خالد عبدالكريم جمعة.. راحل خلَّف فراغًا

معرفة ثرية:
عرفته في اليوم الأول من جلوسي على مقعد الدراسة الجامعية، واحد من قلة قليلة، هم الدفعة الأولى في قسم اللغة العربية، جامعة الكويت، أعرف بعضهم، والآخرون وجوه جديدة، وهكذا حال الدراسة في الحياة، تختفي وجوه، تستمر أخرى، تُقبل جديدة.

 

واحد من بضعة طلبة بدأوا بلبس النظارات الطبية، وجهه المستدير لا تفارقه ابتسامة، ساخرة، أو مستفهمة، أم أنها طبيعة فيه، وهكذا ظل خالد عبدالكريم جمعة، حتى وهو يهتز غضبا ترى شكل الابتسامة على وجهه أو نصف ضحكة يطلقها وهو يتحدث ناقدا أو محتجا أو شارحا مصوِّبا لنا بعض ما لا نعرف من النحو أو مضيفا معلومة تراثية محجوبة في مكمنها. واضح من مشاركته المقتصدة المحددة في أي حوار أن تكوينه الداخلي تشكل ليكون أقرب إلى أهل البحث اللغوي والنحوي الذين يدققون في الكلمات، وليس مثلي من أهل الأدب الذين تتبارك في أفواههم الكلمات والجمل.

كنا مجموعة منسجمة، متشوقة للقراءة، متعلقة بالثقافة، توجهها المتكامل يجمع بين الانسجام والإقبال على الثقافة الحديثة مع أرضية تراثية صلبة، ثمة شغف بالكتب، قراءة ومتابعة واقتناء، لذا كانت ساعات ما بعد الدراسة لقاءات لا تنتهي بين صفوف كتب المكتبات، توثقت معرفتنا بباعة الكتب، فكان البائع إبراهيم في وكالة المطبوعات يعرفنا فردا فردا، يُطْلعنا على كل جديد وصل أو قادم، أما محمود الخطيب،صاحب مكتبة الأندلس، فيهتم بتلبية طلباتنا الشخصية من الكتب، وخاصة تلك المطبوعة في الشام. مضت السنوات الأربع خطفا، خلفت زخما من المعرفة، ووفرت اتصالا بشخصيات من علماء اللغة والأدب والتاريخ والفلسفة، وكان المحقق الكبير عبدالسلام هارون هو الذي رافقنا أربع سنوات يفكك أمامنا كتب التراث، النحوية منها على وجه أخص، بدأ معنا بكتاب «شذور الذهب» لابن هشام مرورا بشرح ابن عقيل للألفية وصولا لمطولات كتب النحو مثل المفصل لابن يعيش لنلقي الرحال عند كتاب الأشموني وحواشيه. وسيواصل زميلنا خالد الدراسة النحوية مع هذا الأستاذ الجليل والمحقق الفذ ليكون أستاذه المشرف على رسالتيه للماجستير والدكتوراه.

كان خالد عبدالكريم بالنسبة إلي بوابة الدخول لهذه الكتب، تواصلت المدارسة معه في رابطة الأدباء، وفي مكتبته التي تنامت وشغلت حيزا كبيرا من بيته في منطقة كيفان، كنا متشابهين هوسا بالكتب التراثية واللغوية تحديدا، أشاركه في بعضها وفي الوقت نفسه تتجه عيني إلى الدراسات الأدبية والنقدية القديمة والحديثة والروايات والمسرحيات.

 اتجاهاتنا تأخذ مسارها، فعندما ودعنا قاعة الدرس إلى مرحلة البحث، كل واحد منا يعرف ماذا يريد بالضبط، فنشأ منا نوع من التكامل، ثم تجاورنا، ثلاثة معيدين في القسم. اخترت الأدب والنقد تخصصا واختار خالد عبدالكريم النحو، وكان ثالثنا د. يحيى أحمد الذي انصرف إلى علم اللغة الحديث.

 

باحث متفان، ثبت، دقيق

ثمة علوم أحادية التوجه، طبيعتها تحصرك في مجال يضيق في حدود العلم نفسه، وثمة علم يرغم الباحث في أن تمتد حاجته إلى أكثر من علم حتى يستكمل عمله على الوجه الأكمل، وكان علم التحقيق، الذي اختاره خالد عبدالكريم، من النوع الأخير، فعندما تحقق نصا فإنه، لكي تصل إلى القراءة الدقيقة والضبط السليم وتعطي النص المحقق كامل حقه، عليك أن تستسلم لمتطلباته، فالنص التراثي إذا كان لغويا أو أدبيا أو تاريخيا يحتاج، لتفهمه وتحسن قراءته ومن ثم تضبطه، إلى مراجعة واسعة وسياحة غير محددة النهاية في كتب اللغة والمعاجم ودواوين الشعراء وكتب التاريخ والتراجم والفقه، لن تستطيع أن تخط حرفا إلا إذا كانت هذه الكتب في متناول يديك مبسوطة تتنقل من بينها بحثا عن ضالتك، وقد تمضي ليلة كاملة، بل ليالي وأياما حتى تضبط كلمة في نص أو تحقق صحة حرف في بيت من الشعر.

علم يحتاج إلى دقة، وإحاطة، وذوق، وقدرة على الاستقراء والاستنتاج السليم، محكوم دائما بالحجة التي يجب أن تقدمها شارحا وموضحا.

وهذا الجهد الضخم من البُنى التحتية، تظل مختفية، لا تظهر للقارئ، نرى نتائجها ولا نتصور الجهد الذي وراءها، ومن ثم لا يقبل على هذا العلم إلا محب متفان مخلص، والأهم من هذا أنه شخص يكسر أو يقلل من توقعاته للمدح والإعجاب، فالمحقق لا يحظى عادة إلا بالاستدراكات والتصويبات، أما المدح والثناء فينصرفان إلى كاتب الكتاب الأصلي، أما هو فحسبه كلمات تقال إذا تذكرها المتذكرون.

دخل خالد عبدالكريم هذا المعترك دخول الجادين، لم تكن شهادة الماجستير هدفه، وإن كانت تنتظره في نهاية الطريق. جاورته وهو منهمك في عمله، كان دقيقا، مخلصا ومن ثم موفقا في إنجازه لتحقيق كتاب: شرح المقدمة المحسبة لطاهر بن أحمد بن بابشاذ (ت 469).

ولأن مقصده العلم، لم يكن يفكر باختصار الطريق، أو اختيار الأسهل؛ لذا كان اختياره لموضوع الدكتوراه فيه خروج عن مسار التحقيق، فلو كان من أولئك المستعجلين لاختار تكملة لموضوعه السابق وحققه بخطفة من الزمن، ولكنه فضل أن يركب البحر..!

قالوا قديما: هل ركبت البحر؟ ويعنون بالسؤال مشقة الاقتراب من ذلك الكتاب الخالد المحكم: كتاب سيبويه، هذا الكتاب الذي لا يمكن أن تخترق أسراره إلا إذا تسلحت بمعرفة نحوية دقيقة، وعثرت على شيخ متمرس عارف بدقائق علوم العربية، لذلك أطلقوا عليه: قرآن النحو. ينقل المحقق الكبير عبدالسلام هارون ما قاله القدماء عن غموض أسلوب هذا الكتاب، ولعل أبْيَنها ما قاله أبو جعفر النحاس النحوي وشارح الشعر، نقلا عن ابن كيسان حين قال: «عمل سيبويه كتاباً على لغة العرب وخطبها وبلاغتها، فجعل فيها بيناً مشروحا، وجعل فيه مشتبها؛ ليكون لمن استنبط ونظر فضل».

 

دراسة شواهد الشعر

كان اختيار خالد عبدالكريم دراسة شواهد الشعر في كتاب سيبويه يعني أنه يضع نفسه في منطقة بحث صخرية، يستقر في أعماقها منجم علم النحو الذي من يريد أن يصل إليه عليه أن يبذل الكثير، منطقة لا يقبل عليها إلا من وثق بآلته العلمية، وصبره، وتوقع متعته في منطقة يشق على الآخرين دخولها. كانت قضية شواهد سيبويه تمثل قضية أعقد من ذنب الضب، فقد كان من اليسير دراسة شواهد القرآن، وكذلك الحديث النبوي، ولكن شواهد الشعر تحمل معها مشكلتها الخاصة، فهذه الشواهد دخلت منطقة النحو قبل أن يأخذ التوثيق الشعري حقه، فهذا العلم المبكر، وكذلك كتاب سيبويه، كانت شواهده تنتزع مباشرة من مصادرها، وعدد كبير منها كان مجهولا حتى شاعت الإشارة إلى الخمسين شاهدا المجهولة، بمعنى أنها مجهولة القائل.

ويضاف إلى هذه المشكلة قرينة لها أخرى لا تقل عنها خطورة وتثير الاضطراب، وهي أن مرويات كتاب سيبويه تختلف أحيانا عما ورد في مصادر أخرى تم توثيقها فيما بعد، ورواية «الكتاب» عادة يعتمد عليها في قاعدة نحوية، وتكون رواية الديوان لا تحقق هذا الجانب. وهكذا تتناسل المشكلات أمام من يتصدى لهذا الموضوع الشائك الذي تصدى له زميلنا خالد عبدالكريم، وهذا مثال للاختلاف، يستشهد بقول لامرئ القيس على لجوء الشاعر إلى التسكين ضرورة بهذا المثال:

 

فاليوم أشربْ غير مستحقب               إثما من الله ولا واغل

 

وثمة روايتان واردتان ينعدم فيهما الاستشهاد؛ إحداهما تقول: فاليوم أسقى. والأخرى: فاليوم فأشرب. لقد اختار هذا الموضوع الشائك، وبذلا مجهودا ليأتي بحثه علميا متميزا، يعرف جوهره من أراد البحث وقدر على تبين دقائقه ومناطق الأصالة فيه. كان مستقصيا إلى حد إرهاق النفس، وإليك نموذجا من تقصيه للمعلومة.

يوثق بيتا من أبيات سيبويه، وكثير منها يحتاج إلى أكثر من بحث، بحوث تمس نسبته ومطابقته للروايات الأخرى، موقع الاستشهاد فيه، واستخدام الآخرين له توجيها أو تفسيرا أو مخالفة، ولننظر إلى هذا البيت:

 

ألا من مبلغ عني تميما               بآية ما تحبون الطعاما

 

يقول: «الكتاب رقم 9، وشرح الأعلم بحاشيته، والإنصاف 63، وفرحة الأديب (مخطوط) رقم 31 ص 43، والبيان في غريب إعراب القرآن لابن الأنباري 1/110 واللسان ( سلل، قوق)، والكامل/ 322، وشرح أبيات سيبويه والمفصل لعفيف الدين الكوفي (مخطوط) 65 هامش ص423 من كتابه: شواهد الشعر في كتاب سيبويه. لو كان من الذين يبحثون عن السهل، لاختار الطريق المريح، ولن يلومه أحد إذا أسنده إلى الديوان مثلا أو المختارات المستل منها هذا البيت، أو لتوقف عند المطبوع من المصادر وفيها غنى. ولكنه أبى إلا أن يقدم لنا درسا في الاستقصاء التام، فلم يترك مطبوعا أو مخطوطة أو معجما إلا وراح يبحث فيه عن ضالته. وهذا هو الدرس العظيم الذي يقدمه بصمت من يقصد وجه العلم.

 

قيادي كفء

بسبب الظروف السياسية، في أوائل الثمانينيات، تم اختيار الكويت مقرا لمعهد المخطوطات العربية، وكان من حسن الطالع أن يكلف د. خالد عبدالكريم جمعة برعاية وإدارة هذا المعهد العريق الذي سكنت حركته وعبثت به السياسة. وعلى الخبير المخلص المتفاني وقع هذا الاختيار، فقد استطاع خلال إدارته له أن يعيد إليه النشاط بعد انقطاع لاحظه كل المعنيين بالتراث العربي، فأخذ يضيف الجديد بإحياء نشاط النشر للمعهد،الذي كان متوقفا. كان البدء بطباعة كتاب: مجمل اللغة لأحمد بن فارس (1985)، في أربعة مجلدات أعقبها جزء خامس خاص بالفهارس.

ويبعث، من جديد، مجلة معهد المخطوطات، فتعود للصدور بانتظام، لم تحظ به من قبل، وبمستوى من البحوث والدراسات العلمية الدقيقة، فجاءت شكلا وموضوعا جادة فخمة. صدر أول أعداد الإصدار الجديد، في صيف 1982، وهو المجلد السادس والعشرين، استكمالا لترقيمها السابق، لتستمر بعد ذلك منتظمة رفيعة المستوى تليق بمعهد المخطوطات بتاريخه العريق، وأصدر منها خمسة مجلدات كاملة، ليستكمل د.عبدالله الغنيم الدور في نهاية الثمانينيات قبل عودة معهد المخطوطات إلى مقره في القاهرة.

ويقدم إضافة أخرى جديدة تمثلت في نشرة دورية تتابع أخبار التراث ومخطوطاته ومطبوعاته والرسائل العلمية المتصلة به، وكانت سجلا توثيقيا من الطراز الأول، لا أدري الآن ماذا فعلت بها الأيام، هل وجدت مثل خالد عبدالكريم رعاية ومتابعة؟

كل هذه الأعمال الجليلة كان يشرف عليها ويعملها منفردا؛ ينسجها فكرة وتنفيذا وليس معه إلا قليل من نفر إضافة إلى تكليف آخرين من خارج المعهد، ليبقى هو وحده مرتكز دولاب العمل لا يخرج شيئا مهما كان صعبا أو عسيرا إلا بعد أن يفحصه فحص العالم المدقق والمسئول الذي يعي ثقل الأمانة العلمية ومتطلباتها، فقد كان مجبولا على تحري الصواب والدقة والاستقصاء.

 

ويستمر العطاء

في أوائل الستينيات، وفي خطة بعث التراث الطموحة بدأت وزارة الإرشاد في الكويت، الإعلام في ما بعد، بنشر مجموعة من الكتب التراثية، وتوجه جهدها، بعد نشر خمسة عشر عنوانا من الكتب التراثية، إلى إخراج أثر جليل فريد من نوعه وحجمه هو معجم تاج العروس للزبيدي، والمخطط له أن يخرج في أربعين جزءا من الحجم الكبير، وتولى الإشراف عليه المحقق المعروف عبدالستار فراج رحمه الله الذي تمكن أن يخرج ما بين عامي 1965 و1983 عشرين جزءا فقط، لقد كان من المضحك المحزن أن كتابا أنجزه رجل واحد تأليفا وكتابة يعجز عن إخراجه، تقاعسا، دولة وعشرات المحققين، فخلال سبعة عشر عاما لم يتم إخراج إلا نصف الكتاب بمعدل جزء كل عام. وبعد عشر سنوات أخرى أضيفت تسعة مجلدات فقط.

أليس من حق المتندرين أن يقولوا إن العروس أصبحت جدة، وإن التاج صار كفنا؟!

وكان من الواجب أن يختار الرجل (1997) من قبل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، فجاء خالد عبدالكريم لينجز في ثلاث سنوات طبع ربع الكتاب، مراجعة وتصويبا ونشرا من قسم التراث بالمجلس الوطني للثقافة، ولو تم إسناد هذا العمل له في مراحله الأولى لكان الكتاب بين أيدي الناس قبل ثلاثين عاما.

لم يكن فهمه للإشراف على نشر هذا المعجم متابعة إدارية وفحصا أوليا، بل ألزم نفسه،أمانة وشعورا بالمسئولية، بما هو فوق هذا؛ فقد كان يقرأ الأجزاء المحققة بدقة، يراجع كل شاهد واسم وكلمة وفاصلة ونقطة.

وكنا قريبين منه نرى معه العجب العجاب من السقطات والأخطاء والهفوات التي كانت عينه وخبرته التراثية تنقض عليها لتعيدها إلى جادة الصواب، وكانت رغبته أن يثبت تصويباته دون أن يذكر اسمه، لولا ضغوط من جانبنا أن هذا حق علمي باعتباره مراجعا لهذه المطبوعة.

أمامك هذه الأجزاء لتتصفحها فترى صدق ما نقول في ثنائنا على عمله، ففي صفحة واحدة (انظرها ص 66 من المجلد 35) يقدم في الهامش أربعة استدراكات على المحقق، أختارُ منهما نموذجين:

قلت في مطبوعات التاج (سنة 316 )، والتصويب من الانساب 6/25، والذي يؤيده إن أبا عبدالله الخضري توفي في حدود الأربعمائة، خ.

قلت: في مطبوع التاج (البصري) وهو تحريف صوبناه من الأنساب 2/255، 6/26، واللباب 1/159، خ.

بهذه الجدية والعلم كان د.خالد الكريم جمعة يقبل على الواجب الملقى على عاتقه ليقدم نموذجا مشرفا للباحثين الكويتيين العرب، فمن حقه علينا، عندما نفخر به محققا وباحثا أن ندلل على هذا لتكون الصورة أوضح وأكثرا جلاء، وليس قولا مرسلا.

وتم في ثلاث سنوات إنجاز يعادل ما أنجزه من سبقه في خمسة عشر عاما، وأقيم احتفال علمي يليق بهذه المناسبة، تماما كما فعل مؤلف التاج، الزبيدي، حين أنجز تأليفه.

وكان هذا النجاح يسكن وراءه رجل طموح، لذا واصل التفكير وراح يعد مشروعا جديدا بحماسة من يريد أن ينطلق هذا النشاط الإحيائي، وتنمو فكرة تحقيق التراث وتتطور حركة النشر، فأعد خطة متكاملة لمواصلة الطريق، وكانت عينه وعقله منصرفين إلى معجم «المحكم» للعالم اللغوي: ابن سيده.

وجاءت المفاجأة! فبدلا من أن يُشكر ويُكرم، وتكريمه الحق ليس ماديا أو شكرا معنويا ولكن بتبني أحلامه والارتفاع إلى طموحاته. جاءه خطاب، يسعى، بالاستغناء عن خدماته، فيه مخالفة قانونية وذوقية، وهو سلوك ينسجم مع طريقتنا في تكريم العلماء والمحافظة عليهم!

 

إنسان إيجابي

من صفات المحققين، وبحكم عملهم العلمي الدقيق وابتعاده عن الاهتمامات الشعبية والإعلامية،أنهم يعيشون في عزلة أو ينحصرون في نطاق ضيق.

لم يكن خالد عبدالكريم من هذه النوعية، فقد كان مهموما بالنشاط الثقافي العام، والوعي النقابي والمشاركة السياسية، لذا لم يدخر وسعا فدخل هذه المجالات من أوسع أبوابها، بدأت بمساهماته في رابطة الأدباء عضوا فاعلا، وقياديا في مجلس الإدارة، وشارك مع الزميل د.خليفة الوقيان في سكرتارية تحرير مجلتها (البيان) في النصف الثاني من السبعينيات، ولأن الرابطة آنذاك كانت تمثل عنصرا حيويا في نسق نشاط جمعيات النفع العام - تنمية اجتماعية ومواقف سياسية - كان خالد واحدا من الذين يمثلون حزم الموقف وحيوية المشاركة.

كان هذا التوجه أصيلا في شخصيته، لذا اندفع في هذا الجانب من العمل النقابي، فامتد نشاطه إلى جمعية أعضاء هيئة التدريس في جامعة الكويت، وتولى رئاستها في ذلك الوقت العصيب، حيث للمواقف ثمنها الذي يجب أن يدفع،ومعاناتها التي تحتاج إلى قوة تحمل، فكان خالد عبدالكريم أهلا لهذا العبء، تحمله راضيا محملا وقته وجسده وأعصابه الشيء الكثير.

وجاء جزاؤه، أيضا، جزاء سينمار؛ فعندما قدم، في لحظة غضب للمصلحة العامة استقالته فطلب إحالته للتقاعد، قبلت بسرعة تدل على فرح من تسلمها بها، وتم رفض كل المحاولات التي بذلها محبوه كي يعود إلى كرسي التدريس، باعتباره من أفضل، بل أفضل مدرسي النحو في جامعة الكويت، بشهادة من درس على يديه، وكان من المحزن أن نقوم ببذل مجهود كبير لإقناعه من جهة، بتدريس النحو متعاقدا في مطلع كل فصل، وكان بكبريائه المعهود، يرفض التقدم،فنبذل جهدا معه حتى نقيم للعدل والحق والفائدة فسحة. ونبذل جهدا آخر في تسهيل الإجراءات المتعنتة.

كان وضعا محزنا، يثير في النفس قرفا، فقد كان خالد عبدالكريم أكبر بكثير من كل أولئك الذين يجلسون على كراسي ناعمة. ولكن أين الصواب في الحياة حتى نفرد هذا الموقف بالتعجب؟

 

حب واجب = تضحية

ظل التعلق بالكتب عند خالد عبدالكريم حالة شغف لا تخبو ولا تنطفئ، وكان يحلم بالناشر الكُتُبي الذي ينظر إلى التجارة بالكتب أن لها طبيعتها الخاصة، فهي ممتزجة بحب المعرفة وخدمة الثقافة، واجب مقدس قبل أن تكون وسيلة كسب عيش أو إثراء، كان خالد مكتفيا بحكم عمله ماديا، لذا أقبل على تبني إنشاء مكتبة للبيع والنشر، واختار لها اسما يحمل في داخله المعنى الأصيل الذي يتوخاه، فكما اختار لابنه اسم تميم، بما يعني هذا أصلا وتاريخا، انتقى للمكتبة اسما لتكون من كلمتين (دار العروبة)، وهي دلالة لسنا بحاجة إلى أن ننبه القارئ لها، فهي مشعة ناطقة بكل ما فيها من طبقات دالة على أصالة ونبل المقصد.

كانت مكتبة نوعية، ودار نشر خاصة تقبل على الكتب ذات الوزن الثقيل التي لا يلتفت إليها أصحاب دور النشر الأخرى، فهي تلبي حاجة الخاصة، أو متطلبات العلم الدقيق، والمقبلون عليها قليلون.

قلبت يوما، في جناح المكتبة في معرض الكتاب، كتابا مترجما عنوانه: المنطق وفلسفة العلم، ترجمه الكاتب الكبير فؤاد زكريا، وهو كاتب يقبل عليه الناشرون لعلمه وسيرورة اسمه بين الناس، ولكن هذا كله لا يشفع له أن يترجم كتابا علميا دقيقا في المنطق، مثل هذا الكتاب الذي لا يقبل عليه إلا المختصون؛ ومن ثم لم يجد ناشرا يتحمل معه هذا العبء إلا مكتبة العروبة.

قلت له وأنا أقلب الكتاب: كم عدد مشتري هذا الكتاب؟

ضحك وهو يقول: بعنا ثلاث نسخ!

ولك، أيها القارئ، أيضا أن تنظر في الكتيب الذي يحوي عناوين منشوراته من الكتب، سترى النوعية التي لا يقبل على مغامرة طبعها إلا عاشق، لم يقلبها بين كفيه ليرى وزنها التجاري ولكن جذبها إليه ميله العلمي، كأنه يختار لمكتبته الخاصة وليس ناشرا يفكر في الجدوى والعائد، لذلك أنا أعرف مقدار خسارته في هذا المشروع،وأنه استمر يغطي مصروفات المكتبة من دخله الخاص. وكان يدفع، بحدة، أي تفكير يخالجه بإغلاق هذا المشروع برمته؛ فالكتب فتنة ومحبوبة لا يقبل فيها قولا، ولا يخالجه هاجس فراقها. وللناس في ما يعشقون مذاهب.

من يعرف هذا، يدرك عمق وأثر الفجيعة في نفسيته، عندما احترقت في رمضان الماضي 1433 هـ ، 2012م، وروى لي الزميل وليد الرجيب أن خالد عبدالكريم قال له: رغم أن التعويض كان يغطي الخسارة المادية، لكنه لم يفرح به، وظل حزنه على الكتب المحروقة ضاربا في الجذور، وكان هذا سببا واحدا من أسرار انطوائه، واختياره للموت، فقد ظل يقاوم أي علاج، يرفض أن يستجيب لمقتضياته، عاش مختارا، دفع ثمنا، تلقى صدمات، ظل ثابتا حتى انطفأت رغبته في حياة كلما عشناها ازداد رفضا لها.

أصحاب العطاء الكبير كثيرا ما يختارون الموت عندما ينعدم أمامهم الأمل في الإصلاح، فهو يرى أنه ما فائدة زيادة بضعة أيام، أو شهور نعيشها ليزداد عذابنا، الحكم قادم، والاختيار واجب، فاختار أن يقول للسرطان:

- أكمل مهمتك.

كان ذاك مساء يوم، ناولني مجلدين وقال:

- أحب أن أهدي إليك هذا الديوان.

كان ديوان الشريف الرضي.

لم يكن بيننا تهادي الكتب، بل كل واحد «يأخذ» من الآخر دون استئذان، وكانت هذه المرة الوحيدة، بعد ثلاثين سنة من الملازمة، يتقدم لي هاديا كتابا بهذه الصورة.

قلبته، وفتحت على الصفحة وفيها القصيدة التي يردد خالد أبياتها مذ عرفته:

 

ما أسرعَ الأيامَ في طيّنا               تَمضي علينا ثمّ تَمضي بنا

في كل يوم أَملٌ قد نأى               مرامُهُ عن أجلٍ قد دنا

أنذرنا الدهر وما نرعوي               كأنما الدهر سوانا عنى

تعاشيا والموت في حده               ما أوضح الأمر وما أبينا

***

 كم من حبيب هان من فقده               ما كنت أن أحسبه هينا

أنفقت دمع العين من بعده               وقل دمع العين أن يخزنا

كنت أوقيه فأسكنته               بعد الَليانِ المنزل الأخشنا

دفنته والحزن من بعده               يأبى على الأيام أن يدفنا

 

الدكتور خالد عبدالكريم

(ولد سنة 1946 ) باحث ومحقق كويتي، حصل على الماجستير من جامعة الكويت، والدكتوراه من كلية دار العلوم (مصر). عمل مدرسا في جامعة الكويت. من أهم أعماله، دراسته القيمة عن شواهد الشعر في كتاب سيبويه، وتحقيقه ودراسته لكتاب «شرح المقدمة المحسبة لطاهر بن أحمد بن بابشاذ (ت 469)» إضافة إلى أعمال أخرى في مجال التحقيق. لعب دورا قياديا في رابطة الأدباء في الكويت، وتولى رئاسة هيئة جمعية أعضاء التدريس في جامعة الكويت، وكانت له مواقف وطنية واجتماعية بارزة.

تولى رئاسة معهد المخطوطات العربية، أثناء نقله إلى دولة الكويت، واستطاع أن يواصل جهود هذا المعهد فنشر كتبا، وواصل إصدار مجلة المعهد.

كان له دور متميز في إنجاز معجم «تاج العروس» للزبيدي، فبعد تعثر تمكن من إكمال الأجزاء العشرة المتبقية في وقت قصير.

أنشأ مكتبة «دار العروبة للنشر»، وسخرها للنشر العلمي وتحقيق التراث، وكانت مقصدا لمحبي المعرفة الرفيعة.

انتقل إلى رحمة الله يوم 23 مارس 2013.
-----------------------------
* أكاديمي وناقد كويتي.

 

 

صورة الدفعة الأولى ويظهر المرحوم د. خالد عبد الكريم في اليمين من الصف الثاني وتضم الصورة المحقق عبد السلام هارون والدكتور محمد زكي العشماوي ومحمد خلف الله أحمد والدكتور عبد العزيز مطر والزملاء د. خليفة الوقيان وعبد الله خلف وسليمان الشطي والدكتور يحيى أحمد وآخرين


الدكتور خالد عبدالكريم