ست الملك.. في البدء كان القتل

كان «الحاكم بأمر الله» أصغر منها سنًا وأكبر حجمًا وأقوى بأسًا، وبدا الأمر جد غريب عندما وضع رأسه على صدرها وبدأ يبكي، يكاد رأسه الثقيل يطبق على أنفاسها، طفل عملاق في الخامسة عشرة من عمره، تدخل أصابعها في شعره وتمسّده حتى يهدأ، ورث عن أبيه مظهر الجبارة القادمين من الصحراء، لكن نفسه الغريرة مازالت قاصرة عن مجاراة جسده، أصبح خليفة وحاكما، ولكن الإهانة غصة في حلقه، يهتف من خلال عبراته:

 

إنه «برجوان» الوصي على عرشي يا أختاه، يسخر مني، ولا يأبه لأوامري، واليوم بالذات، كنا نتريض معًا على ظهور الخيل، وتعمد أن يثني ساقه فوق عنق الجواد، بحيث يكون نعله في مقابل وجهي..

أخيرًا.. يلاحظ الخليفة الصغير إهانات «برجوان» التي لم تتوقف، كانت قد لاحظتها دون أن تجرؤ على الاعتراض، أصبح هذا الخصي الصقلبي بدرجة من القوة لا تستطيع وحدها مواجهتها، وضع والدهم «العزيز بالله» فيه ثقته المطلقة، وأعطاه لقب الأستاذ، أي ما يعادل لقب الوزارة، وأراده أن يكون وصيا على ابنه بعد أن يموت، لكنه أصبح يتصرف كحاكم مطلق، يتحكم بالجميع داخل القصر، بمن فيهم الخليفة الصغير، تبعد رأسه عن صدرها حتى تلتقط أنفاسها، تقول:

ـ لا تناقشه، لا تعاتبه، ولا تلمه، فقط.. اقتله.

 عيناه مفزوعتان ودموعه تجف فجأة، يرتجف صوته:

ـ كيف لي أن أفعل ذلك وأنا بهذا الهوان، وهو على هذه القوة..

تقول له ثلاث كلمات، سيظل يذكرها ويعمل بها طوال حياته: كل شيء قابل للقتل..

 هكذا تتواصل صيرورة الكون، من لحظة الموت لا من لحظة الميلاد، إزاحة كل ما هو موجود ليفسح المجال لكل ما هو مولود، في تلك الليلة الفاصلة من حياته يسير «أبو علي منصور» الذي نصّب سلطانا على مصر وسنه لا تتجاوز الحادية عشرة واتخذ لقب «الحاكم بأمر الله»، خلف أخته «ست الملك» ، عبرا ساحة «بين القصرين»، تهبط به درجا حجريا لم يكن يدري بوجوده، وتدخله سراديب لا يعلم نهايتها، تنتهي به إلى ساحة واسعة بين طيات الأرض، تنيرها مشاعل معلقة على الجدران، يسمع صوت السيوف وهي تصطك، وصيحات النزال أشبه بدمدمات حيوانية، يظهرون أمامه، عصبة من الغلمان الترك، عرايا إلا من حزام من قماش يستر عوراتهم بالكاد، مرد، لا أثر للشعر على رءوسهم أو أجسادهم، ما يفعلونه لم يكن تدريبا عاديا، ولكن قتالاً دون رحمة، بلامبالاة بما ينزفونه من دماء، يتحركون بدافع من القتال المطلق، لا يولد الإيذاء البدني بداخلهم إلا المزيد من شراهة القتال، ينظر إليهم مرعوبا، وتتأملهم هي كالمنومة، كأن القوة المتولدة من خلال هذا التلاحم تغذي جسدها بطاقة خفية، يسمعها تقول في صوت خافت:

- موهبتي الخفية هي اكتشاف القتلة، هكذا حافظت عليك وعليَّ منذ أن مات أبونا..

 ينظر إليها مندهشا، كانت دائما أرق وأكثر حنوا من أن تصدر عنها هذه الكلمات، في عينيها الآن قسوة غير متوقعة، تواصل القول، تردد سطورا من كتاب محفوظ بداخلها:

- منذ الآن سيكون هؤلاء هم غلمانك،

لا تخرجهم للنور إلا لينفذوا أمرك، ويفرضوا مشيئتك، كن ساخطا دوما، اجعلهم عطشى لرضاك، وعبيدا لعطاياك، واجعل الموت أهون عليهم من عصيان كلمتك أو إثارة غضبك..

 كلمات أكبر من أن يحتملها، ولكن هل يمكن أن تصمد أمام شخص مثل برجوان؟ لا تترك «ست الملك» له فرصة للتردد، تسير فيسير خلفها، تتوقف في ساحة «بين القصرين» الخالية، وتهتف آمرة:

- اطلب برجوان الآن، قل له إن أمرا مهما يستدعي وجوده بين يديك في الحال، استقبله وأنت جالس على عرشك، لا تنهض عند دخوله، ومهما تصرف قابل أفعاله ببرودة الصمت.

 تتركه وحيدا في هذه القاعة الفسيحة، يجلس على عرش آبائه، ولكنهم لم يعانوا الخوف الذي يثقل عليه الآن، يبدأ في الإحساس بالندم لأنه لجأ إليها، من الأسهل أن يعيش في حمى «برجوان» ويتقبل إهاناته، ولكن فات الوقت، تقترب خطوات «برجوان» الغليظة تقترب، يسير حراسه من الصقالبة خلفه مثل ظله، يقتحم القاعة كعادته، مثيرا أكبر قدر من الجلبة، محتقن الوجه من شدة الغضب، يقف أمامه وهو يزفر، يوشك الحاكم أن ينهض ليعتذر إليه ولكنه يتذكر أنه يجب عليه أن يظل جالسا، يتمسك بمقبض المقعد ليساعده على الثبات في مكانه، بينما يقول «برجوان» من بين أسنانه:

- أي أمر يجعلك تقلقني في هذا الوقت؟ بعد كل ليل مظلم هناك دائما صباح، كان عليك أن تنتظر..

 يشعر الحاكم بجفاف حلقه، لا توجد عنده القدرة على مواجهة كل هذا الغضب، ينكمش أكثر وهو يسمع «الصقالبة» يزومون، يتقدم «برجوان» خطوة إضافية فيوشك أن يبول على نفسه، ثم تحدث معجزة الخلاص، يقفز من جوانب القاعة غلمان مرد، رءوسهم عارية، وصدورهم بلا شعر وسيوفهم قصيرة ومعقوفة، قرود بيض البشرة، يلمسون الأرض بخفة فيصدر عنهم حفيف مفزع، يتأملهم الجميع مندهشين، ولكن قبل أن تطرف عين أحد، يضعون سيوفهم في رقبة «برجوان» ورقاب حرسه، يترنح «برجوان» وهو ينظر للحاكم غير مصدق، كبرت «الوزغة» فجأة وأصبحت ثعبانا، تكتسي أرضية القاعة بدم لزج، تظل أطراف الأجساد تنتفض، ويظل الغلمان شاهري السيوف لآخر انتفاضة في آخر جسد، يعاودون الاختفاء بالسرعة التي ظهروا بها ، يفيق الحاكم من هذا الحلم الدموي الغريب، يرفع رأسه ليجد «ست الملك» واقفة أمامه في نهاية القاعة، تتأمل الأجساد المسجاة كأنها تريد الاطمئنان على جودة ما حدث، يشهق غير مصدق:

- لقد مات برجوان..

تردد الكلمات نفسها للمرة الثانية: كل شيء قابل للموت..

يحاول في البداية أن يبرر للجميع لماذا قتل «برجوان»، ولكن «ست الملك» تمنعه من أن يظهر كالمعتذر، الملوك لا يحتاجون إلى مبرر للبطش، ولا مسوغ للعدل، يختارون فقط من ينفذ أوامرهم، لم يعد في حاجة إلى أوصياء، يختار الحاكم أمينا جديدا يضع سيفه في خدمته، القائد حسين بن جوهر الصقلي، الابن الأكبر للقائد الأسطوري الذي فتح مصر وبنى مدينة القاهرة، رجل متقشف، رفض كل مظاهر التفخيم والتكريم، اكتفى فقط بلقب القائد، ولم يدع خطوطه تتقاطع كثيرا مع خطوط الحاكم، يختار أيضا ابن النعمان قاضيا، كان والده قاضيا جليلا، هو الذي وضع القواعد الفقهية الأولى للدولة الفاطمية، تراجع نفوذ الصقالبة من أعوان «برجوان» وتقدم المغاربة، بناة الدولة، تستقر الأمور ولكن نفس الحاكم لا تعرف طريقا للاستقرار، يصبح مدمنا لإحساس القوة المطلقة الذي تمنحه له لحظة القتل، القدرة على التحكم في المصائر، وضع نهايات الخلق.

 تتحكم فيه شهوة القتل فيقتل من دون تمييز، قتل أعيان الدولة، زعماء القبائل وقادة العسكر، وصبيان الحمامات، والمكارية الذين يسوقون الحمير، شواء لم تعجبه طريقته في قطع اللحم ، شيخا أمَّ الناس في صلاة التراويح في رمضان، عددا من الرواة لأنه شك في أنهم يحرفون الأحاديث، وأحد النحويين لأنه أخطأ في الإعراب، ولا يكتفي بالقتل المفرد ، يأمر ببناء سد على حمام كانت تستحم فيه النسوة وهن يغنين، ويجمع جواري قصره ويضعهن في صناديق ويلقيها في النيل، يتخلص في عام واحد من الآلاف من خاصة الناس وعامتهم، قتلهم ذبحا أو حرقا أو صبرا، يصبح من النادر أن يغادر الحكم وزير أو قاض أو كاتب إلا وقد أهدر دمه بعد أن اتهم بالخيانة، أناس يدفعون حياتهم مقابل منصب لا يدوم إلا قليلا، لا يكفون عن قبول المناصب حتى قبل أن يجف دم الذي سبقه،

لا يقلل شبح الموت من شهوتهم.

يخلق الحاكم حوله سياجا من الرهبة والخوف، لا يجرؤ أحد على معارضته أو مجادلته، بل إن البعض كان يسقط مغشيا عليه حين يراه، ويسري المزيد من الفزع في أوصال المدينة عندما يقيم الحاكم مقبرة جماعية جديدة، يختار مساحة واسعة من الأرض عند سفح المقطم، تحيط بها أسيجة من أشجار السنط والغاب، تتخللها صفوف من الصبار، وتوجد في الوسط صخرة محدبة كأنها نطع أعد لبتر الرءوس، بقعة موحشة لا تصلح إلا لمجزرة مروعة، كل من له صلة بالحاكم اعتقد أنها أعدت له، اجتمع الغلمان وكتاب الديوان وجباة الضرائب وشيوخ الحارات في أحد ميادين القاهرة، وأخذوا يقبلون الأرض حتى وصلوا إلى أعتابه وهم يطلبون العفو والمغفرة، يتوسلون عن ذنب

لا يعرفون ما هو، يقبل الحاكم تضرعاتهم، ويصدر لهم رقعة بالأمان، ينتقل الفزع لليهود والنصارى فيسارعون هم أيضا بالتضرع، ويستجيب الحاكم برقعة أخرى، يسري الفزع إلى تجار القاهرة وأرباب الحرف بها ومشايخ المساجد وأصحاب الإقطاعيات وتجار القوافل، وتتوالى الرقاع، وتظل ساحة الموت مفتوحة لا توحي بأي أمان.

ولكن ريح الخوف تتسلل إليه رغما عنه ،

لا يستطيع أن ينام الليل، لا يأمن للظلمة الشاملة، الليل هو ستر القتلة، لابد أن هناك قاتلاً لا يهابه، في يده خنجر مسموم سيحدد مصيره، عليه أن يمنع الظلام من الدخول إلى قصره، إلى مدينته، يأمر أن يوقد كل ما في القصر من شموع ، وتمتلئ الطرقات بالمشاعل، ويوضع أمام كل بيت قنديل يظل مضاء طوال الليل، يسعى نحو معرفة المزيد من الأسرار، يكوِّن جيشا خفيا من النسوة العجائز، يدخلن البيوت، يعرفن كل ما فيها من أسرار وفضائح، عيون مبثوثة تمده بأدق أسرار العائلات، نوايا الرجال ونمائم النساء وفضائح الأسرة، يدرك أن الناس يتكلمون أكثر مما يفكرون، ويعلنون أكثر مما يضمرون، وأن غواية الجسد

لا تقل عن سطوة المال، يمتلك في يده مفتاح هذا البلد الغريب الحافل بالعلاقات المعقدة، رخو ومترف، لم يجرب الشظف الصحراوي، ولم يعرف شدة العيش، يمسك رقبة الناس ويمتلك خفاياهم، لا يجرؤ أي من الأعيان الذين يقفون أمامه على أن يرفعوا وجوههم أو يقابلوا عينيه، مهما تباهوا بقوتهم فهو يدرك أنهم الأضعف، وأنه الأعلى، قادر على أن يميتهم أو يتركهم يواصلون حياتهم التافهة، ولتكف أسرار النسوة العجائز عن التدفق، تخترق أجنحة القصر المواجه له، وتحمل إليه أسرار أخته الكبرى «ست الملك»..

يقف أمامها هذه المرة وهو كائن مختلف، تبددت الوداعة من ملامحه، وغاضت نظرة البراءة من عينيه، لم تبق إلا نظرة قلقة،

لا تستقر محاجرها، تكشف عن داخله المضطرم بالرغبات والكوابح، يلتقط أنفاسه بصعوبة، كأنه لا يجد هواء يلتقطه في جناحها، يقول بصوت متحشرج:

- هل صحيح أن الرجال لا يكفون عن التوافد إلى غرفة نومك؟

لا تخفض رأسها، ولا تهرب من عينيه، ترد:

- وهل صحيح أن ثيابك لا تفوح منها سوى رائحة الدم؟

 تحافظ على ثباتها، يقف وحيدا، ولكنها واثقة بأن الجلاد مختبئ في مكان ما، ينتظر إشارة منه، يواصل كلماته القاسية:

- لا ضرورة لكلماتك، مهما قلت فلن أصدقك، ستجيب القابلات عن ذلك بعد أن يقمن بالكشف عليك..

 تشهق فزعة، هل يمكن أن يعرضها لهذه الدرجة من الامتهان؟ قبل أن تتفوه بحرف واحد تجدهن يملأن الغرفة من حولها، نساء متشحات بسواد الغربان، أنوفهن معقوفة وأنفاسهن كالفحيح، يفرضن حولها دائرة قاتمة، تقلب نظراتها بينهن وتتطلع إليه مستغيثة، يعطيها ظهره ويغادر الغرفة، تضيق الحلقة من حولها، يدفعنها بأصابعهن الشبيهة بالمخالب للفراش، ترى سقف الغرفة يهتز، العالم كله يهتز، رياح باردة تدخل جسدها، تتخلل طيات الثياب، تفتح لها الأصابع المعقوفة المنافذ، تغمض عينيها حتى لا ترى وجوههن، ولكن الدموع تنساب رغما عنها، ستصل إليهن جميعا، ستقطع كل هذه الأصابع، مهما قلن لأخيها.. تبتعد رائحتهن أخيرا، تضم ملابسها وتغطي لحمها العاري، تقفز من الفراش إلى باب الغرفة، تشاهدهن واقفات مع أخيها في نهاية الممر ، يتحدثن وهو ينصت باهتمام، لن تهتم، تغلق الباب وتسده بالرتاج، لن يرغمها أحد على رؤيته مرة أخرى، الأمر فوق قدرتها، مهما بكت أو ارتجفت، هذه الإهانة فوق طاقة الاحتمال.

في منتصف تلك الليلة تجلس هادئة تماما، في كامل زينتها، كأنها عروس تتأهب للزفاف، تجلس أمام الباب الخلفي للقصر، خافضة الرأس لا تريد أن ترى أحدا، أو يرى أحد انفعالات وجهها، لا ترفعها إلا حين يفتح الباب ويدخل رجل مقنع، يزيح اللثام، يبدو وجه «الحسين بن دواس» بملامحه الحادة ولحيته المدببة، وعينيه المليئتين بالحيرة، يتأملها مندهشا، حتى هذه اللحظة كان يظن أن في الأمر خدعة لاستدراجه للقصر، كان قد قاطع القدوم إليه، رغم أنه زعيم واحدة من أقوى القبائل المغربية، ويحمل كل ألقاب التشريف، لكنه يفضل أن يبقى محتميا في قلب قبيلته،

لا يعرض نفسه لأهواء الحاكم ونوبات غضبه، ولكنه الآن لم يملك إلا أن ينحني ويقبل طرف ثوبها، يظل خافض البصر وهو يسمع صوتها:

- أعرف أنك لا ترغب في المجيء، لكنك تخليت عن حذرك واستجبت لدعوتي، وأشكرك على ذلك. قال: لم أكن لأتجاهل رغبتك في المجيء إليك حتى ولو دفعت حياتي دون ذلك، تشعر بالرضا لكلماته، صوته الرجولي الخشن يبدد الوحشة من الغرفة، ليس أمامها إلا أن تثق به، خيار أول وأخير، تطلب منه أن ينهض ليجلس مقابلها، تريد أن ترى وجهه وهو يستمع إلى كلماتها، لم تدر أن كان ما ستقوله سيبقيه متماسكا، أو يزعزعه من الداخل، تقول ببطء:

- لم أبعث إليك إلا لأمر جلل، لتنقذ الخلافة التي صنعها أجدادنا من الانهيار.. الحاكم أخي ولكنه عدوي، مولاك ولكنه قاتلك، هو الذي يبقيك محبوسا داخل قبيلتك، لو لم تطع كلامي وتصل إليه أولا، فسيصل هو إلى رقبتك، لقد وصلنا جميعا إلى خط النهاية، ولو ترددنا لحظة فسيحل بنا الدمار، سأقتل أنا على فراشي، وستباد قبيلتك.

يحاول النهوض فلا يستطيع، يدرك أنها محقة في ما تقوله، لن يصبر الحاكم طويلا على مروقه، فقط ينتظر اللحظة المناسبة للوثوب عليه، ينظر إلى «ست الملك» التي تقف منتصبة أمامه، لقد وثقت به وأعلنت عن نواياها، فهل يثق بها؟ كيف يمكن أن يقدر أحد على هذا الأمر؟ تقرأ أفكاره وتعاود الكلام في صوت خفيض:

- لم يعد أخي يتسرب إلا خلال الظلمة، أطفأ أنوار المدينة وحرم السهر على الجميع، ولا يتجول إلا منفردا، في كل ليلة يخرج من باب النصر إلى المقطم، لا يصحبه إلا اثنان من «المكارية»، يسير عبر القرافة الموحشة والصخور الناتئة، حتى يصل إلى المغارة التي يراقب منها النجوم، لا أحد يرافقه، حتى صاحب الشرطة يبقى داخل السور، لا يفتح أبواب المدينة إلا عندما يسمع دقات أخي مع أول ضوء للفجر، في هذه الرحلة يكون في أضعف حالاته، متفردا ووحيدا، الصخور الجرداء، وضوء النجوم البارد يجعله يفقد شراسته، هذه فرصتك، خلاصك وخلاصنا جميعا.

 يحاول مداراة رجفته، يرى لمعة عينيها كأنها خنجر متأهب للطعن، مازال مترددا، يقول:

- وإذا لم يقدر رجالي على فعل ذلك؟

 تقول على الفور: بدلا من أن تكون مدبرا لدولتنا وأهلا لثقتنا، سيكون عليك الاختباء والبحث عن ملجأ خارج هذا البلد..

تنظر إليه وكلماتها المفعمة بالوعد والوعيد معلقة في الهواء، لا وقت للتراجع أو التفكير أو التردد، داخل هذا الجسد الأنثوي إرادة حديدية اتخذت قرارها، عليه أن ينفي لحظة التخاذل والجبن التي اعترته، يشد قامته أمامها ليثبت لها أنه الرجل الذي يمكن الاعتماد عليه:

- متى تريدين تنفيذ هذا الأمر؟

يلوح على شفتيها شبح ابتسامة واهنة، تتطلع من النافذة، إلى بقايا قمر في السماء، تقول:

 عندما يختفي هذا الضوء الفاضح للقمر، ستكون هذه ليلتنا..

 تلك هي الليلة، تتألق النجوم أكثر مما ينبغي، يتأملها الحاكم من نافذة غرفته، حروف غامضة تحدد له خطوط المصير، وتبزغ وسط أفلاكها شهب ضالة، تشق ظلمة السماء على غير هدى، لا توحي بيقين ولا تبعث على طمأنينة، كانوا يقفون في انتظاره عند باب القصر، الحمار الأشهب، والمكارية، وصاحب الشرطة والحرس وحامل الطبلة، يوشك الليل على الانتصاف، تدوي دقة الطبلة الأولى، ترتج قلوب الرابضين خلف الجدران، تتواصل الدقات كأنها وجيب قلب، ينسحب آخر الساهرين، وتطفأ القناديل، وتضع الأمهات أيديهن على أفواه أطفالهن حتى لا يصرخون، والإمام يعبر الدروب الضيقة فوق حماره، تتوافق دقات قلبه مع إيقاع الطبلة، بوابة المدينة الحجرية مفتوحة، يمر بين الحراس في صمت، يشير صاحب الشرطة لهم، فيزيحون الأبواب الخشبية المغلفة بصحائف من الصلب، تصدر مفاصلها صرخة في مواجهة صمت الليل، يتراجع الجميع ليبقوا خلف أسوار المدينة، ويصبح الحاكم وحيدا، يمتد أمامها رمل وصخور متناثرة ودرب وعر يؤدي إلى قلب الجبل، وفوق رأسه سماء خالية من أي سحب، نجومها أكثر سطوعا، وشهبها تتساقط خلف حافة الجبل.

 يرتجف حين يلمح ذلك النجم الذي يشع ضوءا مائلا للحمرة، جذوة نائية، يتمتم لنفسه في يأس: ظهرت يا ملعون، لكنه لا يتراجع، قدره أن يواصل الصعود، يتعثر الحمار حتى يصبح غير قادر على التقدم، يهبط من عليه ويبدأ الصعود الصعب على قدميه، كان جائعا، ولكن من الأفضل أن يظل هكذا حتى الصباح، حتى تصبح روحه أكثر رهافة، وأكثر تقبلا لإشارات الليل وأرواحه الخفية، ما كان سيكون، كل المصائر، مبتداها ومنتهاها مسطور على لوحة القدر، من ذا الذي يبدل ما كتب في يوم الخلق الأول، يمسك المكاري بالحمار، ويجلس على أحد الصخور، سيظل هكذا حتى يهبط الحاكم.

يبرز القاتلان في تلك اللحظة، مقنعان وملتفان بالسواد، في أيديهما خناجر مغربية، معقوفة ولها سنون، كانا مأجورين، مكلفين بقتل الرجل الذي يركب الحمار الأشهب، لا يهمهما شخصيته ولا منزلته، لذا ترددا للحظة، فقد وجدا الاثنين مترجلين والحمار وحيدا، وفي لحظات يحسمان أمرهما، يطبق كل واحد منهما على أحد الرجلين، ينغرس الخنجران في جسدي الحاكم والمكاري في الوقت نفسه، يصرخ المكاري في فزع ويحاول الهرب، ولكن الطعنات لاحقته، ويظل الحاكم واقفا في مكانه، يتلقى الطعنات كأنها قدره المحتوم، يسيل دمه أسود بلون الظلمة، يحاول التحديق في وجه قاتله، ولكن الأخير مشغول بإتمام عمله، يواصل الطعن حتى يوهن الجسد الضخم، نصل السكين بالغ الحدة، يغوص في لحمه ويخرج منه من دون مقاومة، يمزق جسده، يصنع فيه منافذ لخروج الروح، وأخيرا

لا يستطيع احتمال المزيد، ولم يكن انسحاب الروح من داخل هذا الجسد الضخم سهلا، انطرح على الصخور، يهتز في تشنجات غير إرادية، يطفر من ما فيه من دماء، يستنزف تماما قبل أن يهجع ويسكن تماما.

تبلغ الشمس ذروة الظهيرة دون أن تفتح أبواب المدينة، يتجمع الفلاحون الوافدون خارج السور، والأهالي والتجار داخله، يصرخون طالبين فتح الأبواب من دون جدوى، لا بد من سماع دقات الحاكم، يصعد الحراس إلى أعلى الأسوار، يستكشفون المكان بحثا عن أثر، تطير الأخبار سريعا إلى «ست الملك» فتبدو عليها علامات الدهشة والانزعاج، تصر على الخروج على رأس رجال القصر لمعرفة ماذا حدث، تتوقف حركة المدينة، خائفة ومتوجسة، لا تقدر على إظهار مشاعر الحزن أو الفرح، تفتح الأبواب

فلا يجرؤ أحد على عبورها، يفحصون الدرب الصخري المؤدي للجبل، تبدو آثار المقتلة واضحة، في أول الدرب وجدوا الحمار الأبيض وقد بترت قوائمه وتلوث لونه الناصع بالدم، والذباب يحط على جثته، بعد خطوات قليلة يجدون جثة المكاري مبقور البطن، ثم يجدون ثياب الحاكم، ممزقة من أثر الطعنات وملوثة بالدماء، لكنهم لا يجدون جسده.

تفي «ست الملك» بوعدها، تعلن أمام الجميع أن «الحسين بن دواس» هو مدبر المملكة، وأنها ستتوارى وراء الستر مرة أخرى، يركب «ابن دواس» في ضوء النهار، تحيط به حاشيته، يسير وسط الدروب والحواري حتى يدخل مزهوا إلى قاعة العرش، يشعر بأنه ليس مدبر الدولة فقط ولكنه منقذها أيضا، وسيؤكد مركزه ويدعمه حين يطلب «ست الملك» للزواج، يتقدم منها وهي جالسة على كرسي بالقرب من العرش، تمتلك أبهة السلطة ودلائل العزم، لكنها لا تمتلك جسد رجل، من المؤكد أنها في أمس الحاجة إلى جسد تضمه إليها، ما إن يقدم لها عرضه حتى يوقظ بداخلها كل أعراض الحرمان، سيسحق جسدها الجائع، ومن خلالها سيحكم هذا البلد، وتحت الغطاء نفسه سيحافظان بصورة حميمة على سر مقتل الإمام، كان قد عمل حسابه وقتل القتلة المأجورين ولم يبق إلا أن يتقدم منها لينال جائزته،

لا ينحني أمامها أو يقبل طرف ثوبها، ينتصب معتدا مدركا قيمة ما فعله وأهمية ما يقدمه، تنهض واقفة وتقول بصرامة:

- مرحبا بك يا مدبر الدولة، كنت لتكون جديرا بهذا المنصب لولا أن يديك ملوثة بدم الأطهار..

 يرتج على «ابن دواس» دون أن يفهم مغزى هذا الاستقبال، لا تترك له وقتا للفهم أو الرد، ترفع صوتها عاليا ليسمعها جنود الترك وحرس الصقالبة المتحفزين:

- هذا هو الرجل الذي قتل مولاكم الإمام..

 يشهق «ابن دواس» وقد أخذ بغتة، قبل أن يستدير أو يعترض، كانت السيوف قد أشرعت، لامعة وباترة، تحاصره وتنغرس في كل مكان من جسده، يتلقى أنواع الطعنات، لا تترك له فرصة حتى للاحتضار، تتأمله «ست الملك» وقد تلون جسده بدمه، قضي على آخر من يعلم السر، بعد ذلك لن يهددها أحد، وستكون لها الكلمة، لها وحدها حتى يعود الإمام، إن كانت له عودة!!.
-----------------------------
* كاتب من مصر.