أي نمط من التفكير الفلسفي نحتاج؟.. د. عبدالله الجسمي

 أي نمط من التفكير الفلسفي نحتاج؟.. د. عبدالله الجسمي
        

أي نمط من التفكير الفلسفي نحتاج إليه في ظل واقعنا، بعدما وصلت الأمور إلى وضع، يقر كل إنسان موضوعي بأنه مؤسف على جميع الأصعدة، التي نعيشها في حياتنا وفي نتاجنا الفكري والثقافي؟!

          لاشك أن ما أوصلنا إلى ما نحن فيه هو طريقة أو طرق التفكير السائدة في مجتمعاتنا التي لا صلة لها بعصر العلم والتكنولوجيا، فهي مازالت تفسر الطبيعة والعالم، وما يجري فيهما بطريقة قصصية ولغة مجازية، وتفسر الأحداث تفسيرات ذاتية لا تعرف أي شكل من أشكال الموضوعية أو العقلانية. وطرق التفكير السائدة المضادة للعلم والعقل لا يمكن التخلص منها إلا عن طريق الأدوات والمناهج العقلية التي لعبت الفلسفة والفلاسفة دورًا مهمًا في تغييرها على مر العصور. ومن أجل تحديد أي من طرق التفكير الفلسفية يحتاج إليها واقعنا الحالي لابد في البدء من فهم موقعنا الحضاري في السياق التاريخي، الذي مرّت به حضارات أخرى، أبرزها الحضارة الأوربية التي أنتجت العلم والثقافة والفكر الإنساني والفلسفي.

          إن موقعنا الحضاري الذي نعيشه هو شبيه بالموقع الذي عاشته أوربا على وجه الخصوص في التحول من العصور الوسطى إلى عصر النهضة، الذي مهّد الطريق للعصر الحديث. فنحن نعيش فترة من التحولات الجذرية والعميقة في جميع المجتمعات العربية، وإن كانت عجلة التغيير تتفاوت من بقعة لأخرى، لكن المتفق عليه هو التغيير. والملاحظ على هذا التغيير وتيرته المتسارعة التي نقلت بعض المجتمعات العربية نقلة نوعية في فترة قياسية، وأصبحت أمام واقع جديد يكاد أن يختلف تمامًا عما سبقه. وبالمقارنة مع ما حدث في أوربا فإن التغيير الذي حدث لم يأت خلال جيل أو جيلين بل أخذ قرونًا حتى تحرر العقل الأوربي من أنماط التفكير التي كانت تعيق مسيرة تقدمه، إذ تمت إعادة بناء العقل من جديد مع التطور العلمي وانهيار سلطة الكنيسة والثقافة التي كانت تروجها. بمعنى أن التطور العلمي الذي سارت به أوربا كان طبيعيًا، وتزامن تطور العقل والفكر مع التطور العلمي والحضاري. لكن ما حدث عندنا هو العكس، فالتغيير الذي حدث تم في البنية المادية بالدرجة الأولى، ولم يتزامن معه تغييرات علمية وفكرية وثقافية قادت إلى عملية إعادة بناء للعقل العربي من جديد بناء على أسس علمية أو عقلانية تتلاءم مع هذه التغييرات، فأصبحنا نعيش في واقع جديد، ونستخدم أحدث الوسائل التكنولوجية، لكننا لا نفكر بالطريقة والعقلية التي أنتجت هذه الأدوات أو صنعتها. وقد خلق هذا الوضع أشبه ما يكون بالازدواجية، أو حالة فصام مع الواقع، بحيث يعيش المرء في واقع ويستخدم ما هو جديد، لكن يفكر بطريقة لا صلة لها بهذا الواقع ومستجداته فينتج عن ذلك ممارسات لا تتفق مع أصول وكيفية استخدام ما هو جديد.

          في هذا الصدد يمكن تحديد عدد من الجوانب الفكرية التي تتسم بها طريقة التفكير السائدة في مجتمعاتنا وأولها احتكار الحقيقة. تنتشر ظاهرة احتكارالحقيقة بين الأفراد وشرائح اجتماعية مختلفة وهي ذات طابع طائفي أو إيديولوجي أو عرقي أو ثقافي. إذ يعتقد الكثير أن ما يؤمنون به أيًا كان مصدره، طائفيًا أو عرقيًا أو غيره هو الحقيقة، ومن يختلف معهم فهو على باطل. ويتسم هذا النمط من التفكير بالجمود وفي الوقت نفسه بالشمولية ومن نتائجه غياب أي شكل من أشكال الحوار وتسيد ظاهرة إقصاء الآخر واستخدام العنف في بعض الأحيان والترهيب في فرض الآراء والاعتقادات على الآخرين.

          وقد نتج عن هذا الأمر صراعات عرقية ودينية وطائفية ساهمت في الابتعاد عن قضايا العصر وتغليب قضايا - في حقيقتها وهمية - لا تقدم ولا تؤخر في شيء.

          وتتسم هذه المرحلة أيضًا بالصراع الحاد والمتناقض بين طرفين: الأول يسعى للتغيير وإحداث نقلة نوعية في واقع المجتمع، والآخر في أحسن الأحوال يريد إبقاء الأمور على حالها. أما النسخة المتطرفة من الأخير فتسعى إلى العودة بالأمور إلى الوراء ومحاربة كل ما هو جديد. وهذا الصراع في طابعه فكري ما بين العقل والنقل، أي ما بين طريقة تفكير تحتكم للعقل وتسعى للتجاوب مع المتغيرات والمؤثرات الخارجية بطريقة عقلانية وبين طريقة تفكير سلفية تنفر من التجديد، ولا تعرف التفاعل مع الآخر وترى في الماضي الملاذ من التغييرات المدنية الحديثة، وما جاء معها من تطورات قيمية وحقوقية. ومع الأسف لاتزال الغلبة في صالح القوى السلفية والتقليدية المدعومة من مؤسسات الحكم السياسية في معظم الدول العربية. وقد نتج عن ذلك سيادة أنماط من التفكير لا صلة لها بطابع التفكير العقلاني والعلمي، مثل التفكير الغائي وصياغة الأحداث بطريقة التفكير الخرافية أو الأسطورية، علاوة على إفراط البعض في الغيبيات، والدعوة إلى نبذ التفكير في عالم الواقع واستبداله بعوالم أخرى. وهذا في مجمله يعكس الأسس التي تقوم عليها عملية تفسير الطبيعة والواقع والظواهر والمشكلات التي تتم فيه. فكل طرق التفكير غير العلمية وغير العقلانية تنطلق من أسس ذاتية صرفة في تفسير الظواهر والأحداث، سواء في الطبيعة أو في واقع الحياة اليومي. فطريقة التفكير هذه، والتي يأخذ بها السواد الأعظم من الناس، تفسر الأمور وظواهرها الطبيعية بناء على غايات خارجية أي تنسب لها أسبابًا غير أسبابها الفعلية أو المادية التي تسببها كما لايزال الكثير ينظر للطبيعة وأحداثها ككائن حي، وإلى آخره من أمور. وهذا بلا شك يقف على النقيض من طريقة التفكير العلمية التي تتصف بالموضوعية وتفسر الظواهر بأسبابها الفعلية والمادية ولا تتعلق تفسيراتها بالأهواء أو الرغبات الذاتية مما ينتج عنه تعامل أدق مع الأحداث والأمور وفهمها بطريقة منهجية، ومن ثم إيجاد الحلول التي يمكن أن تساهم في معالجتها.

          وخلاصة القول إن طريقة أو طرق التفكير السائدة في مجتمعاتنا ساهمت بشكل كبير في إعاقة أو إحداث تقدم ثقافي أو علمي حقيقي، مثلما كانت هذه الطريقة تعيق التقدم العلمي والثقافي في أوربا أثناء فترة العصور الوسطى، ولم تقم للتطور قائمة آنذاك إلا بعد أن تخلصت من طرق التفكير غير العلمية التي هيمنت عليها سابقًا. فمن الواضح إذن أن طريقة التفكير هي التي تلعب الدور الأساسي في إحداث التغييرات الثقافية والفكرية في المجتمع فأي طريقة تفكير لها ثقافتها الخاصة بها التي تميزها عن طرق التفكير الأخرى، وبما أن الخلل يكمن في التفكير فلا يمكن أن يعالج إلا بالأساليب والأدوات والمناهج الفكرية التي تتوافر في التراث الفلسفي والذي مارس من خلاله الفلاسفة التأثير الأكبر في إحداث نقلات نوعية من التفكير على مر العصور.

أوهام بيكون الأربعة

          في مرحلة التحول التي عاشتها أوربا ظهر العديد من الفلاسفة الذين قاموا بنقد طرق التفكير السائدة في مجتمعاتهم كل بطريقته ورؤيته الخاصة.

          وقد طرح الفيلسوف التجريبي الإنجليزي فرانسيس بيكون أوهامه الأربعة الشهيرة، التي نقد بها طرق التفكير غير العلمية والمفتقرة إلى المنهجية والموضوعية وهي أوهام الجنس (أو النوع) والكهف والسوق والمسرح.

          وهذه الأوهام شبيهة إلى حد كبير بما هو سائد في ثقافتنا من أوهام ومسلمات بأمور غير خاضعة للجدل والنقاش، والتي تشل في حقيقة الأمر أي نوع من أنواع التفكير النقدي الحر وتفتقر إلى الأدلة والبراهين المادية التي تدعمها.

          فبالنسبة لأوهام الجنس أو النوع فهي تنتقد كون «الحواس البشرية - التي تتخذ مقياسًا للأشياء جميعًا - معرضة للخطأ، وعقل الإنسان أشبه بمرآة غير مصقولة تضفي خصائصها الخاصة على الأشياء، وتشوه صورتها». (آفاق الفلسفة، د.فؤاد زكريا، ص 104). إن ما يذهب إليه بيكون هنا هو ما تمت الإشارة إليه سابقًا حول تغليب الجوانب الذاتية في تفسير الظواهر الطبيعية والأحداث بطريقة مختلفة عمّا هي عليه في واقع الأمر كما هو شائع عندنا، وإسباغ التمنيات والرغبات والمواقف الذاتية عليها، أي أن العقل يفرض منطقه ونظامه الخاص على الأشياء والظواهر ويفسرها بمنطق ذاتي بعيد عن الموضوعية وعن منطقها الطبيعي. أما بالنسبة لأوهام الكهف فهي الأوهام «الفردية التي يقع فيها كل شخص نتيجة تكوينه الخاص». (آفاق الفلسفة ص 105). إن أكثر ما يدفع المرء إلى العيش في الأوهام هو طريقة التفكير التي يفكر بها، والتي تأتي نتيجة، في معظم الأحيان، من واقع الثقافة السائدة في المجتمع. فإذا كانت هذه الثقافة تفتقر إلى التفكير الواقعي والنظر للأمور بموضوعية وتجرد، فستكون أرضًا خصبة للأفكار الوهمية، التي لا صلة لها بالواقع. ومع الأسف فإن هذه الظاهرة منتشرة بشكل كبير لا بين العامة فقط، بل حتى بين بعض شرائح المتعلمين والمثقفين السياسيين والحكام الذين يحلمون بعوالم مثالية، أو يسبغون على أنفسهم هالات من العظمة أو التقديس، ظنًَا منهم أنهم عمالقة في تخصصاتهم أو المعرفة التي يحملونها. علمًا بأن كل المعرفة التي يملكونها هي في الأغلب مستوردة من الخارج، ناهيك - بالطبع - عن الأوهام المتفشية بين العامة كالخرافة والقصص الأسطورية الخارقة للعادة، والتي تتقبلها طريقة التفكير المبنية على الوهم وأسس مفارقة للواقع.

أوهام السوق

          وتعد أوهام السوق التي تحدث عنها بيكون من أكثر أنواع الأوهام خطورة. فقد شبه عملية تبادل الأفكار في المجتمع بعملية التبادل التجاري بالسوق. فأي فرد يعيش في مجتمع ما سيتبادل مع الآخرين الأفكار السائدة فيه من خلال اللغة، التي تعتبر وسيلة التعبير عن الأفكار، وأداة توصيلها للآخرين، أي أن اللغة لا تنقل ألفاظًا فقط، بل أفكار يمكن أن تتشكّل العقول بناء عليها. وإذا كانت اللغة السائدة حبلى بالكثير من الأفكار غير الواقعية، فسيكون خطرها الفكري كبيرًا على طريقة تفكير العامة. فهناك الكثير من الألفاظ الشائعة الاستعمال، إما تعبر عن موضوعات وهمية أو تفتقر إلى الدقة والتحديد، ولا تخضع في الوقت نفسه للنقد أو التحليل نتيجة لطابعها غير الواقعي. ولاشك أن ما أشار إليه بيكون متأصل في ثقافتنا الدارجة، فهي ثقافة غير علمية، أي تفتقر إلى اللغة المعبرة عنها للدقة الموجودة في العلم، فاللغة العلمية تتميز بالدقة والتحديد وتعبيرها عن أمور واقعية مدركة، يقام عليها الدليل والبرهان، بينما تفتقر اللغة غير العلمية إلى ذلك، فهي حبلى بالكثير من الأفكار الذاتية وغير الواقعية، مما ينعكس سلبًا على متلقيها وعلى طريقة تفكيره. ومع الأسف فإن هذه الظاهرة منتشرة في واقع الثقافة العربية بشكل كبير. فالثقافة العربية بشكل عام ثقافة سمعية، أي تتداول فيها الأفكار شفاهة لا عن طريق القراءة أو البحث، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة أبرزها نسبة الأمية العالية والمتفشية في الكثير من الشرائح الاجتماعية في مختلف الدول العربية، والتي يعتمد تكوين أفكارها على الشفاهية نتيجة لعدم قدرتها على القراءة والاطلاع. ولا يقتصر الأمر على هذه الشريحة، بل إن شريحة واسعة من المتعلمين تعتمد على نقل أفكارها عبر الثقافة السمعية، وهذه الشريحة تعاني من الأمية الثقافية، وتنتهي عملية القراءة والاطلاع عندها فور الحصول على الشهادة والعمل، وتتحول بعد ذلك إلى تلقي المعرفة الشفاهية دون عناء البحث والتدقيق فيما ينقل من أفكار أو أحداث.

          وقد ساهمت الأدوات التكنولوجية المستخدمة في الوسائل الإعلامية في تعزيز هذا الأمر، فعلى الرغم من كثرة المحطات الفضائية، التي تبث مادة مرئية ومسموعة كثيفة، فإنها استخدمت لتعزيز الثقافة السمعية من حيث المادة، التي تعرضها، والتي تفتقر إلى الدقة العلمية، وكون معظمها موجهًا ويخدم أهدافًا سياسية.

          ولا تخرج مادتها وطرق نقل أخبارها عن الطرق الدارجة في نقل الفكرة أو المعلومة في ثقافتنا السائدة، فساهمت هذه الوسائل بدورها في تعميق ما أطلق عليه بيكون أوهام السوق، لدرجة أن من يفكر بطريقة عقلانية أو منهجية، ويحرص على الدقة في طرح وتناول موضوعاته، أصبح شاذًا تلصق به مختلف النعوت. أما آخر الأوهام، التي طرحها بيكون، فهي أوهام المسرح، والتي يرى فيها هيمنة أفكار ونظريات القدماء على الأذهان لفترة طويلة، وتقبلها دون إثارة أي تساؤل حولها، من حيث صحتها أو جدواها في الواقع الذي لم تظهر فيه.

          وهذه المسألة تعد من بين المسائل المنتشرة في ثقافتنا، وتعززت بشكل كبير، خصوصًا مع ظهور الحركات الأصولية. فهناك العديد من الأفكار والآراء التي لاتزال تهيمن على جوانب عدة من طرق التفكير السائدة في مجتمعاتنا مضى عليها قرون طويلة وتتوارثها الأجيال، وتضفي عليها هالة من القداسة، علاوة على العديد من الشخصيات، التي لا يمكن أن تخضع أفكارها لأي شكل من أشكال النقد، أو حتى المناقشة، ويتم التسليم بأفكارها بشكل تلقائي.

          ولم يقف الأمر على الأفكار فقط، بل أصبح الحنين للعودة إلى الماضي وتقديسه ورفض معظم جوانب الحياة المعاصرة علامة بارزة في واقعنا الثقافي والفكري، وكأن ما يجري من تطورات في العالم لا قيمة لها، ولا تعني تلك الفئات في شيء. وقد ساهمت هذه الظاهرة في الجمود الفكري، وعدم إعمال العقل في النظر في المشكلات والظواهر التي نعيشها، وإهمال جوانب التفكير العقلاني والنقدي، كما ساهمت في الوقت نفسه في استمرار صراعات تاريخية سابقة، أصبحنا نتوارثها مع توارث أفكارها وأسلوب الخطاب والأفكار والحجج والصراعات هي هي منذ نشأتها وحتى يومنا هذا بين الفرق المختلفة، لقد صدق بيكون حينما شخّص واقعه الذي كان يمر في فترة تحولات بإطلاقه كلمة «أوهام» على أنماط التفكير السائدة آنذاك، والتي - مع الأسف - تسود في واقعنا الثقافي الحالي، وأنتجت ثقافة الأوهام المنتشرة من المحيط للخليج، التي تفسر العالم بظواهره وأحداثه بطرق لا صلة لها مع الواقع، ولا بالثقافة العلمية والتكنولوجية التي فتحت للإنسان آفاقًا لا نهاية لها، وتغير وجه العالم باضطراد.

وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظًا وغايةً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ وتَنسيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي
فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي


حافظ إبراهيم

 

عبدالله الجسمي