مغنيات العراق. إرث الجواري وسندان الحروب. سحر طه

 مغنيات العراق. إرث الجواري وسندان الحروب. سحر طه
        

يتلمس هذا المقال واقعاً مريراً وطويل الأمد عاشته المرأة المغنية في العراق. فقد كان عليها وبشكل دائم أن تواجه إرثاً ثقيلاً يتمثل في نظرة المجتمع الدونية إليها، ثم الحروب المتعددة المتوالية، التي كانت من أكثر ضحاياها.

          عدنا بالتاريخ إلى الوراء لنتذكر أن الغناء كان فن المرتزقة ومهنة الجواري منذ عهد الجاهلية. وصناعة تنفرد بها (الإماء) اللواتي يجلبن مع غنائم الحروب والغزوات. فالصغار منهن يتم تعليمهن الغناء على أيدي معلمين وأساتذة موسيقيين ومحترفين لكي يقمن بالترفيه عن الحكام والأعيان وضيوفهم. بعد العام التاسع للهجرة، تعلمت عزة الميلاء على يد سيرين لتكون الأستاذة الأولى في مدرسة الغناء العربي. ثم ازدهر سوق الجواري المغنيات إبان الحكم الأموي، إلا إن العصر الذهبي لهن حل مع مجيء الحكم العباسي حيث شهدت الدولة استقراراً وقوي سلطانها وتحولت مجالس الأنس والطرب من دمشق عاصمة الأمويين إلى بغداد عاصمة العباسيين.

          وفي عصر هارون الرشيد امتلأت القصور بالجواري على شتى سحناتهن وجنسياتهن، مع ازدياد الترف فلم يكن هناك قصر أو بيت من بيوت الأشراف يخلو من هؤلاء إذ كن مظهرا من مظاهر الثراء يرفلن بالحلي والجواهر والحرائر وكان النخاس (بائع الجواري) يصرف الأموال الطائلة لتعليمهن لكنه في المقابل كان يبيعهن بأسعار خيالية خاصة إذا كانت تتقن الضرب على العود وذات صوت مذهل وجمال أخاذ أو تقرض الشعر فحدث ولا حرج، يقال إنه يعود إلى النساء ازدهار الشعر والموسيقى والغناء في العراق لكن ذلك كله كان يتم تحت عنوان البيع والشراء كجارية وليس امرأة حرة.

          وفي سنوات العصر العباسي الأخيرة انتقل الغناء إلى الحانات والمقاهي والمحلات العامة وبات متاحاً لذوي الدخول المتوسطة، بعد تحرير بعض القيان والجواري، لم تكن لهن مهنة أخرى للعيش سوى الغناء فانتقلن للعمل إلى أماكن السهر واللهو حيث يقمن بمنادمة الرواد وتلبية طلباتهم من غناء ورقص وغيرهما.

          هكذا تراجعت مكانة الغناء، بعد أن اعتبره القدماء علماً ومن أسمى الفنون كتبوا فيه المؤلفات، فبات يمثل المجون والخلاعة وعمل الفاسقين والفاسقات فكيف يمكن للمجتمع أن يتقبل بعد ذلك أن تعمل المرأة الحرة في هذا المجال البعيد عن الخلق والاتزان والعادات من وجهة نظرهم؟

الأميرة المغنية

          أما عُلية بنت المهدي، فهي أول امرأة عربية حرة، بل أول أميرة عباسية اشتهرت كعازفة عود وملحنة ومغنية متقنة، لكن كونها أميرة عاصرت خمسة خلفاء من والدها وأخويها هارون الرشيد وإبراهيم بن المهدي إلى ولدي الرشيد: الأمين والمأمون. وربما لهذا السبب كان غناؤها مقتصراً على قصر الخليفة فحسب، لم تغن في المجالس ولم تشارك في ندوات القصر أو ندماء الخليفة إلا إذا طلب منها الأخير هذا الأمر، وكانت الأصوات (الألحان) التي تصنعها تعلمها للجواري وأول من تطارحه (تعلمه) ألحانها الجديدة هو أخوها إبراهيم بن المهدي المغني الشهير، وكان شهيراً لأنه يشارك في مجالس الخلفاء ويطارح المغنين المعروفين الغناء أمثال أستاذ المدرسة التقليدية إبراهيم ثم ابنه إسحاق الموصلي.

          وهكذا لم تنل عُلية حقها من الاعتراف بأستاذيتها وفنها للأسباب الآنفة كلها، فكيف للأميرة أن تكون بمصاف الجارية؟! وبوفاتها ضاعت أعمالها أو انتحلها الآخرون وأولهم أخوها.

          ومع الحكم العثماني استمر الوضع على حاله من التدهور واستغلال الجواري في قصور الحكام والباشوات، ومع إطلالة القرن العشرين كان العراق يشهد فوضى سياسية واقتصادية واجتماعية بسبب استبداد هؤلاء وكان الغناء لايزال يمارس في الملاهي وبعض المقاهي، إلا أنه بعد إعلان الدستور فتح باب الهجرة وكانت أصداء ملاهي بغداد قد انتشرت في الخارج، فلم تتسع الملاهي الموجودة أو الأندية والمقاهي لكل عشاق الغناء فافتتحت أندية جديدة وتوسعت. ولم يكن هناك مسارح لممارسة الغناء قبل عام 1913، حين أنشئ أول مسرح عملت فيه الأختان بدرية وخانم لاطي لكنه أغلق مع إعلان الحرب العالمية الأولى عام 1914.

          وبعد الاحتلال الانجليزي لبغداد راجت سوق الملاهي وكثر الاقبال عليها ولما رأت العراقيات ما تدرّه هذه الملاهي على المغنيات الأجنبيات أو من الجنسيات العربية مثل المصريات والسوريات والفارسيات، بدأن بمزاحمتهن وازداد عددهن، لكن كلا من اللواتي اشتهرن وعرفهن المجتمع العراقي وردد ولايزال أغنياتهن منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم، دخلت هذا العالم إما وارثة المهنة أو باسم مستعار خوفاً من انتقام العشيرة أو كانت هاربة من عائلتها ومدينتها. فاحتراف الغناء للمرأة المسلمة بالذات لم يكن أمراً يشرف العائلات المحافظة فكانت المطربة تعيش في خوف دائم من أخوتها أو أبناء عمومتها أن يقوم أحدهم بقتلها باسم الشرف.

احتقار الغناء

          وقد تكون هناك استثناءات نادرة شذت عن هذه القاعدة بسبب ظرف خاص، لكن لكل ممن اشتهرن قصة محزنة وغالبيتهن قضين أيامهن الأخيرة في فاقة وعوز ووحدة قبل رحيلهن النهائي.. هنا بعض الأسماء المعروفة على سبيل المثال لا الحصر: فمثلاً سليمة مراد عانت في فترة من الفترات كونها يهودية لكنها حين تزوجت الفنان ناظم الغزالي أشهرت إسلامها ومع ذلك لم تسلم من الدسائس فاتهمت بقتل زوجها لولا إعلان براءتها. وهناك وحيدة خليل مثلاً كان اسمها مريم ووالدها عبد الله جمعة، غيرت اسمها لعدم المس بعائلتها. غادرت مسقط رأسها البصرة هرباً من عشيرتها «اللطارنة»، إلى مدينة العمارة ومنها إلى بغداد.ومن ثم باتت تغني عبر الإذاعة. أما صديقة الملاّية فاسمها الأصلي فُرجة ووالدها عباس وكونها من طبقة فقيرة جدا بدأت في الموالد وترأست الندابات في المناسبات الحزينة وفي عاشوراء لذلك أطلق عليها لقب ملاّية. ثم غيرت اسمها إلى صديقة حين بدأت الغناء في الملاهي.

          أما زكية جورج، فكان اسمها فاطمة محمد وهي سورية الأصل قصدت بغداد من حلب، هرباً من شيء ما، أو لسبب غير معروف، وهي صغيرة السن مع شقيقتها وحين بدأت العمل في الملاهي غيرت اسمها. فيما منيرة الهوزوز كان اسمها منيرة عبد الرحمن مع أن الاعتقاد السائد أن اسمها مستعار أيضاً، فهي أيضاً هاربة من عائلتها.

          أما مسعود العمارتلي، فلم يكن سوى مسعودة التي ولدت عام 1901 ومنذ طفولتها عشقت الغناء، وكانت تحفظ وتؤدي الأبوذية والبستات الريفية، وحينما كبرت فرت إلى مدينة العمارة ولبست ثياب الرجال وعرفت باسم مسعود العمارتلي ووصلت شهرته أرجاء العراق كمطرب ريفي ذي صوت شجي من دون أن تثير الشكوك، لكن أمره كشف حين تزوج فدست له زوجته السم ومات. أما عفيفة اسكندر فورثت الفن عن والدتها ماريكة ديمتري. وبالطبع لا يمكننا أن نورد كل الأسماء لكثرتها.

          وعلى الرغم من الحياة الصعبة التي تعيشها المغنية في مجتمع لا يحترمها ولا يثق بها أخلاقياً، فإن اللافت ازدياد عدد المغنيات بصورة غير مسبوقة وتطور الغناء نتيجة ازدياد الملحنين وكتاب الأغنية التي تطلبها زيادة عدد النساء في وقت كان عددهن ربما وصل إلى ضعف عدد الرجال المغنين، حتى بدأت الإذاعة والتلفزيون والمسارح تحل محل الملاهي والمقاهي. لكن مع بداية الثمانينيات كانت المرأة على موعد مع القدر. عادت الحروب تتوالى وبدأ العد العكسي.

المرأة والحرب

          رحلت أسماء عديدة من الأجيال السابقة، وأخرى بدأت بالتواري أو الاعتزال. ورحى الحرب العراقية الإيرانية كانت تطحن الأخضر واليابس. الرجال والشباب مجندون قسراً ومساقون إلى الجبهات، يتساقطون بالمئات بل الآلاف. نساء يترملن وأخريات يفقدن آباءهن، أو إخوتهن أو أبناءهن. والحياة بحاجة إلى الاستمرار، فكيف تستمر إلا بعمل مضاعف من المرأة. بقهر مضاعف وجهود، فكانت تحل محل الأب أو الزوج أو الأخ، لكي تعيل عائلتها، وتستميت بشتى الوسائل لكي تستمر. وما كادت تتنفس الصعداء، بانتهاء كابوس هذه الحرب حتى، أُدخلت في دوامة حرب أخرى، بدخول صدام إلى الكويت واحتلالها، فكانت الطامة الكبرى على الشعب، وعلى المرأة بالذات فمع فرض الحصار، ووضع العراقيين في سجن كبير، ومرير، لسنوات تراجع على أثره كل مايتعلق بالفكر والثقافة والإبداع، وزادت أعباء المرأة تحت الضغوط الجديدة، فهي فقدت الكثيرين في عائلتها وفقدت المال والحماية والقدرة على الوقوف وعلى التعبير. راحت طموحاتها أدراج الرياح ودفنت مواهبها بل ونسيت في دوامات الحروب معنى وضرورة الفن، بل إنني أعرف أن بعضهن لا يستمعن إلى الغناء بل الندب فحسب، بل البعض يعتبره وكأنه أمر آت من كوكب آخر، وبات المجتمع في غالبيته ينظر إليه كضرب من ضروب الرفاهية والبطر، وهذان أبعد ما يكونان عن المجتمع، وبدأت التيارات الدينية والسلفية تزحف وتسيطر على شرائح واسعة من المجتمع، ومع سقوط النظام السابق واحتلال العراق بدأت الحملات تشتد على ضرورة حجاب النساء فبات مشهد الحجاب يسود الشارع، ونحن نعرف موقف هذه التيارات من الغناء، وخاصة غناء المرأة.

          وهكذا، بعدما أحصى الشاعر عبد الكريم العلاف في كتابه «قيان بغداد في العصر العباسي والعثماني الأخير»، ومن أوائل القرن العشرين حتى أواخر الستينيات منه، ما يقارب مئتي مغنية معروفة (وغيرهن أقل شهرة) نصطدم اليوم بواقع مفجع، إذ ما نسمعه اليوم من أصوات نسوية عراقية قد لا يتجاوز أصابع اليدين، غالبيتهن، بدأن في سبعينيات القرن الماضي وما بعدها بقليل. شاء لبعضهن القدر الانطلاق من المنافي، والبعض الآخر البقاء في الداخل، من دون عمل في الغالب، أو العمل حسب الإمكانات الضئيلة. فيما لم تنتج سنوات التسعينيات وبداية الألفية الثالثة حتى اليوم ما يبشر ببروز أصوات نسائية عراقية، كتلك التي لاتزال ترن في البال والجدان.

قالوا تَحرَّرْتَ مِنْ قَيْدِ المِلاحِ فعِشْ حُراً فَفِي الأَسْرِ ذُلٌ كُنتَ تَأباهُ
فقُلْتُ يا لَيْتَه دامَتْ صَرامَتُه ما كان أَرْفَقه عندي وأَحْناهُ
بُدِّلْتُ منه بقَيْدٍ لَسْتُ أفْلتُه وكيف أفْلتُ قَيْداً صاغَهُ اللهُ
أَسْرَى الصَّبابَةِ أَحْياءٌ وإنْ جَهِدُوا أَمّا المَشِيبُ ففِي الأَمْواتِ أَسْراهُ


حافظ إبراهيم

 

سحر طه   




مائدة نزهت





عفيفة إسكندر





إنعام والي





بلقيس





زهور حسين





وحيدة خليل





فريدة محمد علي





سليمة مراد





أمل خضير





زكية جورج





صديقة الملاية