من المطار

  من المطار
        

          فارقت مقاعد الدراسة حينما كنت في المرحلة الابتدائية. لم ينفع معي التشجيع الكبير الذي لقيته من عائلتي وأهلي. الدروس أصابتني بالملل والاشمئزاز. لم يبق لي من ذكريات المدرسة سوى حادثة واحدة، ما زالت تطاردني كالكابوس. كانت هناك مدرسة بنات على مقربة من مدرستنا. كنت أرى الطالبات أمام المدرسة وأعجب بالزي الأزرق الذي يلبسنه، وأشعر بسعادة لا أعرف كنهها عندما أتلصص بالنظر على الطالبات وهن يلعبن في فناء المدرسة. في أحد الأيام انتظرت إحدى الطالبات أمام بوابة المدرسة وتحدثت معها. شعرت بضربة مباغتة ومؤلمة على ظهري. نظرت إلى مكان الهجوم ورأيت مدير المدرسة. كان يحمل في يده سوطا طويلا. كان الشرر يتطاير من عينيه. صاح في وجهي: يا قليل الأدب، يا فاشل. جريت من المكان. لم أفهم مغزى ما جرى إلا بعد زمن طويل.

          عند تركي مقاعد الدراسة لم يتعد عمري السنوات العشر. بعد خمس سنوات التحقت بأول وظيفة في حياتي المهنية، كمساعد سمّاك في واحد من قوارب صيد السمك العاملة في عرض البحر قبالة ميناء السلطان قابوس في مسقط. كنت على وشك أن أترقى لمرتبة صياد، لكنني تركت الوظيفة لأنها شاقة وتتطلب الصبر على مغادرة سرير النوم عند الفجر وتحمّل رائحة السمك النتن. التحقت بوظيفة مساعد قائد في القوارب السياحية الصغيرة التي تعمل في ولاية مطرح بمحافظة مسقط العاصمة. أذهب مع أهل البلد والأجانب للتنزه في عرض البحر والجزر المتفرقة. استمتعت برؤية النساء عن قرب وإطلاق العنان لخيالي حول الارتباط بواحدة منهن. كنت منذ صغري مغرما بالنساء والحياة الوردية الجميلة معهن، وجاءت الفرصة للتقرب منهن والحديث إليهن.

          أثناء عملي في قوارب السياحة، تزوج أحد أقربائي من بنت عمه حسب الأصول والأعراف. كان رجلا شهما وكانت امرأة توزن بالذهب والفضة، إلا إن الزواج انتهى بالطلاق بعد خمسة وأربعين يوما لا أكثر. سرت أقاويل في الحي أنهما لم يتوافقا في الحياة الزوجية. لم أفهم ما هي المشكلة التي سببت الفراق بينهما. على كل حال، عاهدت نفسي أن أخالف عادة الفتيان ممن يتزوجون بالأسلوب التقليدي الذي تقوم الأسرة خلاله بالتخطيط والتنفيذ. سأتزوج شريكة حياتي بعد الاقتناع بشخصيتها والوقوع في حبها. إنني أتوق للارتباط بزوجة مختلفة عن النساء التقليديات، كبنات عمي وخالي وبنات الجيران في الحي الذي ترعرعت فيه. أرفض الزواج من نساء لا هم لهن سوى الانغماس في الحياة المنزلية، والكثير منهن لا يعرف القراءة والكتابة. أحب زوجة فيها تطلع ومرح وشغف للحياة، ولها المقدرة على توظيف علمها وفكرها للوصول بي لآفاق بعيدة وأحلام وردية. ليتني أتزوج من المدرسات المصريات والسوريات والسودانيات العاملات في السلطنة. لي تحفظات على فكرة منع العمانيين من الزواج بأجنبيات، لكن من الممكن الهروب مع مدرسة مصرية للقاهرة والزواج منها هناك ثم الرجوع للعيش في عمان. لا توجد مشكلة لأنها عربية ويمكن لها لبس الملابس التقليدية والاندماج في المجتمع. إذا غيّرت لهجتها قليلا فلن يلاحظ أحد الفرق بينها وبين العمانيات. وللتأكيد على صحة موقفي، يمكنني الادعاء أن أمها مصرية أو أردنية أو سودانية. امرأة كهذه ستكون قادرة على إعطائي الفرصة لأفهم العالم على الوجه الصحيح وأتذوق معاني الأغاني التي أسمعها في المذياع والأسطوانات. أتباهى بها أمام أصدقائي. أطلب منها أن توجّه أولادي حسب الأصول التربوية الحديثة. أذهب معها لبلادها حيث أتعرف على معالم ومجتمعات جديدة.

          كلما كبرت، زادت علاقتي بالنساء قوة وعمقا. موقفي هذا دفعني لتطوير نفسي ومهنتي والتخلي عن التنقل من وظيفة لأخرى. واصلت العمل في قيادة القوارب السياحية حتى بلغت الثلاثين من العمر. دخلت في العديد من التجارب مع الجنس الآخر. كانت محاولات من جانب واحد لا فرصة لها في النجاح، مثل السراب، تراه ثم يختفي دون وداع. كان ذلك الفشل وراء تركي للعمل في القوارب السياحية.

          طلبت من والدي مساعدتي بشراء سيارة أجرة لأعمل عليها، بدلا من الاعتماد على المعاش الشهري. لم يكن والدي متحمسا للفكرة، بسبب الفقر الذي يعانيه وعدم اقتناعه بمقدرتي تحقيق النجاح. كان يعتبر مشروعي محاولة أخرى تنتهي بالفشل والإحباط وضياع المال. لا ألوم الوالد، بعد كل تلك الأعمال والوظائف لم أستطع أن أوفر حتى ولو ريالاً واحدًا. كنت أضيّع مالي في التدخين والمكيفات والعطور والملابس والأحذية. أعطي القليل منه لوالدتي لتصرفه على بعض متطلبات البيت. استعملت كل الأسلحة وضغطت على أمي للتوسط وإقناع الوالد المسكين. في وجه الضغوط الشديدة والمتواصلة، باع الوالد قطعة أرض يملكها في جبروة وأعطاني المبلغ المطلوب. اشتريت السيارة واستخرجت لها التصاريح المطلوبة وبدأت العمل كسائق سيارة أجرة في محافظة مسقط. لم أنس أن أعلّق أمام مقود سيارتي صورا لنساء تشبه فتاة أحلامي وشريكة حياتي المستقبلية، وكنت أقود السيارة في شوارع المدينة بحثا عن تلك المرأة الخيالية. لكل مجتهد نصيب.

          أعمل على الطريق الرئيس الذي يربط بين السيب ومسقط، مرورا ببوشر والخوير والوطية. أبدأ عملي في الصباح الباكر بأخذ الركاب من الأحياء المختلفة وإيصالهم لأماكن عملهم، وعند التاسعة صباحا أذهب لمنطقة الحيل وأوصل إحدى زبائني لمقر عملها في المستشفى السلطاني حيث تعمل كممرضة. تعرفت عليها عن طريق أحد الأصدقاء الذي طلب مني القيام بتوصيلها مقابل مبلغ شهري يصل ثلاثين ريالا. اسمها زهرة، فتاة جادة وهادئة الطبع، لم يزد عمرها على العشرين عاما. مع مرور الأيام بدأ شعوري تجاهها يتغير وبدأت أنجذب إليها عندما أرى عينيها السوداوين وقوامها الممشوق وأسمع حديثها العذب. كلما تركب السيارة أشعر وكأنها تدخل سويداء فؤادي ومهجة روحي. ملكت علّى حياتي واستحوذت على كياني ووجداني، لدرجة لم أستطع الاستمرار في كتمان ما بداخلي من حب ووجد. أبتسم عندما افتح لها باب السيارة وأسمعها أغاني الغرام بينما نكون على الطريق في الصباح والظهر. أوظف أغاني العرب والهنود والأوربيين كإشارات للحب المكتوم. في أحد الأيام، أخبرتني زهرة بعدم رغبتها في الذهاب للعمل. ما كان منى سوى الاتصال بها في المستشفى حيث أخبروني أنها تستعد للزواج. صدمني الخبر وفطر قلبي كأن عقربا لدغتني. في يوم سمعت في المذياع أغنية للمطربة الكويتية رباب بعنوان «جت أبارك» فشعرت أن كلماتها تصف حالي تماما، لذا واصلت في الاستماع لها حتى وقعت في غرام جديد. زهرة نصف متعلمة وما كانت ستفهمني وترضي طموحي، هكذا بررت الموقف لنفسي. ثم اتخذت خطوة عملية بترك العمل على طريق السيب - مسقط لأنه مليء بنساء مثل زهرة، لا يأتي منهن سوى الكساد والفشل. حولّت نشاطي للمطار وانتظار الطائرات القادمة من الدول العربية والأوربية لنقل القادمين إلى وسط المدينة. فضّلت ذلك، على الرغم من الانتظار الطويل والعنت الذي أتعرض له، لأن المطار شريان دولي يأتي بنساء من مدن بعيدة وغريبة. وقفت في طابور لسيارات الأجرة اصطف بعد منتصف الليل. كنت في حالة ترقب لا تخطئها العين، أطرد النعاس وأقاوم الملل. وفجأة خرجت من باب صالة القادمين فتاة أوربية الملامح، تحمل حقيبة وأكياس مشتريات من السوق الحر وتجر رجليها من التعب والإعياء. دفعت بأغراضها في يدي واتجهت بسرعة نحو باب السيارة وتربعت على المقعد الأمامي. قلت لها، مستعملا لغتي الإنجليزية الضعيفة، أنت محظوظة أن وجدتِ سيارة في انتظارك. ردت: سمعت ما قلته لي، أرجوك أن تغادر المطار فورا وتأخذني إلى أي مكان تريد. أصابتني دهشة غير مسبوقة. هل هذا الكلام نتيجة التعب والنعاس أم محاولة للإيقاع بي؟ هذه فتاة أوربية تطلب تقرير مصيرها وتحديد الوجهة التي تقصدها. أول عمل قمت به هو التلفت يمينا وشمالا ومسح المنطقة كالرادار للتأكد من عدم وجود شرطة تقوم بمراقبتي. ربما تكون الشرطة قد أرسلتها كطعم للقبض على سائقي سيارات الأجرة الذين لا يلتزمون بالقانون في معاملة المسافرين الأجانب. أيقنت أنني لو تحركت فسيلقى القبض علّى وأودع السجن. لكسر هذا الترقب، أخرجت علبة السجائر وقدمت لها سيجارة لكنها رفضت أخذها وقالت: أرجوك تحرك الآن. أشعلت لنفسي سيجارة وأخذت منها نفسا عميقا كي أبدد الخوف الذي يهدد كياني ووجداني.

          قررت السير في طريق وعر ومحفوف بالمخاطر على الرغم من احتمال الورطة. بداخلي دافع قوي ورغبة جامحة، خرجت من موقف السيارات في المطار في الساعة الثانية صباحا وقدت على الطريق السريع الذي يصل نهاية المدينة، قاصدا شقة احد أصدقائي التي تقع على الشارع البحري في ولاية مطرح. يسكن صديقي الأعزب بمفرده، لذا كنت على يقين من موافقته على استضافتي، على الرغم من وضعي المريب. لم أتبادل مع فتاتي الشقراء أي حديث وقلت لنفسي: الصمت أبلغ في مثل هذه الحالة المشحونة بشتى الاحتمالات.

          وصلت البناية وركنت العربة في مكان قريب. نزلت وصعدت السلالم بينما كانت الفتاة تمشي خلفي وكأنها شخص مسلوب الإرادة أو تحت تأثير التنويم المغناطيسي. ربما الفتاة المسكينة لا خبرة لها بالسير في الظلام. طرقت الباب فأطل صديقي من النافذة وهو يفرك عينيه من أثر النوم. صاح وهو يجري على الدرج: هذا جنون يا رجل. أوعزت له بأن يخفض صوته مخافة إيقاظ الجيران. دخلنا وجلسنا في غرفة الضيوف التي كانت مليئة ببقايا الأكل وعلب السجائر والقوارير. أنا وصديقي نمنا في غرفة الضيوف وتركنا غرفة النوم لضيفتنا. نامت دون أن تتكلم معنا. شهرزاد الأوربية لا تتكلم بالليل.

          صباح اليوم التالي لم أذهب للعمل وفضّلت البقاء جوار غزال الريم النائمة، حتى استيقظت بعد الظهر. لم يغب عني ملاحظة طول شعرها المسدل على كتفيها وعينيها الزرقاوين الواسعتين. طلبت مني سيجارة وفنجان قهوة، فأسرعت في تلبية طلبها. الفتاة العمانية والعربية تطلب بعض الخدمات، بينما الأوربية تطلب تعاونا كاملا من الرجل. لا أمانع في تقديم خدمة خمس نجوم، تشمل الطعام والغسيل والتنظيف. يجب علّى كسب رضاء الحبيب وعدم إضاعة الفرصة. اقتراني بهذه الفتاة سيجنبني الملل الذي يحدث للكثير من أصدقائي المتزوجين. بعد تناولها القهوة، أشعلت سيجارة وذهبت للشرفة وبدأت تنظر لشاطئ الشارع البحري وعرض البحر والسفن وقوارب الصيد، وهي تردد: هذا رائع. لاحظت إنها تنظر بتمعن في أوجه الناس الغادين والرائحين وتفكر مثل شخص يحدث نفسه. لم أستطع فهم ما يدور في ذهنها لأنني كنت مشغولاً بجمالها الذي ازداد تألقا ورونقا.

          فكرت أنها ربما تكون جاءت معي لكي أساعدها في حل معضلة اللغة والتخاطب مع التجار في الأسواق. بعض السياح يأتون لمسقط ويزورون محلات الصناعات التقليدية لاقتناء التحف والهدايا. إذن من المستحسن أن أقوم بمجهود سريع لتقوية لغتي الإنجليزية. كنت أتحدث من حين لآخر الإنجليزية مع الهنود الموجودين بكثرة في البلاد، انطباعي أنها من أسهل اللغات على وجه الأرض. غادرت الشقة وتوجهت لأقرب مكتبة ثم عدت وأنا متسلّح بأحسن قاموس عربي-إنجليزي أنتجته المطابع. بدأت بمسألة الاسم. فتحت القاموس على الصفحة التي فيها كلمة اسم ووضعت إصبعي عليها. نظرت الفتاة وضحكت باندهاش وردت علّى: لمي. البلد الذي جاءت منه هو هولندا. بدأت مغاليق التفاهم بيننا تنفتح، بفضل القاموس وفناجين القهوة وبساطة لمي وتعاملها معي دون عقد ولا تكلف. لم تهتم بوضع الشقة والملابس المبعثرة في كل مكان. غاب صديقي من المسرح فلم تنزعج وتلح في السؤال عنه. أوصلت لها خوفي من أن يراها أحد الجيران. فهمت المسألة وبدأت تختفي خلف الستارة كلما مر شخص من تحت الشرفة، ثم ما تعاود الظهور. بقينا على هذه الحالة ليلة أخرى. كنت متأكدًا أن أهلي يبحثون عني، لكنني لم أكترث لأي حدث يدور خارج الشقة.

          بدأت أوطن نفسي على العيش مع أميرة قلبي. رتبت الشقة ونظفت أرضيتها وغسلت الستائر. استبدلت شراب الفمتو الذي تعودت عليه بشراء المياه المعدنية، لاعتقادي أنها ترطب البشرة وتجدد الشباب. اشتريت كميات كبيرة من الفواكه والخضروات وقليلاً من اللحوم الحمراء وقللت من جلب اللحوم الدسمة والأرز والخبز، لأن ذلك هو الطعام الذي تحبه لمي. تنازلت عن الأكل الذي تربيت عليه منذ صغري، مثل مرق الدجاج واللحم. صبرت على الجوع والطعام الخالي من الملح وعلى (عدم؟) تناول القهوة العمانية الخالية من السكر والحليب. أقسى من ذلك، امتنعت عن زيارة أهلي وأصدقائي وتوقفت عن الذهاب للأماكن العامة.

          في أحد الأيام، استفسرت من لمي عن السبب الذي دفعها لترك حياتها الهانئة، بمرحها ورقصها وموسيقاها، والعيش في شقة بائسة قرب سوق السمك. ذكرت لي أنها باحثة متخصصة في علم الأجناس البشرية، اختارت عمان لتنفيذ بحثها لأنه المكان المناسب. وأضافت: عندما وصلت مطار السيب فقدت كل حقائبي وفيها أغراضي وكتب تهم البحث. عندما قابلتك كنت في غاية الغضب وقلت لنفسي لأذهب لأي مكان، حتى جهنم، للاستقرار وإنجاز بحثي. وقد ساعدتني كثيرا بمعاملتك اللطيفة وتعاونك معي.

          سررت من هذا الكلام وشعرت بصدقها فيما تكنه لي من تقدير، إلا أن هنالك أمورًا عديدة تحتاج لمعالجة وحسم. من ناحيتي، أنا أبحث عن المحبة والمشاركة في الحياة بخيرها وشرها. من ناحيتها، لا يمكن مواصلة البحث تحت الغموض والتعتيم. ذكرت لها أن طبيعة المجتمع المحافظ في بلادي لاتسمح لنا بالمعايشة دون رباط مقدس، لذلك من الواجب علينا الزواج على كتاب الله وسنة رسوله. لدهشتي وسروري ردت بالموافقة دون أدني تردد.

          بقيت معضلة كبيرة أمام إتمام الزواج. يجب علّى الحصول من السلطات المسئولة على تصديق زواج من امرأة أجنبية. فكرت أياماً بلياليها. استيقظت ذات صباح على خطة تحمل الحل في طياتها. عرضتها على لمي فوافقت على الفور. عرضتها على صديقي فوافق على تقديم المساعدة. بدأنا في التنفيذ.

          ذهبت لسوق مطرح واشتريت ملابس تقليدية كاملة، مثل العباءة والفستان الطويل والبرقع. قامت لمي بلبس الملابس التقليدية وغطت وجهها. نظرت إليها فبدت لي تشبه النساء العربيات. بدأنا في تنفيذ الخطة برحيلنا من مطرح وذهابنا للعيش في إحدى ولايات المنطقة الداخلية. استأجر صديقي عبد الله منزلا وأقنع الجيران أن لمي ابنته. أخبرت أهلي أنني أعمل على خط المواصلات بين مسقط ودبي. بعد عدة شهور ذهب صديقي عبد الله للقاضي المحلي وطلب منه عقد قران ابنته أصيلة، التي هي لمي، علّي، وقد فعل القاضي بعد طرح أسئلة بسيطة وتقليدية ليس فيها أي بذور شك أو ريبة. حياتنا لا تختلف كثيرا عن حياة رجل وامرأة حديثي العهد بالزواج. أذهب لعملي في سيارة الأجرة وأعود للبيت لأجد لمي في انتظاري. نتناول الأكل ونستمع للأغاني الخليجية والعربية والأوربية. كانت لمي تجلس على حاسوبها وتدون بعض المعلومات. أحيانا تسألني عن بعض العادات والتقاليد المحلية، فأجيبها حسب علمي. في الحقيقة، تحسنت لغتي الإنجليزية كثيرا. تعلمت لمي اللغة العربية في زمن قصير للغاية. لم أكن مقتنعا بالقيام بأعباء المنزل وبعدي عن أهلي، وكنت أشعر بالغيرة من انشغالها عني بالكتب والحاسوب. عندما أطلب منها ترك الكتابة والتحدث معي، تقول لي بلغتها العربية المحببة « خلاص، كلاس». لكنني كنت سعيدا بزوجتي ووضعي. لم تطالبني بالبيت الفخم والسيارة المريحة والذهب الذي يثقل اليدين والرقبة والرجلين. ومما أثلج صدري السعادة التي تبدو على وجه زوجتي وتفاعلها مع المجتمع الذي نعيش فيه. تحققت هذه السعادة ونحن تحت ستار كثيف من الكتمان حول هوية لمي خوفا من تنبيه الجهات المسئولة لمخالفتي قانون منع الزواج من الأجنبيات.

          بعد مرور ستة أشهر ونحن على هذه الحالة من السعادة والهناء فكرت في مفاتحتها في موضوع إنجاب الأطفال. أبديت لها رغبتي الأكيدة في تكوين أسرة وشرحت لها أهمية الأطفال خاصة في مجتمعنا الشرقي والعربي. ذكرت لها معرفتي بفكرة تنظيم الأسرة الموجودة في المجتمعات المتقدمة، لكن الأمر مختلف بالنسبة لي لأن حب الأطفال وتربيتهم جزء مهم في وجداني ومفاهيمي الاجتماعية والنفسية. كان ردها لي سالبا ومحبطا. أفهمتني أن لا رغبة لها إطلاقا في إنجاب أطفال لأن العالم، حسب منطقها، مليء بالأطفال ولا داعي للمزيد منهم. قالت إن معدل عدد الأطفال عندهم لا يتعدى الثلاثة لكل أسرة، على الرغم من مساعدة الدولة المادية والصحية والتعليمية للأسر المنجبة. بعد إلحاحي المتواصل عليها طرحت علي فكرة في غاية الغرابة وهي أن نتبنى أحد أطفال الجيران. هناك عدد كبير من الأطفال في الحارة وجارنا باطيء بيته مزدحم لدرجة انه لا يعرف أسماء أولاده. إذا طلبنا منه ابنه نعيم البالغ ثلاث سنوات من العمر ليعيش معنا، فلن يمانع لأن ذلك سيقلل عبء المعيشة عليه والولد يلقى عناية كبيرة مني ومنك. أوضحت لها سخافة الفكرة التي طرحتها، من النواحي الدينية والاجتماعية. الناس في بلدي لا يتنازلون بهذه السهولة عن أطفالهم مهما كبر عددهم وصعبت أعباء الحياة. يقومون بواجبهم تجاه أسرهم على الوجه الأكمل من رعاية وعناية وتربية ومعيشة، كل حسب مقدرته، والرازق هو الله وحده. لا تخلطي الأمور وتقارني بين مجتمعكم ومجتمعنا، لكل واحد حكمه وظروفه. أعجبت من مقدرتي في تقديم هذه المرافعة في الدفاع عن تقاليدنا وعاداتنا، ومن حقيقة أن لي زوجة مثقفة أستطيع الدخول معها في نقاش حول الأسرة والمجتمع والحياة المشتركة. هذا هو النجاح الذي طالما تقت للوصول له والتمتع به.

          يبدو أن مرافعتي كانت قوية ومقنعة. لم تعد تتحدث عن المسألة من هذه الزاوية. اتجهت لخلق أعذار شخصية تتعلق بظروف عملها. أود أولا الانتهاء من البحث الذي أقوم به. مهمة جئت لأجلها من على بعد آلاف الأميال. بعد ذلك نلتفت لموضوع الأطفال. إنجاب الأطفال يتطلب حملاً طويلاً يعقبه تعب التنشئة والرعاية. من الذي سيقوم بكل هذا؟ أنا مشغولة في بحثي وأنت تعمل إلى وقت متأخر من الليل. تذكرت الليالي التي سهرت فيها للعناية بها والمجهود الذي بذلته في كسب العيش والاهتمام بالمنزل. كيف تطلب مني التخلي عن إنجاب الأطفال وتربيتهم. الوضع المهين الذي أعانيه أعاد لي ذكرى مأساة صديقي حمد.

          أراد حمد الزواج من بنت متعلمة وقادرة على مساعدته في أعباء الحياة الصعبة. قابل فتاةً جامعيةً تسكن حيه. ذهبت أمه لأهل البنت وطلبت يدها. وافقوا وتم الزواج. عملت الزوجة في وظيفة مرموقة تدر عليها دخلا كبيرا. حمد بالكاد يستطيع قراءة الصحف اليومية والمجلات. كانت البداية مثل الشهد. مع تقدم الزمن تحول الشهد إلى حنظل. عاشت زوجة حمد في عالمها الخاص المكون من الصديقات الجامعيات والأخبار العالمية والدخول في شبكة المعلومات الدولية، أشخاص وأمور لا قبل لزوجها المسكين بها. تعود من العمل متعبة وتخلد للراحة والنوم. تطلب من حمد أن يباشر تدبير أمور البيت ويشرف على الطباخ والغسالة ومدبرة المنزل. كان يريدها أن تعطر البيت بالبخور العماني كما تفعل أمه وأخواته وتتزين بالملابس المثيرة وتكون في انتظاره حين يعود من العمل، فهي قادرة على ذلك لأنها جامعية تفهم ما لا تفهمه النساء العاديات. في المساء يخرج معها للتنزه وزيارة الأصدقاء والأهل وشراء الأغراض من الحي التجاري في وسط المدينة. لم تكترث لحمد وهو ينهار أمام عينيها ويغرق في حضيض المخدرات والعزلة والإحباط. ترك البيت وسكن مع والديه. ذات يوم وصلته رسالة فيها دعوى من زوجته بطلب الطلاق، بحجة الغياب عن منزل الزوجية وعدم الصرف على متطلبات الأسرة. إزاء هذه التهم، طلّق حمد زوجته، أو لنقل هي التي طلقته.

          عدت من عملي بعد عناء يوم طويل. تمنيت قضاء ليلة جميلة مع زوجتي. لم أجدها في البيت. نظرت حولي ولاحظت أن المكان متغير ومبعثر. الحاسوب والأوراق غير موجودين وحقائب السفر اختفت من مكانها المعهود. كل أغراض وممتلكات زوجتي لمي ما عادت موجودة كأنما ابتلعتها الأرض. ناديت عليها بصوت عالٍ كمن مسه جنون. سمع الجيران وجاءوا ليجدوني ملقى تحت السرير كالجثة الهامدة. أشار أحد الجيران لورقة موضوعة بعناية على الطاولة الكبيرة في وسط غرفة الجلوس. قرأت الرسالة:

          عزيزي، لقد أكملت بحثي. أشكرك للرعاية التي شملتني بها طوال الفترة التي قضيتها معكم، كما أشكرك على تهيئة الجو المناسب الذي مكنني من كتابة بحثي. سأتصل بك فور وصولي إلى هولندا. لولاك ما استطعت إنجاز بحثي، الذي أنوي نشره في المجلة الهولندية لعلم الأجناس. وبالمناسبة، سنستفيد من مادة البحث في عمل فيلم عن بلدك، عمان. أحبك وستظل دوما في ذاكرتي. لمي.

          شعرت بألم كطعنة الخنجر في الصدر، لازمني شهوراً، بسبب الخذلان الذي منيت به من المرأة الوحيدة التي أحببت. بدأت أسأل نفسي وأنا وسط هذه الدوامة: أين الطلاق، نحن لم نتطلق بل أين الزواج نفسه؟ كيف لها الجرأة للقيام بخطوة مثل هذه وبهذه السرعة والكيفية؟ عدت من جديد للاستماع لأغاني المطربة الكويتية القديرة رباب، خاصة أغنية «غيرت عنواني» لأنها تعبر عن حالي الممزق المنكوب. في لحظات الألم تلك فكرت في الرجوع إلى أصلي والبحث عن فتاة تقليدية، تقدس الحياة الزوجية وتكون مستعدة لإنجاب البنين والبنات. لكن مع مرور الأيام عرفت أن ما أصابني جرثومة لا يمكن لي الشفاء من مرضها العضال. رجعت لحالتي القديمة من الجري وراء البنات ممن يشبهن زوجتي لمي. ركبت سيارتي واتجهت نحو المطار بحثا عن مسافرة أخرى قادمة من المدن البعيدة والمجتمعات الغريبة. جريت وراء حلمي هذا لسنين عديدة. تعرفت على نساء أجنبيات وتعرضت لمواقف صعبة ومتناقضة. اشتريت شقة في وسط المدينة في منطقة روي المزدحمة لتساعدني في العيش بحرية وانطلاقة. لم أعثر على السعادة الحقيقية، بل لحظات قصيرة وعابرة. بينما كنت متجها من المطار إلى روي، نظرت لنفسي في مرآة السيارة، فأصابتني الدهشة من التجاعيد التي كست وجهي وعيوني ورقبتي. كم سنة مرت في الجري وراء السراب؟ توقفت في محل لبيع النظارات واشتريت نظارة سوداء. وضعتها على عيني وقدت سيارتي في اتجاه مجهول.

 

غالية بنت تيمور آل سعيد