إدوارد سعيد.. المفكر الإنساني الملتزم

إدوارد سعيد.. المفكر الإنساني الملتزم

يعد إدوارد سعيد نموذجا نادرًا للمثقف العربي الذي تعمق في دراسة الثقافة الغربية, وتعرف إلى كنهها, واطلع على جميع تياراتها في الفكر والأدب منذ عصر الأنوار حتى اليوم.

أصبح إدوارد سعيد بعد نشر دراساته العميقة, وإسهامه في أشهر الدوريات الفكرية في الولايات المتحدة وأوربا من كبار المفكرين في العالم. ولا نغفل عن الإشارة في هذا الصدد إلى دراسته الواسعة لصنف آخر من أصناف الإنتاج الفكري والعلمي في المجتمع الغربي, وهو صنف لا يعرفه عادة إلا أهل الاختصاص, وأعني به إنتاج المستشرقين ليصدر إثر التعمق في فهم كنه هذا الإنتاج, وأهداف أصحابه, وارتباطه بظاهرة استعمار شعوب الشرق وإفريقيا كتابه الشهير (الاستشراق), وقد أثار جدلا ثريا بين الباحثين في قضايا الحضارة العربية الإسلامية في أمريكا, وأوربا, وتحول إلى نموذج في منهجه لدراسة الاستشراق لدى نخبة الشعوب التي خضعت للسيطرة الإمبريالية في آسيا, وفي أمريكا اللاتينية, وأفادت منه في إعادة قراءة تاريخها أثناء المرحلة الاستعمارية. ويستغرب إدوارد سعيد في مقدمة الترجمة العربية لكتابه الآخر الذي أثار ضجة في الغرب (الثقافة والإمبريالية) من الصدى الضعيف الذي أحدثه كتاب (الاستشراق) في الساحة العربية فيقول: (إن الأمر في نظري ليقع على مشارف اللغز أو السر: لماذا ساعد (الاستشراق) في الباكستان, والهند, وإفريقيا, واليابان, وأمريكا اللاتينية, وأوربا, والولايات المتحدة على إطلاق العديد من مناهج الإنشاء الجديدة, وأساليب التحليل الجديدة, وإعادات تأويل للتاريخ والثقافة, فيما ظل تأثيره في العالم العربي محدودا)?

جاء تأثير (الاستشراق) قويا في أوساط النخبة العربية, ولكن رداءة الإعلام في جل الأقطار العربية, وظاهرة التصحر الثقافي التي غزت كثيرا من البلدان العربية قد حالتا دون إثارة جدل عميق وثري في الساحة العربية, كما حدث ذلك في المجتمع الغربي.

ومن النقاط السوداء التي سجلت في تاريخ سلطة عربية هشة هي نفسها مقموعة منع كتب مناضل فلسطيني صلب من طينة إدوارد سعيد, ونعت إذاعة السلطة الفلسطينية له بأنه (مستشرق) لأن له رأيًا مخالفًا, وقد تفطن في الإبانة عن الأهداف البعيدة للإستراتيجية الإسرائيلية لما وافق مهندسوها على اتفاقيات أوسلو.

إن منع مؤلفات سعيد في أراضي الحكم الذاتي غداة قيام سلطة تابعة ومحاصرة يقيم البرهان مرة أخرى أن الخطوات الأولى التي تتخذها السلطة العربية لإثبات وجودها هي في كثير من الحالات قمع الحريات, وتدجين النخبة المثقفة.

أما المؤلف الآخر الذي حظي بعناية فائقة في أوساط النخبة السياسية والفكرية في المجتمعات الغربية, وبخاصة في المجتمع الأمريكي فهو (الثقافة والإمبريالية) (صدر بالإنجليزية عام 1993, وصدرت الترجمة العربية سنة 1997), وقد نوهت به القوى المؤمنة بالتعايش بين الشعوب, والمنادية بالحوار بين الثقافات, وتصدت له قوى اليمين الحالمة بعودة العهد الإمبريالي في أسلوب جديد.

ضد العنصرية

تدور الفكرة المحورية للكتاب حول رفض الفصل المطلق بين الأبيض وغير الأبيض باعتبار أن الفصل يمثل أسطورة من الأساطير الآثمة للإمبريالية ذاتها, (فالحق أن عالمنا هو عالم من المشاركة, والثقافات المتقاطعة التي تمتلك علاقاتها ونزاعاتها من الثراء الفتان ما يمتلكه التاريخ الإنساني عينه), فخلاصة الكتاب تنديد من خلال تحليل عميق بأولئك الذي يسعون إلى إقامة جدار سميك يفصل ما يصوره لهم خيالهم المريض من عنصر (نقي صاف) من الأعراق والحضارات عن الآخرين, وينصح العرب باكتناه الروابط العميقة والحيوية بينهم وبين الغرب, وإفريقيا, واليابان, والصين, وفضاءات جغرافية أخرى.

ينطلق موقفه الفكري في الكتاب من الإيمان بالإنسان, والحرية, وضرورة التواصل, والتفاعل, والإثراء المتبادل بين الثقافات والمجتمعات, وكذلك ضرورة النضال ضد أيديولوجية الاستعلاء, والتسلط, وعقلية المركزية الأوربية.

إن إرادة فهم ثقافة الآخرين لتحقيق التعايش والسلم بين الشعوب تتناقض كل التناقض مع إرادة الهيمنة, وقد أماط اللثام عن أيديولوجية فئة من المستشرقين الجدد الذين يدعون التخصص في قضايا العروبة والإسلام ليسخروا أبحاثهم في سبيل خدمة المحافظين الجدد, وغلاة الصهيونية مثل برنارد لويس, فالمكتبات في البلدان الغربية أصبحت تعج بمؤلفات ذات عناوين استفزازية, وطابع عنصري مثل (الإسلام والإرهاب), (الخطر العربي), (مؤامرة إسلامية), وغيرها.

إن دعاة العنصر (النقي الصافي) والحضارة القائدة باعتبارها الأنقى والأرقى, التي يجب أن تهيمن على الآخرين لفرض مثلها وقيمها يلتقون في خاتمة المطاف مع أيديولوجية العداء للسامية, ومن هنا فإن الصهيونية, وما لقنته للمحافظين الجدد من مبادئ, هي في نهاية الأمر أيديولوجية شوفينية عنصرية تذكرنا بالفاشية والنازية اللتين عرفتهما أوربا في النصف الأول من القرن العشرين, وبالمكارثية في الولايات المتحدة في الخمسينيات.

إن روحه المتشبع بالفكر الإنساني المتنوع, وتعمقه في دراسة ثقافة الأمم وآدابها, وتعرفه عن كثب إلى ويلات أيديولوجيات الانغلاق والتفوق وادعاء النقاوة والصفاء, جعله كل ذلك يخصص قسما كبيرا من (الثقافة والإمبريالية) لمقاومة هذا الصنف من الفكر المؤدلج, ويندد في الوقت ذاته بالهويات المتصلبة التي تصنف نفسها نقيضا للآخر, وتقيم الحواجز بينها وبين العالم.

إن أضعف سلاح, وأقله نجاعة في التصدي لأيديولوجية الصفاء والنقاء المرتبطة بالنظرة الإمبريالية إلى الثقافة هو الاحتماء بهوية منغلقة عزلوية ذات طابع شوفيني, كما تفعل ذلك حركات التطرف في المجتمع العربي الإسلامي, فهويات رد الفعل لا تصلح للمقاومة.

إن ضرر المفهوم السكوني للهوية يمس جميع الشعوب والقوميات شرقية كانت أم غربية, ولكن ضررها أنكى وأبلغ أثرا في بلدان تسعى نخبها إلى تحرير الإنسان والثقافة والمجتمع من تقاليد متخلفة ومكبلة, ومن نظم استبدادية أشد تخلفا وتكبيلا مثل البلدان العربية.

الإمبريالية الجديدة

إن الإمبريالية هي التي تغذي اليوم روح التنافر, والنزاع بين الشعوب والحضارات ليشتد الاحتدام بين الإنسان والإنسان بالرغم من سقوط الحدود والحواجز في عصر انسياب المعلومات, وبداية التنظير لثقافة كونية. وقد حاول سعيد أن يكشف عن أهداف الإمبريالية الجديدة من وراء التبشير بنهاية التاريخ, أو (صراع الحضارات), قائلا: كما أنه لا يوجد شعب نقي صاف لا توجد كذلك ثقافة نقية محض, فجميع الثقافات متداخلة ومتخالطة, بل كل الثقافات مهجنة ومولدة, وهذا هو عنصر ثرائها وبقائها.

يؤسس إدوارد سعيد (روح الهيام بالإنسان, والتهيام, والترحال, والانسراب إلى العالم دون قيود, أو حدود, روح الانخلاع من نقطة ثابتة, وانتهاء واحد متحجر, وتاريخ متناسق عضوي يتصور له الكمال, ويرحل في تناقضات العالم ولاتجانسية الثقافات والمجتمعات, ويتلمس تبرعم الطاقات والقوى الجديدة التي تعد بثقافات مغايرة, وروح أعظم ثراء في نزوعها الإنساني).

ليس من الصدفة أن يصدر مقال سعيد الأخير المنشور في عدد شهر سبتمبر الماضي بالصحيفة الباريسية الشهيرة (لوموند ديبلوماتيك) تحت عنوان (الإنسية آخر قلعة أمام البربرية) ويعني بالإنسية الفكر الإنساني, والقيم الإنسانية, وكأن هذا المقال العميق ذا النظرة المستقبلية جاء وصية قبل رحيله لقوى السلام والتقدم بصفة عامة, ولشعبه الفلسطيني بصفة أخص خلاصتها: إن الوقوف أمام العنف الوحشي, والبربرية المقيتة التي يتزعمها اليوم غلاة الصهيونية هو النضال العادل المؤمن بحق الشعوب في أرضها, وتقرير مصيرها, والتمسك بالقيم الإنسانية, وحذار من الوقوع في فخ الهوية المتوترة, والمتصلبة الرافضة للآخر, فلا ننسى أن الآخر متعدد, وأن صنفا منه يناصر قضايانا العادلة.

خارج المكان

لا يمكن أن نتحدث عن إدوارد سعيد في هذه المناسبة المؤلمة, مناسبة رحيله قبل الأوان دون أن نقف قليلا عند مذكراته (خارج المكان), فهي مذكرات وصية, وصية للأجيال الفلسطينية الفتية بعدم الاستسلام, والاستماتة في الذود عن الأرض, وعن الهوية البناءة المتطلعة إلى المستقبل, بدأ في كتابتها عام 1994 خلال فترات المرض والعلاج بعدما أثبتت التحاليل إصابته بمرض سرطان الدم, فالصمود في خريف العمر أمام هذا العدو العنيد الغادر المهدد يوميا بالغياب الأبدي لا يقل بطولة عن شباب الانتفاضة الذين يتصدون يوميا للآلة العسكرية الإسرائيلية الجهنمية القائمة على أيديولوجية اغتصاب الأرض, وتشريد أصحابها.

(والآن تشاء المفارقة أن أصاب بسرطان الدم العنيد الغادر, فأحاول طرده من ذهني كليا على طريقة النعامة, ساعيا, بنسبة معقولة من (النجاح) إلى أن أعيش حياتي وفق نظامي الميقاتي, فإذا أنا أكد, ويطاردني التأخر, وترزح علي وطأة المواعيد النهائية, ويسيطر علي ذلك الإحساس بالإنجاز غير الكافي الذي تعلمته منذ خمسين سنة, واستبطنته منذ ذاك الوقت على نحو لافت, ولكن في انقلاب غريب للأمر, أجدني أتساءل في سري ما إذا كان نظام الواجبات والمواعيد النهائية سوف ينقذني الآن, مع أني أدرك, طبعا, أن مرضي أعظم من سريان الوقت الذي كانت تعلنه ساعتي اليدوية الأولى... وقد حملتها وأنا غافل آنذاك عن حقيقة أنها ترقم فنائيتي ترقيما, وتقسمها إلى فواصل تامة, وغير متبدلة من المواقيت غير المتحققة إلى أبد الآبدين).

خرجت المذكرات نصلا حادا, ومتحديا عدوين: عدوا جاثما على جسم بشري فان يسكن شرايينه, وعدوا جاثما على صدر شعب حي خالد خلود أرضه لن يترك أبدا سرطان الاحتلال يدب في جسمه ليطمس هويته.

ومن المعروف أن المذكرات قد تحولت إلى قضية سياسية لما صدرت في طبعتها الأولى باللغة الإنجليزية فشنت بعض الصحف الأمريكية حملة شعواء على صاحبها, متهمة إياه بالكذب, وقد نشر باحث مزيف مقالا في مجلة (كومنتري) الأمريكية اليهودية اليمينية المتطرفة ادعى فيه أن إدوارد سعيد ليس فلسطينيا حقا, ولم يولد في القدس, ليقول للرأي العام الغربي, والأمريكي بصفة خاصة أنه لا يمكن الوثوق بالفلسطينيين عندما يتحدثون عن حق العودة, فإذا كان مثقف مرموق يكذب, فما بالك ببقية الناس العاديين الذين يطالبون بحق (استعادة) أرضهم, تلك الأرض التي لم تكن لهم أصلا!!

وقد تمكن سعيد من أن يكشف أن ممول الدراسة الباهظة الثمن نصاب عالمي أمريكي- يهودي دخل السجن لما زور (سندات خزينة).

تحول سعيد إلى هدف بارز من أهداف اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة بعد أن التحم بقضية شعبه, وأصبح مناضلا عالميا من أجل القضية الفلسطينية, وبلغ الأمر بأعدائه في نيويورك إلى إحراق مكتبه بجامعة كولومبيا, ومحاولة طرده منها بعد أن ألقى بحجر في جنوب لبنان في اتجاه الجيش الإسرائيلي باعتباره يرمز إلى احتلال الأرض, واضطهاد سكانها الأصليين.

الدفاع عن الهوية

ويمكن لقارئ مذكرات سعيد أن يلخصها رغم طولها في قضيتين محوريتين:

- عودة الوعي بالهوية العربية.

- ما ارتبط به من نضال في الذود عن قضية شعبه, الشعب الفلسطيني رغم جميع الظروف التي عاشها طفلا, ومراهقا, وطالبا, وأستاذا جامعيا بجامعة كولومبيا في نيويورك, والتي تضافرت عن وعي, أو عن غير وعي, ليصبح مثقفا أمريكيا منبتا عن هويته لا تربطه بأرضه وشعبه سوى ذكريات, وحنين فلكلوري إلى مراتع الصبا.

حصل التحول الجذري غداة هزيمة 1967 فراح المفكر الفلسطيني الكبير ينقب عن الجذور, ويصقل معالم الهوية المطموسة والمبتورة, وامتزج الوعي بالهوية العربية بالنضال من أجل الهوية الفلسطينية, واستعادة الأرض السليبة, كتب يقول في الفقرة الأخيرة من المذكرات: (وحمل العام 1967 المزيد من التفكك, وقد بدا لي أنه يجسد بامتياز التفكك الذي يختزل سائر الخسائر الأخرى: العوالم المتوارية لنشأتي وصباي, سنوات دراستي غير المسيسة, والدراسة والعلم المتحررين افتراضا في جامعة كولومبيا, وسواها. ولم أعد الإنسان ذاته بعد العام 1967, فقد دفعتني صدمة الحرب إلى نقطة البداية, إلى الصراع على فلسطين, فدخلت من ثم إلى المشهد الشرق أوسطي المتحول حديثا بوصفي جزءا من الحركة الوطنية الفلسطينية التي انبثقت في عمان, ومنها انتقلت إلى بيروت في أواخر الستينيات, وعلى امتداد السبعينيات).

وقد رأينا صاحب السيرة قلقا منذ سن المراهقة, متسائلا عما جيء به إلى هذا المكان, أو ذاك, أو عما يجمع بينه وبين فئة معينة من الناس, وقد احتاج إلى خمسين سنة ليتعود على اسمه (إدوارد), فقد أعلمته أمه أنه سمي باسم أمير الغال, وارث العرش البريطاني, وقد كان نجمه لامعا لما ولد ابنها عام 1935, ويبدو أنه لم يغفر لأبويه هذه الهفوة, كما اشمأز عندما علم أن والده غير اسمه في الولايات المتحدة ليصبح (وديع) (وليام)!

كتب في الفصل الأول يقول: (هكذا كان يلزمني قرابة خمسين سنة لكي أعتاد على (إدوارد), وأخفف من الحرج الذي يسببه لي هذا الاسم الإنجليزي الأخرق الذي وضع كالنير على عاتق (سعيد) اسم العائلة العربي القح).

ربي إدوارد سعيد تربية بورجوازية صارمة, إذ حرص الأبوان, وسدنة المدارس الكولونيالية التي انتسب إليها حرصا شديدا كي يربى تربية متميزة ليصبح إنسانا سويا, منضبطا, وتابعا داخل مكانه الذي أعد له بكل دقة وعناية, ولكن النتيجة كانت عكسية فقد نشأ قلقا, يسيطر عليه الشعور بالغربة, والضجر من المكان الذي حدد له ليكتب آخر جملة في المذكرات, وهو في مرحلة الستين من العمر (أؤثر ألا أكون سويًا تماما, وأن أظل في غير مكاني).

رحل إدوارد سعيد من خارج المكان الضيق إلى المكان الأرحب والأبقى, مكان نضال الإنسان من أجل التعايش بين الشعوب, ومن أجل الحوار بين الثقافات, والنضال ضد أيديولوجيات التطرف والهيمنة, فالتشبث بالقيم الإنسانية, وتعميقها, ونشرها بين الناس يمثل الحصن الأخير ضد دعاة الهيمنة, واحتلال الأرض, وضد المنظرين لمرحلة الإمبريالية الجديدة.

 

الحبيب الجنحاني