ولا شعر شكسبير. ويذكر أنه يأخذ على الشعر الإنجليزي في الذي اطلع عليه منه ـ وأصناف الشعر الأوربي غير بعيدة المذهب منه ـ التطويل وضعف النغم وكثرة التفصيل والتفريع مما لا حاجة إلى البيان الوجداني الشعري إليه, فمن هذه الجهة كان تفضيله للشعر العربي عليه.. ويذكر أيضا أن شعر المسرحيات لدى شكسبير أكثره من منهج الخطب. وهو صنف من البلاغة عال لكنه أبدا مفتقر إلى أن يستعان عليه بالتمثيل حقيقة أو حكما. وهذا يقصر به شيئا. وقد فصل هذا الموضوع في كتابيه (مع أبي الطيب) و(المرشد إلى فهم أشعار العرب).

وقد نظم عبد الله الطيب الشعر في مختلف الأغراض وله عدة دواوين شعرية منها (أصداء النيل) الذي اشتمل على نحو مائة وستين قصيدة, نظمها فيما بين أوائل الأربعينيات وأواخر الخمسينيات, ويتضمن هذا الديوان أخبار أهل السودان وتجارب الشاعر ونظره في أحوال العصر. ومنها ديوان (بانات رامة) ويشتمل على ثمان وستين قصيدة, نظمها بعد عام 1959م, ورجع في بعضها إلى ذكريات الزمن الأول, ومن دواوينه أيضا (أغاني الأصيل) و(زواج السمر).

في مجمع القاهرة

كان عبدالله الطيب من بين الأعضاء المواظبين على حضور المؤتمر السنوي للمجمع وكانت له يقظة وانتباه ومشاركة واعية في الجلسات التي تناقش فيها المصطلحات, ويقدم مقترحاته بلباقة مصحوبة بالشواهد الدالة على ما ذهب إليه, وتساعده في ذلك ذاكرة فذَّة قادرة على استحضار ما شاء من تراث العرب القديم المنثور والمنظوم.

ولم يخل مؤتمر سنوي لمجلس المجمع من بحث أو مقال يساهم فيه عبدالله الطيب منذ انتخابه لعضوية المجمع عام 1961م. وقد ذكر د. مهدي علاَّم في كتابه (المجمعيون في خمسين عاما) (1984م) تسعة عشر موضوعا مما نشر للدكتور الطيب بمجلة المجمع, خلافا لما نشر بعد ذلك وهو كثير.

ولعبدالله الطيب في بحوثه التي ألقاها ونشرها في المجمع استنباطات جديرة بالنظر, فهو يرى أن الحبشة التي هاجر إليها المسلمون في أول ظهور الإسلام ونزلوا فيها على النجاشي ليست هي الحبشة المعروفة اليوم, فمنطقة أديس أبابا لم تدخل في ملك الدولة الإثيوبية الحديثة إلا في أيام (منليك) أو قبله بقليل. ويستشهد على صحة كلامه بما جاء في سيرة ابن هشام, وهو أيضا في الحديث الشريف يروى عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن النجاشي حاربه نجاشي آخر, وكان بينهما عرض النيل, وأن الزبير بن العوام نفخت له قربة فعام ثم عاد وأخبر جعفر بن أبي طالب وأصحابه أن نجاشيهم قد انتصر على خصمه.. ويقول عبدالله الطيب: إن هذا الخبر يدل على أن الحبشة التي هاجر إليها الصحابة فيها نيل عام, وحبشة أكسيوم أنهارها سريعة الجريان رهيبة جارفة لا يقدر على السباحة فيها. فالهجرة بحسب استنباطه هذا قد تكون إلى بلاد السودان الحالية (مجلة مجمع اللغة العربية, الجزء (80), القسم الأول (ص 183) نوفمبر 1996م).

ومن هذه الاستنباطات أيضا قوله في شرح قول طرفة بن العبد:

عدولية أو من سفين ابن يامن يجور بها الملاح طورا ويهتدي


أن عدولة هي أدوليس, وهي فرضة على البحر في ناحية ما بين مصوع وحلايب في الزمان القديم توجد في الخرائط القديمة أحيانا أقرب إلى موضع مصوع وأحيانا أقرب إلى موضع سواكن على البحر الأحمر. وذكر أن ابن يامن هو (بنيامين) تاجر يهودي ذكره امرؤ القيس حيث قال يذكر ثمرا وبساتين بناحية المشقر:

حمته بنو الربداء من آل يامن بأسيافها حتى أقر وأوقرا


ويتساءل عبدالله الطيب عما إذا كان بنو يامن الذين ذكرهم طرفة وامرؤ القيس هم من الفلاشة أي اليهود السود? (مجلة المجمع ـ نوفمبر 1996, ص 184).

وكان هذا الموضوع والذي قبله من القضايا التي شغلته وألحت عليه في السنوات الأخيرة من حياته, وقد نشر ذلك في أكثر من بحث وكان يثيره في كل مجلس يتحدث فيه رغبة في استطلاع رأي الناس واستجلائه. وقد حاورته - كما حاوره غيري حول هذين الأمرين - بل إن البعض اعتبر ذلك من باب التعصب للسودان, وكان يرد على ذلك بابتسامته المعهودة. وأرى أن رأيه الأول المتعلق بالهجرة الأولى للمسلمين إلى الحبشة يحتاج إلى مزيد من البحث والتأمل فلا ينبغي أن نقرر بأن الهجرة كانت إلى بلاد السودان لمجرد القول بأن العرب يطلقون اسم الأحباش على السود بعامة أو أن أنهار الحبشة جميعها سريعة الجريان, فلا يستطيع شخص مثل الزبير بن العوام عبورها, دون أن يؤخذ في الاعتبار فترات فيضان الأنهار وفتورها وغيضها.

أما عن الموضوع الثاني وهو عدولة أو عدولي, فالذي عليه أغلب المصادر مثل (معجم ما استعجم) للبكري و(معجم البلدان) لياقوت الحموي ومعجمات اللغة أن السفن العدولية منسوبة إلى عدولي قرية بالبحرين, أما بنو يامن فهم ليسوا من القبائل المعروفة, وقيل إنهم قوم نصارى بالبحرين لهم نخل وسفن. ولا نرى ما يستدعي البحث عن الروايات الشاذة التي لا تسندها الأدلة سوى تشابه أسماء الأماكن. ولا يعني ذلك -بطبيعة الحال- الانتقاص من فكر د. الطيب وعلمه الغزير والتفاتاته الفريدة المفيدة التي يقابلها كل من يقرأ شيئا من تراثه الغزير.

رحم الله عبدالله الطيب وغفر له, فقد فقدنا بفقده ركنا من أركان العلم في وطننا العربي وغاب عنا من كان أحسن الناس فهما لأشعار العرب وصناعتها.

 

عبدالله يوسف الغنيم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




د. الطيب في إحدى محاضراته بدار الآثار الاسلامية بالكويت