أسى العزلة (قصة مترجمة)

 أسى العزلة (قصة مترجمة)
        

          أذهب إلى الحقل وأنا أعرج. يدي تحفر بئرا، بابا في البطن. أتعثر، والرأس مصدّع.

          كنت مرهقا بالأسئلة حول الحجارة التي يجب عليّ نقلها. يمر نهاري وسط موجة كآبة فأحس جسدي محشوا بالقطن والأوراق اليابسة. أسير وسط الطريق. أخترق المارة والسيارات. أصبحت شفافا، حقل من الورق تحمله الرياح. أتشبث بالمصابيح وأحوم حول الأسلاك التي تفصل الأرض عن السماء. كانت سماء المدينة المعدنية سماء ساخرة. كانت تنحدر لتمد لي كفها. النجوم لا تمرق والسحب لا تهتم بمصيري. حينها أرتطم بالأشياء، بالأبواب، بجبهة السحاب. كنت مبللا وأتدحرج، كرة ورق جرائدي بين المجاري.

          في المساء، تزول الفوضى داخل المجاري، فأعود إلى قفصي بعدما أشتري باقة من النعناع.

          واقفا فوق حلمي أرى الليل الآتي. حجارة شؤم تتكدس في الأفق. ويدي تتمسك بالصورة، في السفل كان هناك الفراغ. قلبي يهتزّ. كانت رائحة الحنين إذن. كانت رجفة المنفى إذن.

          اليوم، أعرف أن الموت سكن قفصي، وصدغيّ وكليتيّ. أناي المسكونة بالموت، كنت أحاول دون أن أقرر فعلا منحها، وتقاسمها كما نقتسم فرحة، صرخة. في نهاية المطاف فقد رأيتها تولد، هذه البنت، كنت أريد رؤيتها ميتة بين أصابعي، مستحمة بدموعي الفرحة.

          أعددت الشاي بالنعناع لأجلها ومن أجلي. شربت عدة كئوس منتظرا عودتها. دخنت سجائر لأقرأ داخل دخانها. كنت ملفوفا بدوخة وأحس أن سريري ينهار شيئا فشيئا. يحفر الأرضية. أصبحت متيبسا وباردا، أغوص داخل هذا السرير الترابي. خشيت أن أموت. الموت وحدي. ( رفقائي كانوا ضمن فرقة العمل ليلا). الموت في هذا البلد! هذه الفكرة تمسكني من حلقي. وقفت عندئذ وأسرعت إلى ملاكمة الحائط.

          الصورة المعلقة تمزقت قليلا، لكن لا أحد فلت من العراك. داخل الطنجرة لاتزال بعض قطع البطاطس بالثوم والكمون. التهمتها آليا وأعدت السرير إلى وضعه الأول. الكمون جعلني أحلم وليلتي انصرمت دونما إزعاج من أحد.

          أن تصبح محبوبا. منها أو من آخر.

          قليل من الظل فوق وجهي.

          نجمة شاردة بين الحلم والكف الباردة.

          أن تصبح محبوبا، وتشاهد ولادة حنان شجرة

          تحضن بأغصانها.

          أنا الشجرة والمداعبة.

          أنا عين الشجرة المنتصبة ليلا حيث جسدي

          يتوسل لمسة نظرة، لمسة كف.

          أن تكون محبوبا من طرف العشب، الجمل، أو الغزالة.لن أطردك من أرضي. سأقدم لك الشراب من عمق جنوني، والعسل من عمق عينيّ، وزيت الأركان في عباراتي، والتين من صمتي القاصف. آت من التراب أو من سحابة عادية مخضبة، آت من أحشاء ناقة أو من حكاية قيلت مساء الروابي.آت على زورق رسمته. سيكون البحر رحيما، من الدروب الوديعة والمجاج الأزرق.

          أرق الشتاء يبعدني عنك. رأسي يتوسد حذاء قش. إنه خفيف وشاحب. أنتظر الريح كي تنتشله. ليس لوجهي أفق. ينام على الطرقات المحروسة بالأفاعي. الألم يعود إلى سماء قانية تحررني عند الفجر. السحب تجثو. وكل الصور تجتاح السرير الذي تركه الليل المنسحب بغتة كصباح طارئ.

          يقول لي أيضا:

          نحن واقعون بين أصابع الحمى والموت. فكف إذن عن حكاية ألمك وقل لي من أين أتيت

          ولدت قرب نهر يجري بماء متوارث. باكرا ارتميت في الأرض الرمادية، لاعبا بالحجارة. لم أكن أعرف عن المدينة سوى الإشاعات والسماء لم تكن بالنسبة لي غير ستار مكتظ بالسحب.

          أنا قادم من أرض مزروعة بالشمس والجنبات المتوحشة. والداي تركاها للذهاب إلى المدينة. أجساد مغلقة على الجراح، لن تعلنها أبدا. تسكعت داخل الغبار والوهم. كنت أحمل دما على وجنتيّ. وشعري كان ملولبا بالليل. أتقدم بين الأزقة والساحات باحثا عن شجرة الزيتون والنهر. اختلقت كل شيء: الحجارة، والبيت، والنشيد وصديقي الطائر.

          حياتي كانت في الأول ميدانا شاسعا حيث تتراكم النفايات ويأس الرجال والأطفال الذين لا يعرفون أين المسير. لم أكن أفهم شيئا مما يحدث. أمر بين الأزقة والبيوت والأرصفة. أنام في أي مكان وأحلامي تكسر حجارة الأرق.

          حياتي كانت قصيرة.

          قياسا بالأرض الحزينة.

          ثم جاء نداء الثورة والمنفى. قضيت وقتا طويلا في الركض قبل أن أتمكن من الرحيل. أوقع أي شيء. تركت بصمات الأصابع وقليلا من دمي. كل شيء تم حفظه.

          من مسكني ( الوهمي لكن المتخيل) في المنفى.حدثت أشياء ضخمة.

          الثورة يالها من مزحة!

          المنفى، يالها من استغاثة بشعر طويل وعينين واسعتين وسوداوين! مشيت على طول هاتين العينين الواسعتين، عشت على حافتيهما، بين الأهداب والدموع. قمت بأسفار داخل النظرات الشاغرة (المفرغة) وتوقفت في اليوم الذي احترق فيه الخيال. الحديث أطول وحكيه أصعب.

          التقيت غزالة على الرمال، في يوم قررت فيه رؤية البحر، لأرتشف الطحلب، حتى ولو كانت السماء داكنة، حتى وإن كان البحر شاحبا.

          عيناها أولا ثم وطنها فيما بعد.

          عيناها. هنا الشمس، تمتزج بالنجوم المشغولة بالخلود، ضوء حنون لمرأى الأطفال. سماء دوخة مترعة بالماس. نظرت إلى السماء وقرأت ذاكرة لها ألفاظ مغروسة في مكان آخر، في أرض قاتلة، في المعتقلات وتحت الخيام. عينا الغزالة هما الامتداد لهذه الذاكرة، إنهما واسعتان، بريقهما مفعم بالحنان، ضحكهما مجنون بالأمل والصداقة. جلست على حافات هذه الإشراقة وطالعت على طرقات النجوم، رأيت سرابا، شيئا ما يتلألأ، شيئا مثل مدينة مجروحة. تقول لي: إنها القدس. هذا الضياء، هذا العرس، هذا النشيد الرملي والسمائي لن يكون إلا من أرضي، قصيدة مولدي.

          القدس، المدينة المطوية تحت ذراع السماء.

          يغسل الأطفال وعابرو السبيل حجارتك. امرأة أحلامي، أتنبأ بك، أراك.

          أجلس إذن على ساحل هذا المحيط المقهقه لأقرأ جراحا أخرى. الموت المفاجئ. صعقة صحراء.في بعلبك ذات مساء صيفي من شهر غشت.ها هو الجسد بين يديك، حياة منتزعة من طراوة هذه السماء الفضية وإنه الذهاب على متن حصان مجنح، هذا المساء الصيفي.

          كان والدك. يد تصرع، تقطع حبا لا نهائيا، ويداك مفتوحتان لأجل القمر المستسلم كي يستريح.

          حدثتني عن هذا الرجل دون أن تذكري الموت غير أن شساعة الحياة التي تحتفظين بها داخلك. لأنك تعلمت حياة الغياب مثل أمل أرض في أن تتفجر أزهارا بإشاراتك، وبصوتك.

          بدأت عزلتي المغلفة بستار يصيبها التصدع.

          لم يؤلمني موت والدك، لأنك عرفت كيف تبعثين فيه الحياة.

          (ربما ستقولين لي: لم هذه الحكاية داخل تعرجات عزلة؟ الصداقة والحب الذي أكنه لغزالة قاداني داخل ذاكرتي الآنية والسالفة. اقترنت بهذه الذاكرة، لأنها طيبة وجسيمة. تملك الفكاهة والسخاء. إنها منبع حنان عظيم. خرجت من حقيبة فافتتنت بشمس صغيرة مجنونة. غزالة إنها الروح الحية والحقيقية التي التقتها مخيلتي بشكل صاف وواقعي. برفقتها لن تكون العزلة أبدا مؤسية. افهموا جيدا: غزالة ليست صورة.)

          ربما عباراتي مجنونة. أتحدث عن غزالة كنجم. لكني كنت أحس أنني لن أعود تلك الشجرة المقتلعة. عندئذ أبدأ في الذهاب والإياب ما بين عينيها والبحر.

          اسمعوا:

          الصوت مقطع غالبا بالبلور والضوء يمنح غزالة سلطة، فتنة وإغراء. لكن غزالة تبقى إنسانية ولا تستغل هذه السلطة. كنا نحب سماعها سواء في ندوة أو اجتماع بين الأصدقاء أو بين العائلة. ونحب أن نخترق بهذا الصوت بإيقاعه الجموح الممسوك بأصابع رشيقة وناعمة.

          تتحدث قليلا عن نفسها.

          خلال فترة قصيرة أدركنا أن هذا الكائن الذي نحبه يفعل أكثر من تبديد عزلتنا. لا نعرف إلا القليل عن حياة غزالة. عن وطنها، ومنفاها، تحدثنا غالبا لكنها تسمعنا كثيرا.

          كان بمقدوري الحلم بهذه الصداقة الجوهرية، لكني أعرف اليوم أنه يمكن أن تكون أقل - بالتأكيد جميلة - من النفس الساخن لمعانقة أو لاستراحة مشتركة، أو تكون عشاء مرتجلا في ساحة عمومية.

          ليس فقط حديثها قليل، لكنها عندما توافق للحديث عن أحلامها، تبدي بعض الحرج. في نهاية الاعتراف نعرف أن هناك حديقة، فصلا دون أحزان، خواتم لأصابع الشمس.

          ما تحملينه على كتفك غير السحاب المنهك. لم يكن الصمت أبدا عندك نصبا من الكلمات التي تتكدس وتتساقط. الصمت. الحقل الذي يجب أن نقرأ فيه صداقة الكف المفتوحة، حنان النظرة التي تعانق العشب اللانهائي للخريف. كان أيضا ذلك البريق الصاعق الذي لقيه شعبك، جسدنا، وواجهناه، في اللحظة التي كان الخطر يتقدم وابلا من الرصاص تلو الرصاص.

          استؤنفت المعارك بين الكتائب والفلسطينيين. الحرب طاحنة. الوضعية ملتبسة. لبنان يتمزق.

          عندما جفناك تنخفضان، فلكي تخفيا قليلا الوهم الذي تبعدينه عنك. ندرك أن الأرض هناك مازالت مميتة، كالعودة للسير فوق الدم.

          في 48 مزقت الحرب وأشياء أخرى ايضا، أجسادنا وأسرنا. رحلنا ليلا، إن صورة طرد شعب من أرضه لا تفارقني، وهو يمتد بحقائبه على جانب الطريق وقطعة من السماء في عينيه كم من الشعوب رحلت في اتجاه الصحراء! كم من الشعوب اجتثت من الحياة! كنا نسير في اتجاه حدود أخرى، ونحن صامتون تتقدم ذاكرة مغتصبة في الدجى. عمي، أخ أمي، رجل رائع - ينبغي أن تتعرف عليه - رفض مغادرة مزرعته. كان سلفا رجلا مسنا، كان يريد أن يجعل من المزرعة مكانا لعيش الفلسطينيين وقد نجح في ذلك. يعيش اليوم في الأراضي المحتلة محاطا بأبنائه.

          أترى، حكاية عزلتك المؤسّية هذه. نحن مدانون بها، بشكل أو بآخر، إنها حقيقية، أريد أن أقول إني أتفهمها، لكنها تبقى خاصة بالفرد فقط ولا تنطبق على شعب لأن الشعب لا يمكن إبادته.

 

الطاهر بن جلون