محاولة لفهم الجغرافيا التطبيقية.

محاولة لفهم الجغرافيا التطبيقية.. د. غانم سلطان أمان
        

قليلة جداً تلك الدراسات التي تتعرض لمفهوم ومقصد الجغرافيا التطبيقية، أو دعنا نقل التطبيقات الجغرافية، لأنها بالفعل تقوم على ممارسة تطبيق أسس وأصول أدبيات علم الجغرافيا في قالبها النظري لتتحول إلى دراسة تطبيقية لموضوع ما أو ظاهرة ما أو قضية معينة من وجهة النظر الجغرافية. مستثمرة هذه الأسس لتسليط الضوء على هذه القضية من منظور جغرافي. إذن فالجغرافيا التطبيقية Applied Geography هي التطبيق العملي للمفاهيم والأسس الجغرافية حيال دراسة أي من الظواهر أو القضايا التي يقوم الجغرافي بالإسهام في دراستها.

          في مجال استعراضه لعلاقة الجغرافيا بالعلوم المعاونة التي تسهل للجغرافي دراسة الظواهر من أبعاد مختلفة يذكر الأستاذ بيتر هاجيت P. Hagett وهو أحد العلماء المجددين في مجال الجغرافيا وصاحب كتاب «الجغرافيا تركيبة جديدة» أن الجغرافيا تعتمد بصفة خاصة على استثمار وتوظيف المفاهيم والتقنيات من علوم أكثر تخصصاً، فتأخذ من علم المناخ Climatology نماذج نشأت أصلاً في علم المتيورولوجيا Meteorology، وهو بدوره يشتق مفاهيمه الأساسية من علم الفيزياء. وتستعير الجغرافيا الاقتصادية وجغرافية السكان وجغرافية العمران وغيرها من فروع الجغرافيا مفاهيم في الرياضيات وعلم الإحصاء، في إطار معادلات رياضية تتيح المجال لفهم أفضل واستنتاجات أكثر دقة.

          وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن تقسيم مهام الجغرافيا إلى قسمين كبيرين: أولهما مهمة المحافظة على العلم ذاته، بالاهتمام بتدريس الجغرافيا وتنمية وتغذية هذا العلم عن طريق البحث العلمي في المجال ذاته، فوظائف تدريس الجغرافيا متوافرة على كل المستويات في مراحل التعليم العام (ابتدائي، إعدادي، ثانوي) وحتى التعليم الجامعي وفوق الجامعي، خاصة في دول غرب أوربا والولايات المتحدة ودول أوربا الشرقية وبدرجة أقل في دول العالم الثالث.

          أما ثاني مهام الجغرافيا فتتمثل في خدمة العلوم والتخصصات الأخرى من رؤية أو منظور جغرافي، فللجغرافيين باع طويل في شتى التخصصات والمجالات. فلهم دورهم في مجالات الخدمات العامة المحلية والوكالات العالمية المتخصصة في الأغراض البشرية ولجان التخطيط الدولي، خاصة منذ وبعيد الحرب العالمية الأولى، حيث احتل بومان مكانة رفيعة بين المستشارين في مؤتمر فرساي للسلام، واحتل بعد ذلك المكانة نفسها جغرافيون آخرون أمثال يوري مدفدكوف الذي برز في منظمة الصحة العالمية W.H.O بجنيف، كما تمت الاستعانة بفريق من الجغرافيين البريطانيين في الهيئة الاستشارية لرسم الحدود بين الأرجنتين وشيلي.

          ويمكن القول إن الجغرافيين ممثلون تمثيلاً جيداً على المستوى الوطني في الإدارات الفيدرالية في الولايات المتحدة، فقد وصلت نسبة الأعضاء الجغرافيين العاملين في المؤسسات الفيدرالية على سبيل المثال إلى نحو 10%، وهم من أعضاء الاتحاد الجغرافي الأمريكي.

          وقد بدأ هذا الزحف للجغرافيين نحو الخدمات العامة منذ العشرينيات من القرن العشرين عندما لعب الجغرافيون دوراً بارزاً في مجالات المحافظة على التربة والتعدادات السكانية وإدارة شئون البيئة والتخطيط الإقليمي واستخدامات الأرض Land use، ليس في الولايات المتحدة وحدها فحسب بل في الاتحاد السوفييتي السابق وبريطانيا والسويد وغيرها.

          ويعمل الجغرافيون كذلك في مجالات القطاع الخاص إلى جانب عملهم في القطاع العام بوصفهم مستشارين أو موظفين كباراً في الشركات والمؤسسات الكبرى ومن بين الأعمال الاستشارية التي يقدمها الجغرافيون لهذا القطاع:

          الاختيار الأمثل لموقع مدينة نموذجية، موقع مطار جديد من خلال اختيار أنسب المواقع لإنشاء الممرات الأرضية أو مدارج المطارات، اختيار مواقع مراكز الخدمات الطبية بعيداً عن مناطق التلوث وارتباط ذلك باتجاهات الرياح السائدة، تخطيط التعدادات السكانية للمحلات العمرانية، تخطيط شبكات الطرق لربط مناطق الإنتاج بمناطق الاستهلاك وربط مناطق السكن بمناطق الخدمات، وغير ذلك من المجالات الحيوية.

          ويمكن القول إن بعض دول العالم الثالث بدأ بالفعل يتفهم النهج التطبيقي للجغرافيا، فانخرط الجغرافيون في هذه الدول بوظائف خارج مهنة التدريس، ففي الكويت على سبيل المثال وعلاوة على حقل التعليم يعمل الجغرافيون في المجال الدبلوماسي وفي مجالات اقتصادية منتجة مثل شركات النفط وقطاع التجارة والصناعة، وفي مجالات التخطيط الإقليمي والإسكان والبلدية ومجالات البيئة والأرصاد الجوية وغيرها.

          ويرى هاجيت أن من توقعات المستقبل بالنسبة للجغرافيين الاتجاه نحو بروز مزيد من التفريعات الجديدة للتخصصات الجغرافية.

الجغرافية التطبيقية تؤكد شخصيتها

          إذا كان هاجيت قد استشعر أن الجغرافيا الحديثة تسير بسرعة نحو مجالات التطبيق الحياتية وتسليط الأضواء بجرأة على مشكلات الإنسان وقضاياه من وجهة النظر الجغرافية، إسهاماً في وجود حلول ناجعة، فإن بعض الباحثين قد سلط الضوء على الجغرافيا التطبيقية بشكل مباشر ومن أبرز هؤلاء الدكتور طه الفرا والدكتور محمد محمدين اللذان يعتبران من قلة الجغرافيين العرب الذين تصدوا لإبراز مفهوم الجغرافية التطبيقية ومجالاتها، وذلك في كتابهما (المدخل إلى علم الجغرافيا، 1984)، فقد ذكر هذان الباحثان أن علم الجغرافيا قد تطور بشكل لافت وتفرعت عنه فروع عديدة لعل من أحدثها «الجغرافيا التطبيقية» التي ظهرت كفرع مستقل في المؤتمر الجغرافي الدولي التاسع عشر الذي انعقد في استوكهولم عام 1960، وكذلك في المؤتمر الجغرافي الدولي العشرين الذي انعقد في لندن عام 1964. ومنذ ذلك الوقت وضح تماماً ظهور الجغرافيا التطبيقية بشخصيتها المميزة كفرع مهم من فروع الجغرافيا وغدت تثبت جدواها تدريجياً في كثير من الميادين الإنسانية.

          وبإجابة مباشرة عن ماهية الجغرافيا التطبيقية والقصد منها يجيب منكهاوس بقوله: إنها تطبيق للأساليب الجغرافية من مسح وتحليل وتعليل من أجل المساهمة في إيجاد حلول لمشكلات العالم، أو هي توظيف للجغرافيا واستثمار لفروعها وأساسياتها لحل مشكلات الإنسان في حيزه المكاني.

          ويذكر الفرا وزميله أن الجغرافي هو المتخصص الوحيد الذي يدرس جميع عناصر البيئة التي يعيش فيها الإنسان، وهي كل ما يتعلق بالظروف الطبيعية من مظاهر سطح ومناخ وتربة وغيرها، أو ما يتعلق بالظروف البشرية من حيث خصائص السكان وتوزيعهم وكثافاتهم وحرفهم. نعم هناك متخصصون مختلفون، كل في مجاله يهتم بدراسة جانب واحد من هذه العناصر ويحلله، لكنه لا يستطيع أن يعطي تفسيراً متكاملاً للحالة قيد البحث، لأنه لا يراها من منظور بانورامي متكامل لسبب بسيط يتمثل في عدم استخدام هؤلاء المتخصصين للخريطة إلا فيما ندر، أما الجغرافي فإنه يوزع الحقائق على أرضية الواقع الذي تمثله الخريطة ويستطيع بالتالي أن يدرس الظواهر دراسة كلية في إطار العلاقة بين عناصر مختلفة وهذا يتيح له نتائج قد لا يتسنى لغيره الوصول إليها.

          إن مجال الجغرافيا التطبيقية من حيث المكان هو العالم بأكمله وهو ما ذكره الجغرافي البريطاني الشهير ددلي ستامب L.Dudley Stamp (The Scope of applied geography is World Wide) وتستطيع الجغرافيا التطبيقية أن تسهم في خدمة جميع قضايا الإنسان وتقدم حلولاً لمشكلاته مثل: الازدحام السكاني، مشكلات شبكات النقل والمواصلات، تخطيط المدن، قضايا الإنتاج على اختلاف أنواعها. ففي مجال الزراعة على سبيل المثال تهتم الجغرافيا التطبيقية بالعوامل الطبيعية المؤثرة فيها والعوامل البشرية الفاعلة أو المعيقة لها وكذلك العوامل التاريخية والاجتماعية التي قد يكون لها جانب في القضية الزراعية، وفي القضايا الصناعية يسهم هذا الفرع من الجغرافيا من خلال البحوث والدراسات بالوصول إلى أسباب إشكالية صناعة ما، باستعراض مقومات الصناعة مثل الأيدي العاملة والمواد الخام ورءوس الأموال والقوة المحركة والأسواق والتخطيط والإدارة الصناعية. علاوة على أنها تطرح رأياً فيما يتعلق بمواقع المصانع وتوطين الصناعات في ضوء المقومات التي سبقت الإشارة إليها إلى جانب العوامل المناخية المتمثلة في اتجاهات الرياح التي قد تحمل الملوثات الصناعية إلى مواقع كتل العمران.

          وفي مجال التجارة يمكن أن تقدم الجغرافيا التطبيقية خدماتها، حيث إن التجارة تعتمد أساساً على اختلاف السلع بين مناطق العالم المختلفة بسبب اختلاف الظروف الجغرافية، وعلى وجود فائض في الإنتاج، فلولا اختلاف السلع ووجود الفائض لما قامت التجارة. وتؤثر في التجارة عوامل بشرية تختلف من إقليم إلى آخر منها اختلاف المستويات الاقتصادية (دول متقدمة وأخرى نامية أو دون ذلك)، وهناك العوامل السياسية ذات الطبيعة المتغيرة، وكذلك طبيعة السكان عدداً وتوزيعاً ونمطاً استهلاكياً، ومن بين العوامل اختلاف العادات والتقاليد والأذواق مما يترتب عليه اختلافات في أنماط التصدير والاستيراد. ويمكن للجغرافيا التطبيقية عن طريق خريطة الإنتاج والاستهلاك أن تقدم تفسيراتها للعديد من التساؤلات التي قد يبديها العاملون في المجال التجاري.

          وللجغرافيا التطبيقية إسهام واضح في مجال الحروب والمعارك الحربية من حيث طبيعة الأرض وتحديات المناخ وحجم القوى البشرية وكلها أمور تحدد نتائج الحروب والمعارك. وفي السياق نفسه تقدم الجغرافيا التطبيقية خدمة للعاملين في المجال الصحي، حيث إنه من المعروف أن الخدمات الصحية ترتبط بمفهومها الوقائي والعلاجي ارتباطاً وثيقاً بالبيئة الطبيعية التي قد تكون مسرحاً لأمراض ذات طابع خاص، فالمستنقعات على سبيل المثال تشكل موطناً للبلهارسيا والإنكلستوما، وتشكل البيئات الملوثة مواطن لظهور الكوليرا. وهكذا يستطيع الجغرافي أن يحدد على خريطة توزيع المناطق الموبوءة وأسباب توطن المرض في منطقة دون غيرها، ويقدم خدماته هذه إلى العاملين في المجال الصحي.

          وتدرس الجغرافيا في جانبها التطبيقي ظاهرة السياحة، فقد ذكر روبنسون وبيرس وغيرهما أن السياحة هي الأنسب لأن تعدّ واحدة من موضوعات الجغرافيا التطبيقية. وشدد روبنسون على نقاط العلاقة بين الجغرافيا وظاهرة السياحة، فذكر أن السياحة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بشكل وتكوين واستخدام المناظر الطبيعية، واختيار مواقع الفنادق علاوة على اختيار المواقع ذات المناخ الأفضل. وهذه نماذج فقط لمجالات الجغرافيا التطبيقية التي أخذت في الاتساع والانتشار لمعالجة موضوعات تهم قضايا الإنسان وترتبط مباشرة بالجغرافيا.

يأيُّهَا الحُبُّ امتزجْ بالحشَى فإنْ في الحُبِّ حياةَ النُّفوسْ
واسلُلْ حَياةً من يَمينِ الرَّدى أوشَكَ يَدعُونا ظَلامُ الرُّموسْ


حافظ إبراهيم

 

غانم سلطان أمان