(شاعر العدد) حافظ إبراهيم شاعر النيل... النبيل

 (شاعر العدد) حافظ إبراهيم شاعر النيل... النبيل
        

          عندما توفي الشاعر حافظ إبراهيم عام 1932، كان صديقه وزميله الشاعر أحمد شوقي يصطاف في الإسكندرية، وبعدما بلغه النبأ الحزين بعد عدة أيام، شرد لحظات، ثم رفع رأسه وقال أول بيت من مرثيته الخالدة لحافظ:

قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء


          ويبدو شوقي في ذلك الإيثار الشعري والإنساني، والذي انطلق منه رثاء مفجعا، قد تذكر تلك الأبيات المفرطة في إيثارها وإثارتها والتي قالها حافظ إبراهيم باسم الشعراء العرب، الذين حضروا احتفالا أقيم لمبايعة شوقي بإمارة الشعر العربي عام 1927، ففي ذلك الاحتفال تقدم شاعر النيل صفوف زملائه، ليصيغ اللقب الأهم في حياة شوقي شعرا خالدا بدوره، قال:

بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي بشعر أمير الدولتين ورجعي
أعيدي على الأسماع ما غردت به براعة شوقي في ابتداء ومقطع
أمير القوافي قد أتيت مبايعا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي


          وما بين قصيدة المبايعة وقصيدة الرثاء يستطيع المتابع لحياتي شاعري مصر الكبيرين أن يكتشف تلك الفرادة التي ميزت علاقتهما الشخصية، وأثرها على شعرية كل منهما على حدة، وهي فرادة ألقت بظلالها على الصورة العامة لكل منهما، لدى جمهور الشعر العربي طوال القرن العشرين. فإذا كان شوقي - ربيب القصور - قد لقب بأمير الشعراء، فإن حافظ قد حاز لقبه الأحب «شاعر الشعب»، ولقبه الآخر «شاعر النيل»، وهي ألقاب تتجاوز معنى التكريم لتكون معيارا نقديا لمسيرة الشاعرين في مسارب الشعر والحياة.

          ولد الشاعر حافظ إبراهيم سنة 1872 م من أب مصري وأم تركية, على ظهر سفينة صغيرة فوق النيل، وبعد أن أتم تعليمه الأولي دخل المدرسة الحربية، حيث تخرج فيها عام 1890 ضابطا برتبة ملازم بوزارة الحربية، ثم عين بوزارة الداخلية عام 1894، وسافر إلى السودان، ومكث في الخرطوم، وكون مع بعض الضباط جمعية سرية وطنية، وحوكم هو وأعضاؤها، وأحيل إلى الاستيداع.

          بعدها عمل في دار الكتب رئيسا للقسم الأدبي عام 1911. وعلى الرغم من أن العمل بين الكتب يعتبر فرصة نادرة بالنسبة لشاعر، فإن حافظ لم يستغل تلك الفرصة كما كان متوقعا منه، حتى قيل إنه لم يقرأ كتابا واحدا من كتب دار الكتب لأسباب ربما تتعلق بسأمه من منظر الكتب المتكدسة في كل مكان حوله، أو لعله نزق الشاعر غير المبالي بتنمية طاقاته الفكرية، مكتفيا بما وهبه الله من ملكة فطرية في قول الشعر، وقوة لافتة في الذاكرة، حيث من المشهور أنه كان يحفظ بيسر شديد آلاف القصائد الشعرية العربية - القديمة والحديثة - ويروي أصدقاؤه أنه كان يقرأ كتابا أو ديوان شعر كاملا قراءة سريعة، ولا يلبث حتى يتمثل أكثره في حديثه وشعره وكتاباته الأخرى. ولعل هذا سبب من أسباب طلاوة الحديث التي كان يشهد له بها كل من عايشه من أصدقائه ومجايليه، بالإضافة إلى حبه للنكتة، حيث تروى عنه على هذا الصعيد الكثير من المواقف الضاحكة، والعبارات الطريفة، والنكات التي ذهب ضحيتها كل من حوله من الأدباء وغير الأدباء. وبالرغم من أن هناك من شكك بمستوى شعريته، مقارنة بشعرية صديقه اللدود أحمد شوقي، فإن أحدا من هؤلاء المشككين لا ينكر جزالة جمله الشعرية، وتراكيبه اللغوية، وحسن إلقائه للشعر بطريقة لم ينافسه فيها أحد من معاصريه، وعلى رأسهم شوقي الذي كان يستعين بآخرين لإلقاء قصائده نيابة عنه.

          ولعل مجد حافظ إبراهيم الأول - شعريا - هو حرصه على أن يكون شعره سجلا لأحداث الأمة، مغلفا بعاطفته الجياشة، وإحساسه الدائم بالغبن واليأس بالرغم من مرح الروح، وإصراره على مداواة الجروح بالمزيد من القوافي، التي كان يرى أنها أحد أحلى اقتراحات اللغة العربية على الإطلاق. وفي قصيدته الشهيرة «اللغة العربية تنعي حظها» شيء من عشق لتلك اللغة، وتجلى شعرا ونثرا وترجمة، حيث ترك قبل أن يرحل - نبيلا ومبتسما وحزينا في الوقت نفسه، بالإضافة إلى ديوانه الشعري الكبير - كتابا في النقد الاجتماعي بعنوان «ليالي سطيح». كما ترجــم رواية البؤساء لفكتور هوجو.

          ومن آثاره الشعرية انتقينا ما ذيلنا به صفحات «العربي» لهذا العدد.

 

سعدية مفرح