التيارات السياسية والتحدي الديمقراطي

التيارات السياسية والتحدي الديمقراطي
        

لاتزال بعض أنظمة العالم العربي تتظاهر بأن هناك ديمقراطية، وتدّعي أن الانتخابات الصورية التي تجريها نزيهة. وفي كل يوم نتأكد أن الطريق للديمقراطية مازال طويلاً.

          أصبح ملحوظًا بشكل واضح، أن نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في أواخر يناير عام 2006، كانت نقطة تحول بارزة في التطور السياسي للمجتمعات العربية. كان وصول حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى السلطة عبر هذه الانتخابات، التي وصفت بأنها من أنزه ما عرفته البلدان العربية من انتخابات - إن لم تكن أنزهها على الإطلاق - إيذانًا بأنه قد حان أن تطوى مرحلة اعتبار الانتخابات والاختيار الديمقراطي، مجرد ديكور تستخدمه السلطة التنفيذية القائمة، لإضفاء مسحة من الشعبية والديمقراطية، على حكمها ذي الجوهر الاستبدادي في واقع الأمر! كما كانت الحال، وربما لاتزال، في عدد غير قليل من الدول العربية «المستقلة»، إما حقيقة أو مظهرًا أيضًا، من حيث حجم النفوذ الذي قد تمارسه عليها قوى خارجية أكثر تفوقًا بكثير! كانت المفارقة الصارخة هي أن هذه الانتخابات قد جرت في بلد عربي صغير لم يحصل على استقلاله بعد، بل لايزال شعبه واحدًا - وقبل احتلال العراق وأفغانستان ربما كان الأوحد - من شعوب العالم لايزال يرزح تحت الاحتلال! جرت هذه الانتخابات، التي حاولت تلك القوات عرقلة بعض مجرياتها على نحو أو آخر، مثل محاولة منع إجرائها، أو القيام بدعاية انتخابية، داخل القدس المغتصبة بالاحتلال من ناحية، وبإعلان ضمها كعاصمة موحدة للدولة الصهيونية من ناحية أخرى، ولكن لأنه كانت هناك رقابة دولية تنتمي في معظمها إلى العالم الغربي، الولايات المتحدة وأوربا، الذي يحمل رسميًا راية الديمقراطية على المستوى الدولي، بل يجعلها ذريعة لتدخلات غير ديمقراطية على الإطلاق في كثير من بلدان العالم، وبصفة خاصة في هذا الجزء من العالم، أقصد عالمنا العربي والإسلامي.

          وتزداد هذه المفارقة «صراخًا»، حيث كانت نتيجة الانتخابات، هي فوز الحركة التي لايزال العالم الغربي المنادي بالديمقراطية، يسلكها في عداد ما يسمى بالحركات الإرهابية! ولكن ذلك لم يمنع الدوائر الغربية، من الاعتراف. بل الإشادة - بنزاهة تلك الانتخابات، ريثما يتوجه هذا العالم وقد فعل، إلى الضغط على تلك الحركة الموصومة لديهم بالإرهاب لتحسين سلوكها، من وجهة نظرهم، إلى الحد الذي يطالبونها به، وهو تغيير منهجها السياسي الذي انتخبت على أساسه!

موضوع التحدي

          إن استقرار التحول الديمقراطي وزيادة تطبيق منهجه في المجتمعات العربية قد أصبح ضرورة ملحة، لم يعد اللجوء إليه في صالح الجماهير العربية المحكومة وحدها، بل القوى الحاكمة أيضًا، من ناحيتين:

          الناحية الأولى: إبطال أي حجة للضغط الدولي عليها بدعوى تنكرها للديمقراطية وحقوق الإنسان.

          والناحية الثانية: هي أن مسئولية القرار، وخاصة في الظروف الصعبة التي يمر بها المجتمع العربي حاليًا، ليس من مصلحة أي جهة حاكمة أن تتحمل مسئوليته وحدها، سواء أمام شعبها، أم أمام التاريخ، بل إن إشراك الجماهير العريضة في تحمله، عبر مجلس نيابي منتخب، يرفع عنها، أي الجهة الحاكمة عنتًا وإصرًا كبيرًا.

          فإذا عدنا إلى العلاقات الدولية وتاريخها، نجد أنه منذ أكثر من نصف قرن، كان من مسوغات إقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين، إدعاء أنها سوف تكون واحة للديمقراطية، في منطقة يسودها الجهل والتخلف وتغلب عليها أنظمة حكم استبدادية.

          هذه الحجة يبطلها أن تسود الوطن العربي أنظمة حكم ديمقراطية واقعًا وعملاً، وأكثر من ذلك تصبح الديمقراطية وشعارها في صف القضية العربية. فاستمرار احتلال أراضي الغير، وتغيير واقعها بالقوة ليس عملاً ديمقراطيًا بحال من الأحوال، فضلاً عن أن إقامة الدولة على أساس التمييز الديني بين سكانها، كما هي الحال بالنسبة للدولة الصهيونية، هو أكبر مخالفة للأسس الديمقراطية. وهذا أمر ليست الدولة الصهيونية وحدها هي المدانة فيه، بل أيضًا القوى الدولية سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو أوربا الغربية، التي تؤيدها وتساندها وتمدها بمختلف وسائل القوة للحفاظ على هويتها الرجعية في واقع الأمر كدولة يهودية، فضلاً عن توسعها على حساب من يجاورها، بمن فيهم من اغتصبت بلادهم من قبل وشرّدوا منها ولايزالون محرومين من حقهم الطبيعي في العودة إليها.

          إن تعليق حماس لما هي مطالبة به من الاعتراف بإسرائيل، على قيام هذه الدولة بالانسحاب من الأرض المحتلة منذ عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، والسماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم، ليس فيه أي قدر من الشطط، بل ينطوي ـ عند أي منصف في نظرته إلى الأمور ـ على أكبر قدر من الواقعية والتسامح والحرص على السلام العادل.

التيارات السياسية

          باستعراض سريع لمختلف التيارات السياسية القائمة في البلدان العربية وموقفها من قضية الديمقراطية، نلمس التالي:

          بالنسبة للتيار الإسلامي: كان وصول حركة حماس للحكم بمنزلة انتصار واضح لهذا التيار، حيث قامت بذلك أول حكومة منتخبة تنتمي لهذا التيار، ولو في ظل استقلال منقوص، إن لم يكن منعدمًا بالمرة، وهذا الفوز بالإضافة إلى ما نجح فيه التيار الإسلامي في مصر، في الظفر بعدد وفير من المقاعد النيابية في الانتخابات التشريعية الأخيرة، إنما يخفف بعض الأصوات التي تتكلم لغة إسلامية، ثم تذهب إلى تكفير المجالس النيابية، وعملية الديمقراطية عمومًا، كما جاء أخيرًا في الشريط المنسوب إلى زعيم «القاعدة» من وصفه هذه المجالس بأنها مجالس «شركية»، ويجعل الغلبة داخل هذا التيار للموافقين على الديمقراطية، بل المتمسكين بها، مما يساعد في الوقت ذاته على نفي تهمة معاداة الإسلام للديمقراطية، التي يحاول خصومه من دعاة صراع الحضارات إلصاقها به وبأتباعه.

          أما التيار الليبرالي فمن الطبيعي أن يكون فرحه الأكبر يوم تسود الديمقراطية أرجاء العالم العربي.

          أما التيار اليساري، فإن التجربة العالمية منذ سقوط الأنظمة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي السابق ودول شرق أوربا، قد علمته أن الفصل ما بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية قد أصبح مستحيلاً وأمرًا مرفوضًا من جانب الجماهير، وباستثناء الوضع القائم في الصين وكوبا وفيتنام فقد تحولت كل الأحزاب الماركسية إلى الديمقراطية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي الروسي الجديد بزعامة جينادي زيوجانوف، ويتبعه في ذلك عدد من الأحزاب الشيوعية السابقة في شرق أوربا التي تصل إلى الحكم أحيانًا عبر انتخابات ديمقراطية.

          يبقى التيار القومي الذي يلمس تمامًا ما أصابه وأصاب سمعته من وصمة الديكتاتورية التي ألحقتها به الأنظمة التي حكمت باسمه، وفي مقدمتها النظام العراقي السابق، ويعترف هذا التيار بضرورة التحول إلى الديمقراطية من جانب، والحاجة إلى التفاهم وربما التعاون مع التيار الإسلامي في مواجهة الهجمة الإمبريالية الشرسة من جانب آخر، وخدمة القضايا القومية - وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وتحرير العراق من الاحتلال المفروض عليه - ومن الطبيعي أن تكون الديمقراطية هي قاعدة هذا اللقاء والتفاهم.

          لقد أصبحنا في موقف يجعلنا نحن العرب والمسلمين أكثر حاجة إلى الديمقراطية من أي وقت مضى، بل نرفع فيه شعارها بثقة في وجه من احتكروا هذا الشعار طويلاً، ليجعلوه متكأ لممارسات أبعد ما تكون عن أسس الديمقراطية! وإذا كانت القوى الدولية الكبرى قد أقدمت  على معاقبة الشعب الفلسطيني، لأن خياره الديمقراطي لم يكن على هواها، وذلك عن طريق حرمانه من المساعدات المالية، كما أقدمت الدولة الصهيونية على حجز حقوقه المالية لديها مما هو مستحق للسلطة الفلسطينية من رسوم جمركية وضرائب... إلخ، فإن ذلك الحصار المالي لن يغير من الحقيقة التاريخية التي تبدّت فيها المواقف، وصارت المنطقة العربية هي المدافع الحقيقي عن الديمقراطية. وهي التي يتعرض بعض أبنائها إلى محنة التجويع دفاعًا عنها، ضد من ينتهكونها في أكثر من مجال، ليس أقلها عمليات التعذيب الشائنة في سجون أبي غريب وجوانتانامو وسواها في أرجاء العالم، بل ينتهكون مبادئ الديمقراطية في بلادهم ذاتها بدعوى ضرورات الأمن القومي وحماية بلادهم من الهجمات الإرهابية، وهي عمليات من شأنها تحويل الرأي العام في بلادهم عن تأييد السياسات العدوانية التي أقدم بعض ساستهم على اتباعها والتي يتزايد النفور والاشمئزاز منها على الصعيد العالمي. ومهما يكن من مصير حكومة حماس المنتخبة ديمقراطيًا من الشعب الفلسطيني، وقدرتها على الصمود في وجه الضغوط الهائلة التي تواجهها، حتى ولو انتهى الأمر باضطرارها إلى الاستقالة أو تعرضها للإقالة، فإن الموقف التاريخي الذي بدأ باختيارها في انتخابات نزيهة سوف يبقى أثره فعالاً على نحو غير مسبوق في التطور السياسي لهذه المنطقة ومواجهتها لعدوان ظالم هو بدوره غير مسبوق!.

 

عبدالرحمن شاكر