الكتلة الحرجة: الشباب بين ثقافة التسلية وعنف الانفجار

 الكتلة الحرجة: الشباب بين ثقافة التسلية وعنف الانفجار.. د. سليمان إبراهيم العسكري
        

          «العالم العربي» - كجزء من العالم المسمى بالنامي - يشكّل مجتمعًا شابًا من حيث أغلبيته العددية، وكان حريا بهذا التشكيل أن يكون كنزًا تغترف منه الأمة لصياغة حاضر زاهر، والإعداد لمستقبل أكثر ازدهارًا، لكن هذا الكنز - مع الأسف الشديد - يتم إهداره وتبديده بوعي، وبغير وعي، وبوسائل بعضها عالمي، أو عولمي، ومعظمها عربي محلي، والأمر من الخطورة التي تستوجب وقف هذا الإهدار، إذا أردنا أن نعيش بشيء من الاستحقاق في الحاضر، وشيء من الإرادة في المستقبل.

  • الشباب كتلة حرجة كما في التفاعلات النووية إما أن تعطي طاقة سلمية أو تتفجر مثل القنابل النووية فتبيد الأخضر واليابس
  • الإشباع الافتراضي بمشاهدة المنافسات الرياضية وبرامج الترفيه التي تخاطب الغرائز والتسلية السطحية لا يمكن أن يكون بديلا عن التحقق الخلاق لطاقات الشباب

          أبدأ تسطير هذا الحديث، بينما معظم شوارعنا العربية تبدو خالية في أغلب ساعات ما بعد الظهيرة والمساء - على غير عادتها - ليس بفعل حر الصيف العربي الآخذ في إلهاب الشوارع بشمسه الحارقة، ورياح السموم الموسمية، بل بفعل شاشات التلفزة التي تتسمّر أمامها أغلبية هذه الأمة - وجلهم من الشباب - لمتابعة مباريات كأس العالم في كرة القدم، التي تجري في ألمانيا. وبالرغم من أنني لست بعيدًا عن الانجذاب لمشاهدة هذه الساحرة المستديرة بين الأقدام البارعة، فإنني وجدتني أتساءل: هل يتمثل شبابنا ذلك السحر الآخر للأمة الألمانية، التي تنظم الدورة هذه، عبر الملاعب ومن حولها؟ وهل يدركون ببصائرهم ما وراء هذه الأيام من بناء، وتأهل علمي وتقني وكفاية معيشية؟ وهل يتمثلون إرادة هذه الأمة، التي نهضت من تحت الرماد فعليا، وليس مجازيًا، نهضت من تحت حطام وخرائب ألمانيا المهزومة والمدمّرة من جيوش وأسلحة أقوى دول العالم في الحرب العالمية الثانية التي توقفت عام 1945م، وأخذت تلملم أشلاءها من تحت الأنقاض، وتعيد بناء دولة كاملة من جديد، وفي زمن قياسي، وكان لها ما أرادت بالرغم من التقسيم وقوات الاحتلال الجاثمة على أراضيها، والوصاية المعلنة والمستترة للمنتصرين، وبزغت ألمانيا الجديدة كقوة مقتدرة اقتصاديا وحضاريا، وواصلت صعودها وهي تستعيد نصفها المشطور مما وراء سور برلين المنهار، وتغدو أحد أهم الكبار في العالم، وصار من حقها أن تلعب، وأن تستضيف قمة اللعب بالساحرة المستديرة على أراضيها.

          هل يدرك الشباب العربي ذلك وهم يتحلّقون حول شاشات التلفزيون التي تذيع مباريات كأس العالم؟ هل تطوف بخواطرهم صور المأثرة الألمانية وهم يقفزون ويتصايحون احتفالاً بالأهداف الجميلة، أو يصرخون لضياع أهداف أخرى؟ كنت أتساءل في داخلي، ثم وجدتني أحتجّ على السؤال، وأضيف: ولماذا الشباب وحده هو من نوجه له التساؤل، أليست الأجيال السابقة عليه هي الأولى بالانتباه والتساؤل؟ وخلصت من هذا إلى أن اللوم ينبغي تأجيله، حتى نحدد الظاهرة، فتتحدد المسئوليات. ولا أظن أن الشباب هم المسئول الأول عمّا يعانونه، فالمسئولية تشملنا جميعا، لأنها قلب المسئولية في أمتنا العربية، من كل البلدان، وفي كل الأزمنة.

الكتلة الحرجة

          يتشبث بخاطري تعبير تردد كثيرًا، وورد في كتاب «الإنسان المهدور» الذي لايزال هو الآخر متشبثًا بانتباهي ومنطلقًا للحديث، والكتب المهمة تكمن أهميتها، ليس فقط فيما تحتويه، بل فيما تستثيره في ذهن قارئها، وما تخلفه من مخزون يرسل وميضه بين آن وآخر، وتكون العودة إليها ليست مجرد عرض لما تحتويه، بل منطلقات لما استفزته أو أيقظته من أفكار في ذهن قارئها. والتعبير الذي أعنيه هو الإشارة إلى الشباب بمسمى «الكتلة الحرجة»، فعندما تقصيت المعنى، عرفت أن الكتلة الحرجة هي كتلة المادة المشعة اللازمة لانطلاق التفاعل النووي، سواء كان سلميًا يعطي طاقة هائلة لنفع الإنسان، أو حربيًا ينشر الدمار والخراب والرعب للبشرية. أليست طاقة الشباب المتفجّرة تشبه هذا التفاعل؟ تتفجر خيرًا يعم الجميع إن أحسنا إدارته، أو دمارًا لا يستثني أحدًا؟ إنها لكذلك، فالشباب بحساب الأغلبية من منتسبيه، وبغير إرادة منه ولا اختيار، يجد نفسه بين أمرين يشكلان الصورة الشائعة في عالمنا العربي المتخم بالبطالة، سواء كانت بطالة سافرة أو مقنعة، فهو إما في وضع الاعتمادية أو «التطفيل» بمعنى البقاء في مواقع الطفولة غير المسئولة. أو من خلال الإلهاء بمختلف ألوان التسلية والإثارة، كي تكال له من ثم التهم بالميوعة، وعدم الجدية، وقلة تحمل المسئولية. وسواء كان الشباب في موضع «التطفيل» أو موضع «الإلهاء» فهو مهدور الكيان، مما يوقع به في مصيدة التعرض لخطر انفجارات العنف الفردي والجنوح، أو الوقوع في إغراءات ومصيدة حركات التطرف التدميرية، التي تستثمر طاقة الشباب الوثابة المحبطة في مخططات ليست بعيدة عن عبث الأيادي الآثمة الغريبة عن الأمة.

العلم الغائب

          لقد أرّق هذا الإهدار بعضًا من مفكرينا العرب، فأعربوا عما يؤرقهم بمعالجات مختلفة، لكن صاحب الكتاب الذي ينطلق منه حديثنا د.مصطفى حجازي، ذهب بعيدًا في تعبيره عن أرقه، حتى أنه طالب بعلم خاص، لاحظ غيابه الفادح في حياتنا، وهو «علم الشباب»، وعن ذلك العلم يقول: «قد يكون الأكثر مدعاة للتساؤل، تقصير علم النفس، والعلوم الإنسانية عمومًا في دراسة واقع الشباب وقضاياهم المتزايدة في حدتها وحرارتها ومأزقيتها. ما زال التركيز في علم نفس النمو ممحورًا حول الطفولة والمراهقة، مع إغفال فئة الشباب والقفز فوقها وصولاً إلى مرحلة الرشد وقضاياها. هذا في الوقت الذي لم تعد فيه المراهقة تمثل أزمة فعلية، أو على الأقل لم يعد لها مركز الصدارة في أزمات النمو، بفضل تفتح الأجيال على الدنيا، وتوافر مقادير كبيرة من إمكانات المعرفة وحرية السلوك، وتزايد التسامح الاجتماعي. الأزمة الراهنة تحولت إلى فئة الشباب الذين أصبح وضعهم يقتضي تطوير اختصاص قائم بذاته، وهو اختصاص مركب وشمولي يتعين أن يدخل فيه علم النفس وعلم الاجتماع الثقافي والسياسي والاقتصادي، وسوق العمل، والإعلام وتكنولوجيا المعلومات... آن الأوان كي يُطوّر علم خاص بهم هو «علم الشباب». والواقع أن عدم تطوير مثل هذا العلم إلى الآن في جامعاتنا ما هو سوى دليل إضافي على هدر الشباب.

          وتكفي نظرة سريعة إلى واقع الشباب في عصر العولمة عمومًا، وواقعهم في بلاد هدر الإنسان كي تتضح مدى أهمية مثل هذا العلم وضرورته، كأساس لوضع سياسات شبابية على الصعيد المجتمعي في التربية والعمل، والمشاركة الاجتماعية والانتماء، كما في الترويح...».

تبديد الخصوبة

          لاشك أن حياتنا العربية الراهنة والمستقبلية في أمسّ الحاجة لعلم نفهم به الشباب، ونفسح برؤى هذا العلم المجال لتفعيل طاقاتهم، أو على الأقل ينبغي أن نتلمس خصائص هذه الفترة العمرية، ونسأل أنفسنا عمّا يحدث لها من منطلق مصلحة الأوطان والأمم. وهنا سنجد أمامنا مفارقة مذهلة، تنبئنا بأوضح صورة ممكنة أننا نفقد الكثير من طاقة شبابنا، ومن ثم نضيّع الأمل، أمل الحاضر، ووعد المستقبل. فأبسط مراجعة لخصائص الشباب يمكن أن تتلخص في كلمة واحدة هي «الخصوبة» ليس بالمعنى الجنسي الضيق لهذه الكلمة، ولكن بكل المعاني الواسعة، التي تستوعب التفجيرات الجسدية والنفسية والعاطفية والروحية لهذه الفترة الثمينة من فترات عمر الكائن البشري، والتي تتجلى في حيوية الطموح والمبادرة والمغامرة وحب الحياة وقبول التحديات، إنها باختصار: حيوية العطاء والاقتدار عليه، وهو عطاء فيّاض لو أحسن استثماره، لكن نظرة شاملة لواقع الحال العربية، كفيلة بأن تخبرنا بأننا لا نستثمر هذا الاقتدار على العطاء، بل نستسلم لنوع من الالتفاف على الشباب، لا يكتفي بتفريغ هذه الخصوبة من محتواها الخلاّق، بل يرمي بها في اتجاه العقم، والمقصود قطعًا ليس العقم بمعناه الجسدي الفردي، لكنه العقم الذي لا يمنح الحاضر طاقة الفعالية والاقتدار، ومن ثم يحرم المستقبل من الأمل. أما آليات هذا الالتفاف على الشباب، والتي تجهض خصوبة استعدادهم للعطاء، فهي بفعل فاعل مع سبق الإصرار والترصّد، محليًا وعالميًا، يرمي إلى هدف واحد هو امتصاص هذه الطاقة الشبابية بنوع من الإشباع الافتراضي لمداواة الإحباط والحرمان الواقعي، وهو إشباع سرابي يوهم بالحصول على «فرصة الإحساس بالمبادرة والقدرة والتفاعل واللقاء والعلاقات، ولو كانت افتراضية، بدلاً من الحياة الهزيلة الرتيبة التي يسيطر عليها الحظر والمنع، ويفرض عليها الخواء الوجودي». وأخطر ما في هذا الإشباع الافتراضي، بأبعاده العالمية العولمية، من خلال قواعد معلوماتها وإعلامها، يكمن في فقدان السلطات التقليدية «الأسرية والمدرسية والمجتمعية» لمرجعيتها، حيث لم يعد الكبار يشكّلون مرجعية فعلية للجيل الصاعد، على صعيد المعرفة على الأقل، الجيل الصاعد يعرف أكثر من الكبار، ويتقن التعامل مع تقنيات المعلومات وقواعدها، بل هو يعيش بها ولها أحيانًا، لدرجة أصبح معها هو المرجع للكبار حين تستعصي عليهم أسرار عملياتها التشغيلية.

          الجيل الجديد هو بصدد استبدال مرجعية الشبكة (www) بمرجعية الكبار، حيث أصبح يستغني عنهم، ويمت بشكل متزايد إلى أبوة «الدوت كوم» البديلة.

          وهنا تبرز ملامح أزمة في العلاقة مع الكبار، حيث تفقد سلطتهم مشروعيتها، بعد أن فقدت مرجعيتها. إلا أن هؤلاء الكبار مازالوا يتحكمون بزمام مصير جيل الشباب على مستوى الواقع. وهذا الوضع فيه من التناقض ما يضع الشباب في حال يمكن تسميتها «الشباب المعلق» بانتظار آمال متزايدة التباعد عن إمكان التحقيق. ومع هذا التهميش تتصاعد أزمات الحرمان من بناء مكانة وهوية منجزة، والقيام بالأدوار المنتجة، وانحسار فرص إشباع الحاجات العاطفية، وتفاقم مرارة العزوبية والعنوسة في أغلب البلاد العربية. وليس غريبًا إذن أن نكون بصدد احتقانات ما تنفك تتراكم لدى الشباب، مولدة الإحباط والغضب لديهم، في الآن عينه الذي تولد الشك والحذر منهم. ومع هذا المأزق يكاد المجتمع يتحول إلى مواطن وبؤر تفجير متنوعة الألوان: تطرَّف في كل الاتجاهات وأصوليات جامدة وعنف ووسائل تعويض غير متكيفة، أو تبلد واستسلام واجترار الكآبة والمرارة والجنوح باتجاه ألوان متنوعة من الإدمان الجسدي والعقلي، والتوجهات التدميرية التي تقع القيادة المتهورة للسيارات - على سبيل المثال - في طرف منها، وتقع الهجمات الإرهابية - مع التحفظ على المصطلح - في الطرف الآخر، فكلها سلوكيات التفافية على طاقة الشباب، تنتهي إلى تدمير الذات الفردية والذات الجماعية بعد ذلك.

مجتمع الخُمس!

          إن المأزق الذي يطبق على راهن الشباب العربي هو صورة مما يحدث لكثير من الشباب في العالم المسمى بالنامي، لكن الصورة في تناقضها مع ما يزخر به العالم العربي من إمكانات تغدو غير مبررة، وعلى الرغم من المسئولية العربية عن إهدار طاقة الشباب العربي، إلا أن هناك بعدًا عالميًا عولميًا لابد من رصده، فالإلمام بمجمل الصورة يجعل من نوايا وإرادات ومخططات الفكاك من مصيدة الإهدار أمرًا ممكنًا أو على الأقل محتملاً، خاصة إذا انحزنا - كما هو منطقي - لأحلام حاضرنا ومستقبلنا واستحقاقنا كأمة عربية لشغل موقع كريم في الحياة المعاصرة.

          ولكي ندرك البعدالعالمي العولمي فيما يعانيه شبابنا، وكثير من شباب البلدان الفقيرة - من إهدار، علينا أن نعود إلى أكثر من عقد كامل إلى الوراء، ففي سبتمبر 1995م اجتمع في فندق فيرمونت، بسان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية حشد من قادة الفكر والسياسة في العالم، لمناقشة موضوع «مستقبل العمل في العالم» وحمل هذا الحشد من القادة اسمًا براقًا هو «تكتل الأدمغة» Braintrust، وكان هذا التكتل بدعوة من زعيم الاتحاد السوفييتي المنهار، صاحب شعار البيريسترويكا والجلاسنوست أي إعادة البناء والشفافية، ميخائيل جورباتشوف. والأمر برمته يدعو إلى التعجب، لكن مسار المناقشات كان مدهشًا بينما المجتمعون يرسمون مخططات عامة لنظام اجتماعي جديد، وبدا أن كل الحاضرين قد أجمعوا على أن مجتمع القرن الحادي والعشرين المزود بالتقنيات المتقدمة والاستثمارات الجبارة المعتمدة على أقل عدد من العمالة فائقة المهارة والتدريب، سينال فرصة العمل فيه فقط 20% من المجموع العام، أما البقية 80% فسيتوقف حظهم عند البقاء في حالة أشبه بالتنويم المغناطيسي أو الغشية أو التخدير، ينالون الحد الأدنى لمواصلة الحياة مع جرعة كبيرة من التسلية! ولقد دشن «زبيجينيو بريجنسكي» مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق على زمن الرئيس الأمريكي كارتر، هذه الحالة من الغشية أوالحذر أو التنويم بمصطلح يمكن ترجمته بـ «رضاعة التسلية» Tittytainment، فالمصطلح مكون من دمج كلمتين: كلمة Tit التي تعني حلمة الثدي وتشير إلى الرضاعة، وكلمة التسلية والترفيه Entertainment.

          كانت هذه الرؤية المستقبلية، أو السيناريو المرسوم، أو النبوءة العلمية تقوم بتحديد معالم الطريق إلى القرن الحادي والعشرين، ولقد رأت أن الطاقة البشرية القادرة على العمل ستتوزع مستقبلاً ما بين 20% يعملون و 80% عاطلين عن العمل. ولقد قدر خبراء عدد من الشركات العملاقة أن خُمس قوة العمل الحالية سيكفي لسد احتياجات الخدمات رفيعة القيمة التي تحتاج إليها العولمة،وهو ما أطلق عليه بعضهم تسمية (مجتمع الخُمس)، أي أن خمس الطاقة البشرية سيعمل ويحصل على كفايته، بينما لا تحصل الأخماس الأربعة الباقية إلا على الفتات، وأكثر هذا الفتات هو «رضاعة التسلية» على حد تعبير بريجنسكي. وبعد مضي أحد عشر عامًا على اجتماع «تكتل الأدمغة» في فندق فيرمونت، يتضح لنا بشكل مذهل أن العالم قد يكون في طريقه فعليًا إلى مجتمع الخُمس هذا، وفي هذا المجتمع الذي يعيش أربعة أخماسه مخدرين على فتات الطعام والمأوى ووفرة التسلية، سيكون الشباب هم أول الضحايا، ولأنهم أغلبية في مجتمعاتنا العربية، فإنهم سيكونون أغلبية أيضًا في كتلة المُخدَّرين، وهو أمر تنفر منه طبيعتنا العربية وثقافتنا الروحية التي تعتبر العمل حقًا ليس فقط من حقوق الإنسان بالمعايير الدولية، بل واجبًا دينيًا لإعمار الأرض وتشريف الحياة.

إستراتيجية الإلهاء

          لا أظن أن حالة الإلهاء التي تستغرق شباب الأمة، في المجمل، هي وليدة تخطيط وتدبير واع من متعهديها العرب، فحتى في أمور التخريب لا يمكن أن نجزم بوجود تخطيط ولا تكتيك ولا إستراتيجية كما في الكثير من أمور حياتنا، بل هي الفوضى والغريزة، فوضى الاندفاع وغريزة الربح بأي ثمن، ضمن نمط أخلاقي غريب على ثقافتنا وقيمنا، وهو اندفاع تؤكده موجة انتشار وتكاثر القنوات الفضائية التجارية ذات التوجهات الترفيهية المبتذلة في الكثير منها، والتي فرضت معاييرها وتوجهاتها على بقية المحطات التقليدية، نظرًا لجاذبيتها المخاطبة للغرائز والميل البشري للخفة والتسلية، مقارنة مع رتابة وقحط برامج القنوات الوطنية العربية - في معظم الأحوال - وتتبارى هذه القنوات وتتفنن في أساليب التسلية المسطحة للوعي والمخدرة للمعاناة الوجودية والمكرسة للهدر الذي يرتدي قناع الترفيه. وهناك مثالان واضحان على ذلك، أولهما مباريات كرة القدم التي تحولت إلى عقيدة جديدة للشباب، وثانيهما مختلف برامج التلفزيون التي تتنافس فيها بعض القنوات الفضائية والمخصصة لصناعة «النجومية السريعة» بين جيل الشباب. ويضاف إليها بالتلازم والتبادل كل برامج الإثارة الحسية الآنية وموجات الموضة المتجددة التي تعرفها. في كل هذه الحالات يُدفع الشباب للإبقاء على مستوى الرغبة والمتعة والإثارة، وتقوم محاولة إبعاده عن عالم الأفكار والتساؤل عن مشروعية الهدر الذي يطاله، وكل هذا يُدار بغريزة الربح السريع دون أي وازع أخلاقي، لكنه يصب في النهاية في مسار مجتمع «الخُمس» الذي بشر به «تكتل الأدمغة»، وإن بصورة ممسوخة وممجوجة وعشوائية أيضًا. ولعل النموذج القريب في إطار هذا الإلهاء هو ما حدث من إساءة استخدام لرياضة جماهيرية محبوبة هي كرة القدم، فقد تحولت إلى مشروع تجاري كوني ذي رقم بلاييني يكاد ينافس تجارة النفط والصناعات العسكرية، إنها صناعة تدر بلايين الدولارات من خلال أسعار الدخول الباهظة، والبث التلفزيوني والثياب والأدوات والإعلانات، التي لم يكد رقم أعمالها يتصاعد حتى بدأ يدخل في فئة عشرات المليارات من الدولارات سنويًا، تحولت كرة القدم إلى صناعة، نوادي اختيار اللاعبين وتدريبهم وصناعة النجوم من بينهم، ومبارياتها، كلها أصبحت تجارة تدر أسهمها في البورصات أرباحًا طائلة، بحيث دخلت في المضاربات المالية ذات المكاسب السحرية ناهيك عن أسعار نجوم الكرة التي ما انفكت تتصاعد كي تتجاوز أسعار آحاد منهم، من فئة أغلى لاعب في العالم، ميزانيات جامعات طموح, في بلدان تحلم بالخروج إلى النور. ولقد رأينا المظاهر التجارية السافرة في العبث بهذه الرياضة تصل إلينا مع «مونديال» الكرة العالمية الأخير. وبات واضحًا أن التقاتل للفوز بمتابعة مباريات هذا المونديال في بعض البلاد العربية، هو دليل على إدمان من نوع جديد، يعوض الشعور بنقص الوجود الحقيقي والفعالية المجتمعية والنجاح الهادف بتلك الأهداف التي يسددها في مرمى بعيد، لاعب من فئة النجوم يقدم نجاحًا بديلاً للشباب المحبط الذي يتقاعد عن ممارسة أي رياضة حتى لو كانت رياضة المشي!

          وعلى خطى إستراتيجية الإلهاء والهدر نفسها تسير برامج صناعة النجومية السريعة بين الشباب التي صارت حديث الساعة في الصحافة, وتتبارى بعض الفضائيات في إخراجها محليًا, بعد أن تستوردها من الغرب، حرفيًا، وآخر موضاتها هو «تلفزيون الواقع» الذي يضع مجموعة من الشباب صبيانًا وبنات من بين الذين يتصفون بما يسمى «نيولوك» تحت المراقبة المستمرة (24 ساعة يوميًا)، بحيث تنقل الكاميرات وقائع حياتهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم وتعبيراتهم الجسدية والنفسية على الهواء مباشرة. إنها عملية تستبدل بواقع الشباب الفارغ المحبط واقعًا وهميًا أقرب إلى الخيال، إلا أنه يدفع بالمشاهدين كبارًا وصغارًا إلى العيش في نوع من الحلم الذي يعوض عن معاناة الواقع وفراغه، وأما المشاركون فيطمعون بالشهرة والنجومية، وخصوصًا في نجومية الفيديو كليب، ويشارك هؤلاء المشاهدون من خلال اتصالاتهم برسائل SMS، وتذكر التقارير أن أحد هذه البرامج استطاع استقطاب مائة مليون رسالة تصويت SMS لهذا النجم أو ذاك، لإبقائه في المباراة أو خروجه منها، وهو ما أصبح يدر ذهبًا خالصًا على هذه القنوات، بشكل يتجاوز حتى الدخل من الإعلانات. نحن هنا - إذن - بصدد ظاهرة المشاهد المشارك الذي يعيش، مع المرشحين للنجومية، حالة الحلم من خلال التماهي بهم!

الخطورة والانتباه

          إن رسم صورة الإهدار الذي يعيشه معظم الشباب العربي، كما وردت في كتاب «الإنسان المهدور»، وكما ترد يوميًا في كثير من المطبوعات العربية، وكما تجري كل لحظة تحت أبصارنا، ليس الهدف منها إحباط الأمة، وإقعاد شبابها، بل الهدف هو التنبيه إلى خطورة ما تعكسه الصورة، فالشباب كتلة حرجة فعلاً، بحكم العمر وتأجج الطاقات وترامي الطموح وتمادي الحلم، وهذه الكتلة إما أن تنتج طاقة بناءة تثري الحياة في الحاضر، وتؤسس للبقاء في المستقبل، أو تنفجر عنفًا وجنوحًا ينسف الذات وينسف الآخرين في محيطها، وينسف الحاضر ومعه المستقبل. وهي قضية بالغة الخطورة، لا ينبغي لنا فيها أن نستسلم لسيناريوهات العولمة المتطرفة التي ترسم لنا طريق «مجتمع الخُمس» كسبيل وحيد للحياة في القرن الواحد والعشرين، أو نمرر بلا مبالاة ابتذالات وكلاء إستراتيجيات الإلهاء المحليين الذين تحركهم روح اللامسئولية الأخلاقية وغريزة الربح المسعور ولو على أشلاء المجتمع.

          لا نقول أبدًا بسياسة القمع والمنع، بل نقول بضرورة إيجاد البدائل لاستيعاب طاقة شبابنا وتفعيل طموحهم وكشف ما وراء الإلهاء من خطورة.

          إن كتاب الدكتور حجازي صرخة بامتياز ترددت أصداؤها ها هنا، ونأمل ألا تكون صرخة ضائعة في واد، وأحسب أن القوى والتجمعات الديمقراطية الوطنية في عالمنا العربي عليها مسئولية التحرك لتوفير هذا الهدر لعنصر الشباب وتوجيهه إلى طريق العمل الجاد والمثمر لصالح بناء الأوطان ولاستثمار تلك الطاقات في النهضة وخير المجتمعات، فالفراغ إن لم يملأ وطنيًا سوف تملؤه قوى خارجية تعمل لمصالحها الخاصة، ولا يهمها مصلحة شعوبنا وأوطاننا، والفرصة سانحة علينا الإمساك بها قبل أن تختطف من غيرنا.

 

سليمان إبراهيم العسكري