من مناهج التعليم الديمقراطي.. إحياء فن المناظرة والحوار

   من مناهج التعليم الديمقراطي.. إحياء فن المناظرة والحوار
        

إننا في أمس الحاجة إلى الخروج عن الأساليب التقليدية في التعليم، والبحث عن طرق جديدة، تغذي روح الحوار، وتمهد للإحساس بالمناخ الديمقراطي.

          ذكريات مناظرة مهمة: الزمان في أواخر الثلاثينيات من القرن الفائت، والمكان في القاعة الكبرى تحت قبة جامعة الملك فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) وأنا طالب في كلية الآداب جرت مناظرة احتشد فيها طلاب وطالبات كليتي الآداب والحقوق. وكان موضوعها (هل يفضل خريج الجامعة الزواج من جامعية؟ أم من غير جامعية؟). وكان فارساها الأستاذة سهير القلماوي (وكانت معيدة تعد رسالتها للدكتوراه)، والأستاذ عبدالمجيد نافع من كبار المحامين في مصر. ونظرًا لأن الموضوع كان من المسائل التي تشغل فكر الشباب الجامعي وتدغدغ مشاعرهم، كما كان من المسائل المثارة إذ ذاك في الصحف ولدى الرأي العام، امتلأت القاعة بالطلبة من الجنسين وبعدد غير قليل من المعيدين بالكليتين ومعهم بعض الأساتذة، تدور بينهم همسًا أحاديث حول أي الطرفين يكون موقع اختياره. وقد كان لتلك القاعة احترامها وتقاليد النظام بها ومراعاة الاستماع لما يدور فيها، دون صخب أو تهريج مما نلحظه اليوم أحيانًا في قاعات الدرس أو المؤتمرات. ولعلها تفردت بكونها منارة الرأي وحرية الفكر والتعبير والمشاركة في برامج محاضراتها ومناظراتها العامة في الجامعة الوحيدة إذ ذاك.

          يقدم د. أبو العلا عفيفي أستاذ الفلسفة بكلية الآداب كلا من المتناظرين، مشيرًا دون إطناب وتزيد إلى جدارته في الدفاع عن  وجهة نظره، لتبدأ الأستاذة سهير القلماوي عرض موقفها من القضية. ومن بين ما اختزنته ذاكرتي بدء حديثها عن المساواة بين الرجل والمرأة والتأكيد على حق المرأة في الاختيار والقرار، ليس لأنها تمثل نصف المجتمع، فذلك حقها المطلق حتى لو كانت ربع المجتمع أو أقل من ذلك.

          وعرجت بعد ذلك على قيمة التعليم بعامة والجامعي لاستقبال الطالبات بخاصة، بعد أن غدت فرص الالتحاق لهن مشروعة قانونًا. ولم يكن تعليم البنت، ونحن في ثلاثينيات القرن العشرين، من المسائل المعترف بها في الإجماع الشعبي أو حتى في سياسات الحكومات، فما بالك بالتعليم الجامعي مع اختلاط الجنسين الذي كانت تنكره غالبية المصريين على أساس قيم دينية واجتماعية؟! وظلت الجامعة برئاسة مديرها الفيلسوف المقتحم أحمد لطفي السيد، تستقبل الطالبات في غفلة من الرأي العام وتجاهل من  الحكومة لتضعهما أمام الأمر الواقع حين تم الاعتراف بذلك قانونًا بعد حوالي عقد من السنين.

          ومع هذا القانون بحق التعلم الجامعي للإناث، أكدت سهير المساواة بين الشباب والشابات، وما يمكن أن ينجم عن ذلك من توافر أعداد الخريجات، ومن تكوينهن فكريًا ووجدانيًا واجتماعيًا ليصبحن أفضل زوجات لنظرائهن من خريجي الجامعات.

          أما الأستاذ عبدالمجيد نافع فقد أراد بصوته الجهوري وقدراته الخطابية أن يبين تلك الأفكار التي نعتبرها اليوم تقليدية من حق الرجل في السيطرة على أسرته، وأن الزواج بجامعية لا يحقق المودة والسكينة في تصوره لحالة السلام العائلي.

          ولا أريد أن أستغرق في تفاصيل هذه المناظرة التي استمرت ثلاث ساعات شارك فيها الطلبة ذكورًا وإناثًا في أجواء ساخنة بتعبيرات التأييد أو العيوب المتصورة لدى كل من الطرفين.

          والطريف في هذه المناسبة أنه ما إن خرجنا من باب الجامعة إلا وقامت مظاهرة تلقائية تهتف بعبارة (عاوزين نتجوز يا نافع)، حيث اشترك الجميع بصرف النظر عن مواقفهم في ذلك الهتاف معلنين أهمية الحاجة إلى الزواج.

          وأحسب أن تلك المناظرة قد تركت آثارها ضمن غيرها من أجواء الجامعة المنفتحة إذ ذاك. أسوق هذه القصة لأبين كيف يمكن أن تكون المناظرات في موضوعات حيوية بالنسبة لشباب الجامعة وسيلة تربوية تعليمية لاكتساب أسلوب الحوار، والتفهم والوعي بمواقف الخلاف في الرأي، وإدراك أن كثيرًا من قضايا المعرفة والحياة ليست مسطحة أو ذات بعد واحد، وإنما هي مركبة وذات أبعاد مختلفة حسب المناظير المستخدمة في إدراكها والتعامل معها.

أهمية الحوار

          وفي حركة تطوير مضامين تعليمنا وأساليبها يشيع الحديث عن أهمية الحوار وعرض الرؤى والنظريات المختلفة لدى طلابنا من أجل تكوين الوعي الناقد والمتبصر في عملية اكتساب المعرفة وتمثلها وتوظيفها وإنتاجها. وهذا المنهج الحواري في التعليم والتعلم يُعنى بأسلوب التفاعل بين المعلم والمتعلم، وبين المرسل والمتلقي، قدر عنايته بمادة التعلم ومضمونها، بل واعتباره جزءًا لا يتجزأ من لحمة وسداة النسيج المعرفية في نهاية المطاف. ثم إن اتباع منهج الحوار من وسائط الحياة الديمقراطية المهمة، سواء بين المعلم والطالب، أو بين الأب وزوجته وأبنائه وبناته أو بين صاحب العمل والعمال، أو بين تنوع المصالح والاهتمامات لدى شرائح المجتمع المختلفة، ففي المجتمع الديمقراطي من حق كل إنسان أن يكون له صوت مسموع.

          وفي مجال التعليم يذكرنا دومًا (باولو فريري) فيلسوف تربية ما كان يسمى بالعالم الثالث بأهمية الحوار في التدريس، وبما يؤكد على أنه من واجب المعلم أن يتحدث (إلى) الطلاب، كما يتحدث (معهم)، ومن خلال ذلك يُعلِّم المتعلمين أن (يستمعوا) إليه، ومن ثم يمارس حياة تعليمية متسقة ومتوازنة بين الحديث إلى المتعلمين والتحدث معهم، يسألهم ويسألونه، حريصًا على الاستماع لهم، ليس على سبيل التفضل والمن، ولكن على سبيل الواجب واحترام خبراتهم.

          بيد أنه يرى أن (أيديولوجية التسلط التي تميز ثقافتنا تخترق توجهات مختلف الطبقات الاجتماعية في ممارسات الوزير،  كما لدى مدير المدرسة، وأستاذ الجامعة، والضابط، وأمين الشرطة، وحارس العمارة).

          وفي تصويره لموقف المعلمين الذين يتسمون بالتسلط يراهم (فريري) دائمًا (هم الذين يبدأون بالكلام، بينما يظل الطلاب باستمرار مستمعين مذعنين لخطابهم. وهم في هذه الحالة يتحدثون (إلى)، و(عن) و(حول) الطلاب، وليس (معهم)، واثقين من صحة ما يقولون من موقعهم العلوي إلى المستوى الأدنى. وحتى حين يتحدثون مع المتعلمين يشعرون كما لو أنهم يُسْدون لهم معروفًا، مذكرين بقوة أصواتهم وسلطتهم.

صور من الحوار الزائف

          وحتى إذا انتقلنا إلى صورة الندوات العامة فسوف نجد مجموعة الخبراء على المنصة يدلون بآرائهم، دون مناقشة أو حوار فيما بينهم، كذلك لا يتم حوار مع أسئلة المستمعين، حيث إنه لا يتعدى في هذا السياق أكثر من سؤال من المشاركين وإجابة من الخبراء، كما لو أن الأمر من قبيل أسئلة الفتوى (ما قولكم دام فضلكم؟) حيث يكون الجواب قاطعًا لا مناقشة بعده. وكذلك الشأن في الندوات التلفزيونية، فالحوار مع المذيعة في معظم الحالات هامشي، والإجابة رسمية عامة. وحتى مع وجود مستمعين في أي ندوة أو مؤتمر وبخاصة حين ترأسه قيادة رسمية فوقية، كثيرًا ما تكون الأسئلة معدة سلفًا لإيجاد صورة متهافتة من صور الحوار. أما عن أسلوب المحاضرة فإنه يتمثل في سخرية برناد شو في وصفه بأنه (كلام يخرج من فم المتحدث ليصل إلى أذن السامع دون أن يمر بعقل أي منهما).

          والحوار في جميع الحالات ليس مجرد إثبات وجود، أو ممارسة عضلات لتسجيل موقف، وليس مجرد إجابة وزير أو خبير أو أستاذ على الأسئلة، وإنما هو أخذ وعطاء متصل حتى يقتنع السائل أو المسئول برؤية أحدهما أو حتى يصلا إلى موقف ورؤية مشتركة. وهذا هو أيضًا أساس الحوار بين الأحزاب السياسية حين تجري بينهما مفاوضات وتنازلات وصولاً إلى توفيق جامع، أو كما يقول الإمام الشهرستاني: حتى ينتهوا إلى (تعظيم الجوامع وتقليل الفوارق).

نموذج من برامج المناظرات

          وفي هذا السياق الحواري، يمثل فن المناظرة نشاطًا مهمًا حين يتبارى المتناظران في إبراز قيمة موقف أو توجه كل منهما، مما يمنح المشاركين القدرة على التقييم والاختيار بين البديلين، أو بين بدائل أخرى تتولد من خلال موقف الطرفين. وهذا بعد مهم من أبعاد تنمية التفكير النقدي.

          وأسلوب المناظرة من المهارات المهمة التي تسعى إلى تنميتها قصدًا بعض المدارس والجامعات الأمريكية، وتعد لها مرشدًا لبعض القضايا الخلافية التي تعرض وتناقش في الحلقات النقاشي في الفصول المدرسية أو في القاعات الجامعية، كجزء لا يتجزأ من البرامج الأكاديمية.

          وقد وقع في يدي أخيرًا كتاب مرشد لموضوعات المناظرات في العلم والتكنولوجيا والمجتمع، قام بتأليفه مجموعة من أساتذة الجامعات الأمريكية، مركزًا على القضايا والتوجهات الخلافية في المواقف في تلك المجالات.

          وعنوانه:  Taking Sides: Clashing Views on Controversial  Issues in  Science, Technology and Society.

          ومحرره Thomas A. Easton

          وقد حفزني إلى عرض القضايا المطروحة في هذا الكتاب اهتمام مجلة «العربي» بالثقافة العلمية، واختيارها لهذا الموضوع في مؤتمرها السنوي الحاشد والحافل في أواخر العام الماضي.

          وهذا الكتاب يتناول ما يتباين بين الرؤى والمواقف من بعض القضايا التي طرحتها، ولاتزال تطرحها، مسيرة التقدم العلمي والتكنولوجيا وآثارها المجتمعية. وقد تضمن الكتاب خمسة مجالات أساسية. هي: مكانة العلم والتكنولوجيا في المجتمع، البيئة، التجاوز في عالم التكنولوجيا، ثورة الحاسوب، أخلاقيات العلم. وقد قسم كل مجال إلى أسئلة تطرح أهم قضاياها والتي بلغ عددها (17) سؤالاً:

          ففي المجال الأول جاءت الأسئلة التالية:

          1 - هل على الحكومة الفيدرالية - أو المجتمع - أن توجه مسيرة العلم أم أن يستقل بذلك العلماء وحدهم؟

          2 - هل العلم عقيدة كالعقائد الدينية، أم أنه يحتكر مصادر المعرفة الإنسانية الأخرى؟

          3 - هل ينبغي أن تحل نظرية التطور محل عملية الخلق؟ أم أن نظرية داروين نظرية خطيرة، وثمة ضرورة للبحث عن نظرية تتفق مع ما ورد في الإنجيل؟

          وفي المجال الثاني:

          4 - هل سيتاح للأجيال القديمة أن تجد ما يكفيها من الطعام؟ أم أنه سيتوافر لها الأمن الغذائي إذا ما أزيلت العقبات الاقتصادية والاجتماعية؟

          5 - هل ينشغل المجتمع بهموم الارتفاع في إشعاعات الحرارة الكونية؟ أم أنها ليست ظاهرة مؤكدة ينبغي ألا نشتغل بهمومها؟

          6 - هل يمثل تقلص طبقات الأوزون مخاطر حقيقية؟ أم أنه ليس ثمة حقائق علمية كافية تؤكده؟

          7 - هل ثمة مخاطر صحية لحياتك من التعرض لمجالات الإلكتروماجنت في الأجهزة الكهربائية؟ أم أن مسألة التعرض للسرطان في استعمالها مبالغ فيها؟

          8 - هل القوانين والإجراءات البيئية شديدة التضييق على حرية الفرد أم أنها ضرورة لحياة الفرد والمجتمع؟

          وفي المجال الثالث:

          9 - هل يجب أن تتضمن برامج الفضاء الأمريكية وجود أشخاص في أبحاث الفضاء؟

          10 - هل من جدوى للاستمرار في أبحاث استكشاف الحياة في عالم الأفلاك العلوية؟

          11 - هل يجب تحريم أبحاث الهندسة الوراثية؟

          وفي المجال الرابع:

          12 - هل ستعود ثورة المعلومات بمنافع اجتماعية؟

          13 - هل الحواسب تمثل خطرًا على عادة القراءة؟

          14 - هل يمكن بناء حاسوب قادر على التفكير؟

          وفي المجال الخامس:

          15 - هل يمكن تبرير استخدام الحيوانات في معامل الأبحاث؟

          16- هل تسوغ الأخلاقيات استخدام البشر «كحيوانات تجريبية»؟

          17 - هل يمكن أخلاقيًا السماح باستنساخ البشر؟

          أوردت هذه المجالات وأسئلتها كما جاءت في الكتاب، وقد يكون بعضها مما يمكن أن ينشغل بها مجتمعنا أو يرتبط بثقافتنا، بينما بعضها الآخر ذو صبغة عالمية أو أمريكية.

          وقد خصص الكتاب في أجزائه اللاحقة مقتبسات تفصيلية لآراء بعض العلماء الموافقة والمتعارضة للسؤال المطروح، ليستعين بها الطلاب في مناظراتهم والرجوع إلى مصادرها للتوسع.

          وهذا النموذج من تقسيم موضوع التباين في وجهات النظر وجعله مجالاً لعقد المناظرات أو الحوارات في وسائل التعليم والتعلم، يمكن تطبيقه والاستعانة به في العلوم الاجتماعية بمختلف تخصصاتها، ليحل محل كتب مقررة تعالج فيها الموضوعات النقاشية كما لو كانت كتب مواد دراسية، أو لأسلوب ترك الاختيار للأستاذ «للدردشة» حول أي موضوع دون هدف علمي أو سعي لتنمية منهج فكري.

أما بعد

          وختامًا فإنه لا يمكن أن يكتفى في بناء نظام ديمقراطي سديد بالاقتصار على الهياكل والمؤسسات النيابية، وإنما تستلزم فاعلية النظام عقلية دينامية تشكلت بفلسفة الحوار والمناظرة، واحترام الرأي الآخر، وغلبة النقد الواعي على نهج التسلط المعرفي أو التعبئة الأيديولوجية أو إنكار حقوق المختلفين. إن تلاقح الآراء وتصارعها هو جوهر الوجود الإنساني والطاقة المحركة لمسيرة العمل الديمقراطي.

 

حامد عمار