في رحاب دار الكتب

  في رحاب دار الكتب
        

«وخير جليس في الزمان كتاب»، هذا هو خلاصة رحلة كاتب المقال الطويلة في عالم الكتب، فليس أفضل من هذا الجليس في مس روحك وتوسيع مداركك وإمدادك بزاد معرفي لا غنى عنه.

          لا أذكر، اليوم، متى وكيف ذهبت إلى دار الكتب المصرية. ولكن من المؤكد أنني بدأت أعرف الطريق إليها منذ السنوات الأولى من الستينيات، وكان ذلك بعد التحاقي بقسم اللغة العربية، واهتمامي بالحصول على أكبر عدد ممكن من المراجع والمصادر التي كنت أستعين بها في كتابة ما يكلفني به أساتذتي من أبحاث، أو ما أكلف نفسي به من اطلاع يتسع بآفاق معارفي التي أسهمت دار الكتب في توسيعها وتعميقها. والمفارقة التي أذكرها أنني كنت أكثر تعلقًا بمكتبة جامعة القاهرة، ربما لأنها الأقرب والذهاب إليها هو الذهاب إلى الكلية التي أدرس فيها. ولم أكن أعدل بالقاعة الشرقية في مكتبة جامعة القاهرة مكانًا آخر. ولكن يبدو أن تزايد نهمي إلى المعرفة، وحرصي على أن أجد ما لا أجده في القاعة الشرقية، هو الذي قادني إلى دار الكتب التي سرعان ما أدهشتني بثرائها الذي لا مثيل له، والذي جذبني إليه شيئًا فشيئًا، فأصبحت من عشاقها ومن مريديها الذين لايكفون عن الذهاب إليها.

          وكان يزيد من غوايتي بدار الكتب أن  الطريق إليها كان يمر بميدان العتبة، حيث حديقة الأزبكية التي يزدحم سورها بأكشاك بيع الكتب التي ظلت لسنوات طويلة زادًا للمعرفة، وكانت تبيع الكتب القديمة، أوالمستعملة، أو التي تخلّص منها الورثة الذين قست قلوبهم فتخلصوا من كتب ذويهم ببيعها إلى أصحاب أكشاك الكتب التي ظلت تحيط بسور الأزبكية من الجهة التي تواجه الأوبرا القديمة، قبل حرقها في زمن السادات. وذلك في تتابع لا ينتهي إلا مع مدخل المسرح القومي. ولاأزال أذكر رحلة الإياب من دار الكتب التي كانت تتوقف طويلا أمام سور الأزبكية، وشراء ما كانت تسمح به ميزانيتي التي تحسنت كثيرًا، بعد أن حصلت على منحة التفوق التي ينالها الحاصلون على تقدير الامتياز، أو جيد جدًا على الأقل، طوال أشهر العام الدراسي. هكذا حصلت من سور الأزبكية  على أغلب دواوين شعراء الإحياء، البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ونسيم والكاشف ومحمد عبدالمطلب وعائشة التيمورية وإسماعيل صبري، بأثمان معقولة. وكنت قد اخترت دراسة الصورة الشعرية في قصائدهم موضوعًا لأطروحتي للماجستير. ولاأزال أحتفظ بهذه الدواوين إلى اليوم، وعلى بعضها أسماء مالكيها الأوائل.

الأزبكية وسورها الشهير

          ولم يكن سور الأزبكية مقصورًا على الدواوين الشعرية فحسب، بل كان يضم كل شيء يمكن أن يتطلع المرء إلى معرفته. وأذكر أنني اشتريت منه ترجمة كتاب «تاريخ مصر» للورد كرومر، كما اشتريت كتابًا نادرًا بعنوان «هدية الإلياذة»، يضم المقالات والقصائد ويغطي الاحتفالات الي أقيمت بمناسبة ترجمة سليمان البستاني إلياذة هوميروس للمرة الأولى في تاريخ الثقافة العربية. ولاأزال أحتفظ بهذا الكتاب ضمن نفائس مكتبتي الخاصة، بوصفه وثيقة دالة على زمن ثقافي جميل، اختفى مع الأسف، وضاع كما ضاعت مكتبات سور الأزبكية التي نقلوها من مكانها، واقتلعوها من جذورها، وذلك في التخطيط الجديد للميدان الجميل الذي كان يضم تمثال إبراهيم باشا، في موقعه أمام الأوبرا. وكان ذلك قبل أن تحترق الأوبرا نفسها، ويحل مكانها - بعد سنوات من الانحدار - جرا سيارات، متعدد الطوابق، قبيح الشكل، دال على تدهور الأيام التي أودت بكل شيء جميل، واقترن ذلك بضياع عدد من المعالم التاريخية لميدان العتبة، ومنها قهوة متاتيا التي كان يتحلق فيها حول جمال الدين الأفغاني تلامذته الذين يحلمون بمستقبل أفضل، لم يروه مع الأسف. وقد جلجلت ضحكات حافظ إبراهيم والبابلي وغيرهما من ظرفاء الأدباء بين جنبات هذا المقهى الذي أزاله تخطيط غبي، مغرم بمحو كل ما هو تاريخي.

          وكان سور الأزبكية المحطة التي أطيل الوقوف بها بعد كل عودة من دار الكتب التي ظلت لسنوات طويلة، وعقود متتابعة، زادًا في المعرفة التي لم أكن أستطيع الوصول إليها في مكتبة جامعة القاهرة، أو على سور الأزبكية التي سرعان ما عرفت بائعي الكتب حوله، وصادقت بعضهم الذين عرفوا اهتماماتي، فكانوا يحتفظون لي بما يتوقعون حرصي على اقتنائه، ولم يكن من الغريب على من لايزال مجنونًا بالكتب مثلي أن يخصص مكافأة تفوّقه الشهرية لشراء الكتب، والتمتع بمرآها، وهي تتكاثر يومًا بعد يوم في الركن الذي خصصته لها، والذي ظل يتسع دومًا. لكن الذي لم يدفعني إلى التوقف عن الذهاب إلى دار الكتب، تلك التحفة المعمارية المبنية على الطراز الإسلامي، يتصدر مدخلها باب ضخم، يفضي إلى سلم طويل، صاعد إلى الدور الأول، فوق الأرضي. وكنت أشعر في كل مرة أرتقي فيها هذا السلم بأني أصعد إلى عوالم من العلم التي تخلصني شيئًا فشيئًا من صخب الطريق الذي كنت أقطعه سائرًا على الأقدام إلى دار الكتب.

          وأذكر أنني كنت أسكن، أيام التلمذة، في غرفة صغيرة فوق سطح منزل متهالك في أحشاء حي الجيزة، أدفع نصف إيجارها مع زميل لي، وسرعان ما استقللت بالغرفة، وظللت فيها إلى أن انتقلت إلى شقة صغيرة في الدور الأرضي بأحد المنازل القديمة، في حارة من حواري الحي نفسه، بعد تعييني معيدًا في القسم الذي تخرجت فيه. وكنت أركب الأوتوبيس من ميدان الجيزة لأذهب إلى ميدان العتبة، بعد مسيرة من المنزل الذي أقطنه. وأنزل في ميدان العتبة، منطلقًا في الشارع الذي يفضي إلى دار الكتب، والمتفرع من الميدان، والمتقاطع مع شارع عبدالعزيز، وأمضي صاعدًا إلى دار الكتب، في المرحلة التي سرعان ما تعودت عليها إلى أن أصل إلى ميدان باب الخلق الذي لايزال يتوسطه مبنى دار الكتب، شاهدًا وعلامة.

راهب العلم

          وأذكر جيدًا أنه كان إلى جانب الدار مقهى، لفت انتباهي إليه، فقد كان يبدو كما لو كان ملحقًا بدار الكتب، أو استراحة للقادمين إليها قبل الموعد. ومع كثرة مروري على هذا المقهى، أخذت ألاحظ وجود أحد أساتذة التاريخ في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وهو المرحوم السيد الباز العريني الذي كنت أراه في ردهات الكلية، وكان الرجل من رهبان العلم الذين لا يشغلون أنفسهم إلا بتحصيل المعرفة التي لا نهاية لها أوحدّ، فكان يبدو لي بمنزلة تجسيد للكلمات المأثورة عن النظام - أستاذ الجاحظ - الذي كان يقول: العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك. وكان هذا الأستاذ في سلوكه وسمعته بين الطلاب نموذجًا للعالم الحقيقي الذي استبدل متعة المعرفة بمتع الحياة ومظاهرها الزائلة. وكنت ألاحظ تباعده عن الناس، ولذلك لم أسع إلى لقائه، أو حتى التعرف عليه، فقد كنت خجولاً إلى أبعد حد، أتجنب لقاء الأساتذة، أو تقديم نفسي إليهم. وكان هو، بدوره، متوحدًا، يميل إلى العزلة والصمت، فلم يكن هناك مجال للتعرف عليه، أو تقديم نفسي إليه. ولكني مع الوقت أخذت ألاحظ أن الدكتور العريني كان يسبقني في الوصول، دائمًا، إلى دار الكتب، وأنه يذهب مبكرًا، قبل الموعد الرسمي للافتتاح بوقت يقصر أو يطول، وأنه يجلس دائمًا إلى طاولة يفرش عليها أوراقًا يراجعها، وهو منكب عليها في اهتمام ينسيه كل ما حوله، سواء بقايا ضجيج امتداد شارع محمد علي، أو شارع دار الكتب، كما كنا نسميه في ذلك العهد، وكان يضع إلى جواره على الأرض، دائمًا، حقيبة جلدية سوداء، حال لونها، ولكنها كانت مكتظة بالكتب التي يحملها معه، ربما ليردها إلى دار الكتب التي كانت تعرف نظام الإعارة الخارجية في ذلك الزمان البعيد.

          وظللت أراقب هذا العالم الجليل كلما وصلت إلى مبنى دار الكتب قبل موعد فتحها، وأختار لنفسي ركنًا ظليلاً، أنتظر فيه إلى أن يحين موعد الافتتاح، ولا أجرؤ على الجلوس في المقهى الذي يجلس فيه الأستاذ، وأظل أختلس النظر إليه، وهو منكب على مراجعة أوراقه، زاهدًا عن الدنيا والناس، إلى أن يحين موعد فتح أبواب الدار للجمهور، فيلملم أوراقه، ويضعها في الحقيبة المكتظة، وينطلق إلى باب دار الكتب. وكنت أتوهم أن لديه ساعة توقيت داخلية، تنبهه دون أن ينظر في ساعته إلى موعد بداية العمل، فينهض تلقائيًا، متوجهًا إلى الدار، ويكون أول الداخلين إليها. ولاحظت بعد ذلك أنه ظل آخر الخارجين منها. وقد بهرني الرجل الذي رأيت فيه نموذج العالم الذي حلمت أن أكونه، وأخذت أتصور نفسي مثله، في يوم من الأيام، لا أهتم بأناقتي بقدر ما أهتم بما أحمل من كتب أو بما أعمل فيه من كتب.

          وبالطبع، كان لابد من سؤال زملائي في قسم التاريخ عنه، فعرفت أنه أفضل متخصص في تاريخ العصور الوسطى، وأن له كتابًا لا نظير له عن الدولة البيزنطية، وكتابًا بالغ الأهمية عن الإقطاع في أوربا، فضلا عن كتاباته عن الحروب الصليبية التي كان حجة فيها. وقد عرفت أنه ترجم عن الإنجليزية كتاب ستيفن رانسمان عن تاريخ الحروب الصليبية، ويقال إنه أهم مرجع في الموضوع إلى اليوم، وله - فضلاً عن ذلك - عشرات الأبحاث المنشورة في الدوريات العلمية المختصة والعديد من الكتب التي تشهد بعلو قامته العلمية.

          وكان انبهاري به يزداد كلما سمعت عنه المزيد من كلمات الإعجاب والتقدير، حتى انجذبت إليه، كما تنجذب الفراشات إلى النور. وصرت أذهب أبكر من موعد الافتتاح لأظل أرقبه، وهو يراجع أوراقه ويندفع حاملاً حقيبته السوداء أو المكتظة، ليكون أول الداخلين إلى الدار، وكنت أتبعه بما لا يجعله يراني، وأدخل وراءه، صاعدًا السلم الطويل الذي يبدو فاصلاً بين جناحين. وكان يعرّج أحيانًا على قاعة القومية العربية التي كانت تقع إلى اليسار في نهاية السلم الطويل، وكانت مكتظة بالمصادر والموسوعات الأساسية، فأجلس مثله، غير بعيد عنه، وأتلصص على المصادر التي كان يحملها من الأرفف إلى مكانه، متخيلاً أنني لو عملت ما يعمله، فسوف أكون مثله في يوم من الأيام. وقد التقيت في هذه القاعة بعدد من أساتذتي الذين أنست إليهم، والذين لم يتوقفوا عن تشجيع تلامذتهم. وكان منهم المرحوم د.محمد عبدالهادي أبو ريدة المتخصص في الفلسفة الإسلامية الذي ترجم كتاب دي بور عن هذه الفلسفة، وكانت تعليقاته على الكتاب أهم من متن الكتاب في أحيان كثيرة، وهو الذي ترجم كتاب فلهاوزن عن «الدولة العربية» الذي لايزال أفضل ما كتب عن الدولة الأموية، فضلاً عن كتاب آدم متز الشهير عن الحضارة العربية.

          ولكن ظلت صورة المرحوم السيد الباز العريني هي الصورة التي تهوّست بها لما كان يحيط به من غموض، فيما تخيلته في ذلك الزمن البعيد. ولذلك ظللت أتابعه بعيني، إما قاصدًا قاعة القومية العربية أو مارًا بها، ماضيًا في طريقه إلى اليمين ليسير في المجاز الطويل الذي يوصله إلى قاعة قراءة الكتب الأجنبية، وبفضل متابعتي له، وتقليدي إياه، عرفت دهاليز دار الكتب وطرقاتها وقاعاتها، كما عرفت أهم المكتبات التي تحتويها، خصوصًا بعد أن عرفت أن رصيد الكتب يحتوي مكتبات تبرع بها أصحابها، أو تبرعت بها عائلاتهم، لحفظها من ناحية، أو إتاحتها لراغبي المعرفة من ناحية ثانية. هكذا عرفت المكتبة التيمورية التي كان يمتلكها العلامة أحمد بن إسماعيل بن محمد تيمور المشهور بأحمد باشا تيمور. وقد ولد بالقاهرة سنة 1288 هـ/ 1871م، وهو من بيت فضل وعلم، مات أبوه وعمره ثلاثة أشهر فكفلته ورعته أخته عائشة التيمورية الشاعرة الكبيرة.

عاشق الكتب

          وقد ورث الرجل عشق الكتب من تقاليد أسرته، وعندما توفيت زوجته، وهو في التاسعة والعشرين من عمره، لم يتزوج بعدها، مخافة أن تسيء الزوجة الجديدة إلى أولاده، وانقطع إلى خزانة كتبه، ينقب فيها ويعلق ويفهرس ويؤلف، وظل بقية حياته راهب علم إلى أن توفي سنة 1248 هـ/1930م. وتألفت بعد وفاته لجنة لنشر مؤلفاته تعرف بـ «لجنة نشر المؤلفات التيمورية» أخرجت العديد من مؤلفاته. وقد ترك الرجل مكتبة عامرة بالمخطوطات النادرة ونوادر المطبوعات (نحو 19527 مجلدًا و8673 مخطوطًا) أهديت إلى دار الكتب بعد وفاته ولاتزال هذه المجموعة ثروة نادرة تغتني بها دار الكتب. وكانت معرفتي بها أنني أجد في نوادر المطبوعات أو عناوين المخطوطات الرقم الذي تتبعه كلمة «تيمورية». ولفتت الكلمة انتباهي، فسألت إلى أن عرفت ميزة هذه المجموعة الهائلة، خصوصًا بعد أن عرفت أن دار الكتب قامت بطبع الفهارس الأربعة الأولى من مجموع فهارس المكتبة التيمورية، فأتاحت للمترددين عليها مصدرًا مهمًا للمعرفة العامة وللتحقيق على سواء، فما أكثر المخطوطات النادرة التي وقع عليه المحققون في المكتبة التيمورية وتولوا نشرها نشرًا علميًا يشهد بكفاءة كل منهم، حسب مستوى التحقيق المبذول.

          ويبدو أن العائلة التيمورية استنّت سنة حميدة بإهداء مكتبة عالمها إلى دار الكتب، فتتابعت الإهداءات التي تحتل، اليوم، قاعة المكتبات المهداة التي تتبع إدارة خاصة أخيرًا.

          وتضم المكتبات الخاصة والمهداة حوالي مائة وتسعين ألف عنوان، أبرزها - إلى جانب التيمورية التي تصل إلى 15415 عنوانًا - مكتبة عباس محمود العقاد التي تضم 18600 عنوان وعبدالرحمن الرافعي التي تتكون من 2564 عنوانًا ومعها أربعمائة دورية، ومثلها مكتبات حسن عباس زكي، ومحمود البدوي، وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) وتوفيق الحكيم، وفتوح نشاطي، وعبدالرحمن صدقي، ومكتبته من المكتبات الكبيرة التي تضم 20552 عنوانًا، وأضف إلى ذلك المكتبات المهداة قديمًا مع تأسيس الدار (3166 عنوانًا) التي بدأت عملها في بدروم قصر مصطفى فاضل بدرب الجماميز، واستمرت هناك إلى أن انتقلت إلى مقرها الدائم في باب الخلق، وكان ذلك قبل الشروع في بناء المبنى الأخير خلال العهد الناصري. وقد احتفظت دار الكتب - في عهودها المختلفة - بالإهداءات القديمة التي ضمت مجموعات مصطفى فاضل التي اشتراها أخوه الخديو إسماعيل، فضلاً عن مجموعة قولة التي جمعت في عهد محمد علي، وكذلك مجموعة الشنقيطي، ومحمد عبده وغيرهم وغيرهم.

          ولم أكن أعرف في ذلك الوقت أن دار الكتب تضم ألبومات ولوحات نادرة للأسرة العلوية المالكة، كما تضم نماذج من العملات القديمة التي هي كنوز نادرة، فلم يكن يعنيني في ذلك الزمن البعيد سوى الكتب. ولاأزال أذكر وقفاتي الطويلة أمام الفهارس في أدراجها العديدة التي كنت أفتحها درجًا درجًا،، لأعرف عناوين الكتب التي تضمها فهارس الموضوعات، أو أسماء المؤلفين، وقد تعوّدت الانطلاق على سجيتي في ذلك الوقت، وأقضي الساعات متنقلاً بين العناوين والأسماء دون هدف محدد إلا معرفة المزيد من أسماء المؤلفين والعناوين التي يمكن أن أستفيد منها، فإذا أشبعت فضولي في هذا الجانب، أختار أرقام الكتب التي جذبتني إليها أكثر من غيرها، وأدخل إلى قاعات القراءة، بعد ملء الاستمارات برموز وأرقام وعناوين الكتب المطلوبة، وأنتظر طويلاً و قصيرًا إلى أن يأتيني ما طلبت، وأبدأ في القراءة، حريصًا على تقمص شخصية النهمين إلى المعرفة من أمثال السيد الباز العريني الذي أكاد أراه - بعيني خيالي - وأنا أكتب هذه الكلمات، جالسًا إلى ركن لا يغيره، مستغرقًا في ملكوت العلم الذي حلمت بأن أكون بعض كائناته وأتباعه، أو حتى دراويشه.

عشق للإبداع

          ويبدو أن عرامة الشباب، داخلي كانت تتمرد على صرامة الكتب العلمية، أحيانًا، فألجأ إلى الأعمال الإبداعية، ولاأزال أذكر قراءتي الأولى المحبطة لعائشة التيمورية، أخت تيمور التي رعته بعد وفاة والده، فقد كان شعرها تقليديًا، لا روح فيه إلا فيما ندر، وكان لها ديوان منشور بعنوان «حلية الطراز» ملحق به عدد من الدراسات حول شعرها، وأحسبني عرفت اسم ميّ زيادة للمرة الأولى، وخبرت طريقة كتابتها من دراستها لديوان عائشة التيمورية، وعندما أمل هذا النوع من الشعر، كنت ألجأ إلى القص والرواية، وكان متاحًا الكثير الذي يجمع بين كتابات محمود تيمور وأبناء جيله، انتهاء بالجيل الشاب الذي كان يمثله نجيب محفوظ.

          وأطرف ما أذكره إلى اليوم هو تعليق القرّاء على هذه الأعمال بالقلم الرصاص أو القلم الحبر، ذلك لأن القرّاء لم يكونوا يكتفون بالقراءة، وإنما كانوا يضيفون إليها انفعالهم بما قرأوا وتعقيبهم عليه. ومن الطريف أن يكون تعليق القارئ الأول سلبيًا، فيأتي بعده القارئ الثاني برأي نقيض، وقد يأتي قارئ ثالث برأي مختلف. وأشهد أنني كنت أجد متعة في قراءة هذه التعليقات التي تمنيت - فيما بعد - أن أقوم بدراستها، وأحدد من خلالها نوعية المجموعات القرائية وأذواقها، مستفيدًا من نظريات الاستقبال. وهي النظريات التي لم أكن أعرف عنها شيئًا في ذلك الزمان، لكن فضولي بمعرفة اختلاف التعليقات كان يدفعني إلى ملاحظة ما تنطوي عليه من حوار غير مباشر، وأعترف أنني كنت أسهم في هذه التعليقات، خلسة، وبعد التأكد أنه ما من أحد يراني أو ينتبه إلى ما أفعل. وبالطبع دون أن أكتب اسمي أو عنواني كما أعتاد بعض القرّاء من المعقبين.

          وأحسبني ظللت محصورًا في دائرة قاعات القراءة العربية لزمن غير قصير، لا أفارقها إلى قاعات القراءة الأجنبية أو المخطوطات إلا فيما ندر. وكانت قاعة المخطوطات - فيما أذكر - تبدأ بباب يفضي إليها من خلال القاعة الكبيرة، وظللت طويلاً أتهيب الدخول إليها، إلى أن طلب مني أستاذي مصطفى السقا، رحمة الله عليه، أن أذهب إلى هذه القاعة لأراجع له شيئًا يريد تحريره، وأوصاني بالذهاب إلى المرحوم فؤاد السيد - والد الدكتور أيمن فؤاد السيد الذي مضى في طريق والده وأصبح من كبار المحققين.

          وبفضل المرحوم فؤاد السيد تعلمت عن عالم المخطوطات ما لم أكن أعرفه من قبل، واستمعت منه عن نشر المخطوطات وتحقيقها الكثير، وذلك قبل سنوات عديدة من تتلمذي على المرحوم عبدالسلام هارون الذي درّس لنا فصلاً دراسيًا كاملاً، في معهد البحوث والدراسات العربية، عن تحقيق المخطوطات، وأحال محاضراته لنا إلى كتاب أصبح مطبوعًا بالاسم نفسه.

لمِصرَ أم لرُبُوعِ الشَّأمِ تَنْتَسِبُ هُنا العُلا وهُناكَ المجدُ والحَسَبُ
رُكْنانِ للشَّرْقِ لا زالَتْ رُبُوعُهُما قَلْبُ الهِلالِ عليها خافِقٌ يَجِبُ
خِدْرانِ للضّادِ لَم تُهْتَكْ سُتُورُهُما ولا تَحَوَّلَ عن مَغْناهُما الأدَبُ
أمُّ اللُّغاتِ غَداةَ الفَخْرِ أَُمهُما وإنْ سَأَلْتَ عن الآباءِ فالعَرَبُ


حافظ إبراهيم

 

جابر عصفور