الاقتصاد والعولمة بين المتاجر الكبرى والطوائف

الاقتصاد والعولمة بين المتاجر الكبرى والطوائف

لا يسوغ اعتبار التجارة الحرة قيمة أخلاقية، وهي تتمثل في مجموعة من التصرفات تحكمها قواعد معينة ويفترض فيها أن تعزز نمو الثروة العالمية. من جهة المستهلكين، يفترض في التجارة الحرة أن تتيح التناسب الأفضل بين الجودة والسعر، وذلك بإطلاق المنافسة التي تفضي بدورها إلى تخفيض معدلات الربح وإلى تحسين وتنويع مستمرين للمواد وللخدمات المعروضة. ومن جهة المستثمرين، تفضي المنافسة إلى تركيز رأس المال.

هذا أمر ضروري لتأمين الاستثمار في الأبحاث والتجديد في التجهيز وهما يفضيان إلى زيادة الإنتاجية التي تفرض بدورها توسيع التوزيع. حتى إذا بدت الأسواق الوطنية أضيق من أن تستوعب العرض الزائد للمواد وللخدمات، اشتدت الضغوط لفتح أسواق جديدة تتجاوز القيود الوطنية وتأخذ في توسيع السوق العالمية تدريجياً. ويفترض إلزام الفرقاء بتطبيق قواعد متفق عليها وهم يضلعون في هذه العملية أن على التجارة الحرة أن تكون، على نحو ما، تجارة عادلة. ويعني افتراض الانتفاع بالنمو العالمي من جانب المجتمعات الداخلة فيه جميعها أن التجارة الحرة لا تعدو قيمتها النطاق العلمي وأنها قيمة مشروطة.

والحال أن النمو المتصل بالتجارة الحرة يكون معرضا إلى طعن عنيف إلى هذا الحد أو ذاك ما لم ينظر إليه على أنه مجز إلى درجة مقبولة للذين يتقبلون القواعد المحكمة في الممارسات التجارية.

والواقع أن اللاعبين في مباراة التجارة الحرة ذوو أحجام متفاوتة. وحين تصمم المباراة بحيث تشبه جولة مصارعة متكررة يتواجه فيها ذوو الوزن الخفيف وذوو الوزن الثقيل، يصبح غير ممكن أن تعد المباراة عادلة.. من زاوية جانب من اللاعبين على الأقل. إذ ذاك يصبح ذو الوزن الخفيف مغرما بكسر قواعد اللعب. فيلجأ إلى أية وسيلة تقع تحت يده ليعوض بها القصور البين لجهازه العضلي في هذه المواجهة المفروضة.

وأما حين يثبت، بخلاف ذلك، أن التجارة الحرة ليست بالمباراة غير المنصفة وإنما هي أقرب إلى لعبة متعددة الأطراف يتوقع كل شريك فيها أن يعود عليه شيء من الربح (أو من الخسارة) متناسب، إلى هذا الحد أو ذاك، وإسهامه في المجموع، فإنه يصبح من المشروع أن تتوقع الأطراف كافة من كل منها أن يلتزم بما يرعى اللعبة من قواعد مقررة سلفاً.

هويات اقتصادية معولمة

في عالم اليوم بات الاقتصاد والهويات الاقتصادية أكثر تعولما بما لا يقاس من غيرها من الممارسات والهويات الجماعية. فوق ذلك، راحت عولمة إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها وعولمة المعاملات المالية تضعفان ما للدولة الوطنية من هيبة ومن قدرة على التقرير، فتقويان هويات أدنى من الهوية الوطنية من قبيل الطائفية والعصبية الإثنية والقبلية.. إلخ. هذا التطور مرئي بمزيد من الوضوح في أقطار الجنوب التي لا تزال إفادتها من عولمة التجارة الحرة أمراً يحتاج إلى برهان.

جلي، من بعد، أن هذه العناصر لا تكفي لتكوين الصورة التامة، فإن الطوائف والجماعات الإثنية وحتى القبائل تنزع، وهي تواجه متحدات مشابهة لها في المجتمع الواحد، إلى إدراك عفوي لضعفها على الصعيد الدولي، وهو الصعيد الذي ترى فيه ساحة المواجهة الرئيسة.

وينتبه معظم هذه المتحدات إذاك إلى كونه يقع في ما دون الوطن وفي ما يتعدى الوطن في آن، هكذا يروح كل منها يطمح إلى تشكيل «أمميته» آملاً أن تكون له الكلمة العليا أو أن يثبت وجوده، على الأقل، على المسرحين الوطني والأممي. وكثيراً ما ينتهي هذا إلى تشكيل شبكات عدوانية ، دينية أو إثنية. وهو، إذا تحققت شروط بعينها، ينقلب، في بعض الحالات ، جنوحاً إلى الإرهاب، ما كان منه محلياً أو ما كان أممياً.

على صعيد العالم، لا يمكن اعتبار التجارة الحرة، بأي حال، ممارسة اقتصادية وحسب. حين تعمد شركة عالمية إلى فتح واحد ضخم من المتاجر الكبرى في مدينة بعيدة من مدن قطر من أقطار الجنوب، تدخل السرور إلى نفوس آلاف من الناس. المتجر الكبير مبنى مكيف مقترن بموقف للسيارات ويجد فيه مستخدم السيارة كل ما يحتاج إليه تقريباً وما تحتاج إليه أسرته في الحياة اليومية. فوق ذلك سيجد عشرات من الشباب في المدينة عملاً لهم في المتجر الكبير وينضمون بالتالي إلى الجماعة المسرورة بفتحه.

إفلاس الاقتصادات الصغيرة

في مقابل ذلك، يودي المتجر الجديد بعشرات من المتاجر الصغيرة القائمة إلى الإفلاس، ولا يتوقع من المراقب السطحي أن يرى في هذه النتيجة أمراً خطيراً. هو سيزعم أننا، في هذه الحالة، نقف حيال عدد ضئيل من الناس غير المسرورين يقابلهم عدد ضخم من الناس المسرورين، لسوء الحظ، لن تكون هذه سوى نظرة جد ساذجة إلى الوضع الذي نحن بصدده.

فالواقع أن صاحب المتجر الصغير في واحد من المجتمعات التي نصفها بالتقليدية، لا يكون، في أية حال، صاحب متجر صغير ولا شيء غير ذلك. فهذا امرؤ لم ينجز ما يسميه كارل بولانيي «تحوله الكبير» أبداً. وهو لا يميل أبداً بالتالي إلى عزل صفته الاقتصادية عن شخصه الإجمالي. عادة ينتمي صاحب المتجر هذا إلى عائلة موسعة إن لم يكن إلى عشيرة كبيرة أي إلى متحد لم يزل بعيداً، بما هو كذلك ، عن التجرد من حس التضامن. يصح ذلك خصوصاً في هذا الإقليم الذي لا يزال فيه ما يسمى هويات حديثة للجماعات، وقد تكون بعسر في ظل دول وطنية مضطربة الأسس ومطعون في شرعيتها أحياناً، يتعرض لمنافسة خطرة من جانب هويات تقليدية أنعشتها مسافات العولمة الجارية. عادة أيضاً، ينتمي صاحب المتجر الصغير المشار إليه إلى طائفة دينية تبدو له أقدر على نشر شكواه وتفعيلها مما هو دونها وقد يستذكر انتماءه الوطني أيضاً معتداً بكون المتجر الكبير قدم من خارج البلاد.

وما تشحنه هذه الانتسابات المتداخلة من مشاعر معادية للغرباء ومفضية، عند اللزوم، إلى العنف ، يسعه أن يكون معدياً على أوسع نطاق. وذاك أن قطاعات واسعة من المستهلكين المسرورين بالمتجر الكبير ومعهم بعض من المستخدمين المسرورين بحصولهم على وظيفة في هذا المتجر فيما يبقون مسرورين بهذا الافتتاح نفسه. فعلى غرار ما رأيناه بصدد صاحب المتجر الصغير الذي يتعذر رده إلى صفته هذه، لا يكون المستهلك مجرد مستهلك في هذا النوع من المجتمعات ولا يستقيم اعتبار شخص استخدم حديثاً مجرد مستخدم جديد، فالتضامن الطائفي، مثلاً، يبقى، على وجه التعميم، أقدر بكثير على التعبئة والتحريك من مجرد الانتماء إلى فئة من المستهلكين.

هذا ويسع الغضب الذي أحدثه إنشاء المتجر الكبير ألا يستهدف هذا المتجر نفسه. فلا يستبعد أن يمضي هذا الأخير في الازدهار وفي اجتذاب زبائن جدد. وأما الأفراد من ذوي الحظ السيئ فيمكن أن ينكفئ بعضهم إلى أنواع أخرى من النشاط أو أن يصبح عالة على الأقارب أو على الجماعة، ويسع بعضاً آخر أن يهاجر هجرة شرعية أو غير شرعية إلى البلاد التي جاء منها المتجر الكبير، آملين أن يجدوا طيب العيش هناك إلى آخر الزمان. ولا تلبث استحالات مراوغة ومعقدة أن تأذن للغيظ المحدود والمحدد الذي استشعره هؤلاء القوم بالاندراج في رؤية شاملة للعالم تنحي باللائمة على نظام العالم وعلى الفاعلين الكبار فيه محملة إياهم تبعات إنشاء المتجر الكبير.

عدالة التجارة الحرة

ما النتيجة التي نخلص إليها من هذه الحكاية التي تبدو واقعية وإن تكن متخيلة؟ هل يتعين علينا أن ننصح الشركات المتعددة الجنسيات بأن تقلع عن إنشاء المتاجر الكبرى في المدن البعيدة من بلاد الجنوب؟ الجواب لا لأن هذا الإقلاع ستكون فيه خسارة للمدينة وللشركة. هل يكون علينا أن نطلب إلى الشركة أن تعنى مباشرة بحالة صغار التجار الذين ستكون قد تسببت في إفلاسهم؟ قد يكون مطلوباً النظر بعين الاعتبار في هذا الاحتمال. ولكن قد يتبدى أيضاً أنه احتمال غير واقعي إذ يتصل الأمر بمنشأة متعددة الجنسيات لها قواعد عملها، وأنه احتمال ينطوي على تصور مبسط للوضع بالتالي. وعليه نكون أقرب إلى الصورة الدقيقة للوضع إذا بنينا تصرفنا على إدراك لكون مشكل المتجر الكبير إنما هو تجسيم ضئيل النطاق لصف من المسائل الضخمة. أهم هذه المسائل قد تكون المسألة التالية: في ظل أي شروط يغدو ممكناً أن تعتبر التجارة العالمية الحرة تجارة عادلة؟ ما نستفيده من التحليل المعروض أعلاه هو أن هذه الشروط ليست - على ما يظهر - شروطاً اقتصادية حصراً هي أيضاً سياسية واجتماعية وثقافية. فلن يكون ممكناً، في يوم من الأيام، أن تطبق حسابات الكلفة والأسعار والربح وحدها على المبادلات الاقتصادية بين شمال الكرة وجنوبها ثم يكتفى بهذه الفئة من الوقائع أساساً للتوقعات المتصلة بالأمن والسلام في العالم. لن يكون ممكناً يوماً أن تبنى - في مناخ سلمي - سوق عالمية موحدة فيما تتجاهل العلاقة النزاعية ما بين هذه السوق الموحدة والعالم المجزأ ثقافياً وسياسياً. فما يعنيه تجاهل هذه العلاقة إنما هو الإنكار لحق معظم المجتمعات في العالم في إبقاء تصرفاتها الاقتصادية مدرجة في حياتها الثقافية الإجمالية. فحتى لو كان على هذه الحياة أن تتغير في وقت من الأوقات، فإن من غير الجائز فرض هذا التغيير بالعنف والإكراه.

فوق ذلك، يبدو طلب هذا التغيير طلباً غير مشروع ما دام ينشر ثقافة عالمية مبسطة في أصقاع الأرض كافة، فيما تواصل السوق الموحدة إسهامها الكبير في تفتيت صفحة العالم سياسياً وثقافياً.

وذاك أن المصدر الأول للتنازع والعنف في عالم اليوم إنما هو كون التوحيد الجاري للسوق العالمية لا يصادف في أكثر الحالات شروطاً ملائمة لمنطوياته السياسية والثقافية والاجتماعية.

فبموازاة السوق العالمية، نقع على عالم مجزأ لا يجاوز توحيد السوق زيادته تجزئة. وماذا ترانا ننتظر غير ذلك حينما يجري إضعاف سلطة الدولة وتشعر الجماعات ما دون الوطنية بأنها متروكة لمصيرها؟

وذلك أن الاقتصاد المعولم الجديد، إذ يتحدى السيادات الوطنية والبنى الاجتماعية الهشة والطرز الثقافية المتجذرة، يستدعي حتماً ردود فعل دفاعية. وحين تتسم ردود الفعل هذه بالعنف، لا يكون مشروعاً أن تنسب إلى طبيعة عنيفة للثقافية بحد ذاتها. بل الأولى أن تنسب إلى إعادة تأويل لثقافة حمالة أوجه. واحتمال الأوجه هذا لم تختص به، بأي حال، ثقافة أو مجموعة من الثقافات دون غيرهما. بل إن كل ثقافة تكون حمالة أوجه دائماً ما لم تكن فقيرة فقراً مدقعاً ومجردة من التقاليد. وحين تتعرض جماعة ثقافية لضغوط من الداخل أو الخارج تبلغ من القوة حداً معيناً، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إعادة صياغة عنفية لما عند الجماعة من شبكات التصرفات وأنظمة القيم ، وليس وارداً أن تؤيد الجماعة الثقافية برمتها إعادة الصياغة هذه. تتورط في هذا التحول عادة أقلية صغيرة تلقى تأييداً من أوساط معينة في الجامعة، وتلقى رفضاً تتباين درجة فاعليته من أوساط أخرى. بالرغم من ذلك، يسع هذه القلة، حين تعتنق بعمق خيارها العنيف ذاك، أن تمثل خطراً على باقي الجماعة وعلى الجهات الخارجية التي تتخذها أهدافاً سواءً بسواء، ذاك، على وجه الدقة، ما يفترض أن يسمى إرهاباً.

هذا ولا يجوز أن يمنعنا نبذ الإرهاب من الكشف عن جذوره. فإن مكافحة الجريمة لم تمنع قط الدارسين من تنمية علم نفس وعلم اجتماع بحالهما موضوعهما الجريمة. تسعف هذه الجهود في النفاذ إلى ما يتعدى الدينونة والقمع، وذلك علماً بأن هذين - وإن يكونا ضروريين - لا يمكن أن ينجحا وحدهما في هزيمة الجريمة. وفي حالة الإرهاب، يسع السعي إلى تعيين الجذور أن يقود إلى سبل (لا ريب في أنها طويلة وأن سلوكها باهظ الكلفة ومؤلم) لاقتلاع الإرهاب من جذوره، وخير ما نبدأ به الإعراض عن ثنائية الخير والشر العقيم.

وأما جذور الإرهاب الراهن فيجب البحث عنها في التربة التي تتغذى منها وهي ما أشرنا إليه من مجابهة تسم عالمنا اليوم. فإذا أردنا أن نقتلع الإرهاب فسيتعين علينا أن نتصدى، في المجالين الوطني والأممي ، لصف بتمامه من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وهي المشكلات التي تمخضت عنها مسافات العولمة الجارية. وأما التجارة الحرة فيسعها أن تصبح قيمة أخلاقية حين تصبح تجارة عادلة وحين تماشيها إعادة اختراع لعالمنا تبدأ بإعادة اختراع لنظام العلاقات الدولية.
------------------------
* مفكر ومؤرخ من لبنان.

-------------------------------------------

وذي حاجة ٍ قلنا له لاتبُحْ بها
فليس إليها ما حييتَ سبيلُ
لنا صَاحِبٌ لا يَنْبغي أنْ نَخْونَهُ
وأنت لأخرى فارغٌ وحليلُ
تخالك تهوى غيرها فإنها
لها مِنْ تَظَنّيها عَلَيْكَ دَليلُ

ليلى الأخيلية

 

أحمد بيضون*