الفن المعاصر من الانطباعية إلى ما بعد الحداثة

 الفن المعاصر من الانطباعية إلى ما بعد الحداثة
        

تحتوي مادة كتاب «قراءات في فن التصوير الحديث» لمؤلفه الفنان التشكيلي د.يوسف غزاوي على بانوراما تاريخية نقدية للتصوير منذ الانطباعية الأولى وحتى مدارس ما بعد الحداثة.

          يتبنى المؤلف د.غزاوي في تعريفه للتصوير الحديث (وهو بادئ ذي بدء يميز في عنوان كتابه التصوير Peinture من الرسم Dessein) تعريف مالكوم برادبري للحداثة بأنها فعل تقوم به الروح الإنسانية لكي تحقق انسلاخها ليس فقط عن ماضيها ولكن أيضًا عن حاضرها، فنهدم بهذا ما كانته لا رغبة في بناء مستقبل ما ولكن رغبة في الخلاص من وضع ما. أما مصطلح «ما بعد الحداثة» فيعرّفه إدوار لوثي سميث بالحداثة المتأخرة ويعرّفه الكاتب بأنه «العودة إلى القديم بلباس جديد»، ولكن، في الحقيقة المفهوم أشمل من ذلك وينطوي على ربط المعنى بالقيمة والجدة والمغامرة.

          أما عبارة الفن المعاصر فيربطها الكاتب بنتاجات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي خليط من الفن التقليدي ومن الفن اللافن Anti- art ويقدم دليلاً على ذلك الفن المفهومي والحقيقة أن هذه التعريفات ليست نهائية ولا ختامية وهي مثار خلاف واختلاف بين مؤرخي الفن التشكيلي الحديث.

          والمؤلف يقر بأن التعريفات ليست قاطعة فيما يتعلق بالمدارس الفنية والاتجاهات، ناهيك عن الفنانين حيث يمكننا نسبة أعمال أحدهم إلى أكثر من تيار وأسلوب واتجاه كما هي الحال مثلاً، مع جورج روو وأوتو ديكس وغروس ومونخ... وغيرهم. وقد يصل الأمر إلى نسبة التيارات إلى أسماء الفنانين الرواد نظرًا لتعدد المدارس والتيارات الفنية وتنوعها وكثرتها وتعدد أساليبها التشكيلية الأسلوبية والجمالية.

          أعار الانطباعيون في ثورتهم على الكلاسيكية الظواهر الضوئية والجوية اهتمامًا كبيرًا، في الأسلوب والشكل والموضوع، وهم أعادوا الاعتبار إلى الألوان الأصلية كما يظهرها الموشور أو قوس قزح، الألوان البصرية المرئية واللامرئية فاتخذوا الألوان الحارة للأقسام المضيئة والألوان الباردة للظلال وركزوا في معالجتهم للنور والضوء على إبراز الألوان الأصلية.

          كما ركزوا في موضوعاتهم على الماء والهواء الطلق والطبيعة الخارجية، واهتموا بالتعبيرات الجمالية التي تحيط بالمادة أكثر من المادة عينها، فأضافوا على لونيهم نبرات رمزية وغنائية وشاعرية، وأعادوا النظر بتوزيع علاقات النور والظل، والكتل المختلفة، والعلاقات بين العناصر، بما يخدم الإحساس الفني الخاص للفنان في علاقته مع موضوعه التشكيلي.

          واعتمدوا التنقيط كتقنية أسلوبية جديدة، كما أعادوا الاعتبار إلى الألوان النقية الصافية (الوحشية والبدائية) في منظور أنثربولوجي جديد.

وجوه فان جوخ

          وقد عمد المؤلف غزاوي إلى إفراد دراسة خاصة حول رسم الوجوه عند فان جوخ (الأوتوبورتريه) فوجد أن فان جوخ كان يرسم كما يجب أن تكون عليه الشخصية لا كما هي عليه، إذ يدخل موقفه الشخصي والنفسي التعبيري على موضوعاته وألوانه، جاعلاً من لغته التشكيلية لغة جمالية ونفسية وروحية توقظ الروح وتخاطب العقل، وتربط البصر بالبصيرة.

          وكالانطباعيين، كان تيار الأنبياء Les Nabis مهتمًا بفنون النقش الياباني والعربي، وتميزت موضوعاتهم من الوجهة الاستيطيقية باللجوء إلى إبراز حوافي الخطوط، وظلالها ورقوشها، بالألوان الصافية المشرقة والمسطحة، البارزة.

          وقد انبثقت الوحشية من مدرسة الأنبياء (ماتيس، فلامينك، ديران.. وغيرهم).

          كان هؤلاء يركزون على قوة اللون وإمكاناته التصويرية والتعبيرية، بلغة جديدة مبتكرة، وعلى حرية الشكل التعبيري كقيم جمالية قائمة بذاتها. وقد تأثر ماتيس بالتنقيطية وبالنقش العربي حيث يتحول الموضوع التشكيلي إلى تأليف دلالي زخرفي (لوحات الرقص 1909 - 1910) و«سعادة الحياة» (1906).

          أما في أعمال المدرسة التكعيبية فيتحول الخروج على خط الأفق إلى أشكال هندسية، تكعيبية، تمتزج وتتداخل فيها الأشكال والنسب والكتل في شكلانية فنية تجعل من الشكل التكعيبي قيمة قائمة - بذاتها ويطور بيكاسو أسلوبية براك التكعيبية، بكسر الأشكال وتسطيحها، مستلهمًا في ذلك الفن الزنجي والفن البدائي والساذج، وقد عمل بيكاسو وبراك معًا، وتوضح هذا الاتجاه التكعيبي عام 1909، فأصبح اللون أصمّ (رمادي، بني) وخضع اللون للشكل، وقد أخذت التكعيبية منحى تفكيكيًا ضد - انطباعي فيما يتعلق بالخط واللون والشكل.

          ومن أبرز التكعيبيين بعد براك وبيكاسو ليجيه الذي اهتم في أعماله بصورة رئيسية بإبراز التضاد الخطي والهندسي واللوني، في أشكاله المخروطية والأسطوانية.

          وقد ركز التكعيبيون على التأليف بين الإيقاع والانسجام والتوازن أكثر من اللون والموضوع والانطباع في تعبيرهم عن ماهيات الأشياء متأثرين بفلسفة برغسون الحيوية، ونسبية أينشتاين وشعرية مالارميه.

          أما المدرسة التعبيرية فتعود إلى بدايات القرن العشرين 1910 - 1920 بمناخاتها السوداوية التي تركت آثارها على الفن التعبيري، ونجدها في أعمال إدوارد مونخ بشكل بارز الذي يسيطر على أعماله الحزن والقلق النفسي والوحدة والشعور بالموت والخوف من المرض في رسم الفنان للكائن البشري أو الطبيعة. ولوحته «الصرخة» المشهورة هي التعبير عن مأساوية الفن التعبيري السوداوية الدالة على درامية الوجود والأحداث الشخصية والإنسانية بصفة عامة.

          وقد أثّرت أعمال مونخ في بعض الرسامين أمثال كيرشن وشميتن روتلف وهيكل الذين شكلوا عام 1905 في درسرن جماعة الجسر. والتعبيريون يثورون ضد أخلاقية المجتمع البورجوازي، ويرفضون الأكاديمية في الفن، ويعبّرون في أعمالهم عن مناخات الاضطهاد والظلم والألم، في عزلة الكائن البشري وغربته.

          وعلى هامش التيارات الفنية الكبرى التي عرفتها أوربا مثلت «مدرسة باريس» حركة فنية خارجة عن المدارس النظامية الرسمية، فموديلياني يتميز بالتمرين الأسلوبي اللغوي، الدلالي، والرقيق. وشاغال يتميز بنزوعه السردي اللاواقعي (شبه السوريالي).

          والفن التجريدي - بعد التكعيبية والمستقبلية - أحدث الانقلاب الكبير في تطور الفن المعاصر. وفي هذا النوع من الفن يتم تجريد الواقع من كل العناصر الخارجية (البرّانية) بإبراز الحد الأقصى من قوة الأشكال والألوان، والخطوط والنسب والكتل للتعبير عن دخيلة الفنان وإحساسه وأفكاره الخاصة.

          وأصبح العمل التشكيلي عبارة عن أشكال وألوان رمزية، منطقية، بنائية تعبّر عن الموضوعات بلغة إشارية ودلالية تعبّر عن واقع تجريدي من خلق الفنان وروحه وذوقه الشخصي في علاقة المرئي باللامرئي في الفن.

          ومن أبرز رواد الفن التجريدي فاسيلي كاندنيسكي وبيار موندريان، وقد تأثر هؤلاء بالمدرسة الشكلانية الروسية في الفن التشكيلي. 

تجريد الواقع الخارجي

          عام 1908 كان الكشف الأول لكانديتسكي عما يسمى التصوير اللاتمثيلي، وهو التعبير الصافي عن الضرورة الداخلية «المجردة» عن الواقع الخارجي. وتعتمد التجريدية على الإيقاع المنطقي والموسيقى والشكلية في انتقال اللوحة عن الطبيعة، بنوع من «الفن المحض» كالموسيقى، التي تعبر عن خلجات الروح والوجدان والذائقة الميتافيزيقية.

          وبعد الحرب العالمية الأولى مباشرة 1919 أسس المهندس الألماني غروبيوس مدرسة الباوهاوس، وهي عبارة عن مدرسة حديثة جمعت الهندسة والتصوير في وحدة متكاملة، واقترحت إدخال الفن إلى الحياة العامة، متجاوزة التناقض ما بين العلم والفن، الداخل والخارج، التجريد الفني والهندسة البنائية.

          ويتميز التصوير الميتافيزيقي مع جيوريو دي كيركيو وأنصار هذه المدرسة بصفة عامة بتعبيرية فلسفية، تصدر حالات الاغتراب والعزلة، والتأمل الماورائي في الحياة والموت والمصير الإنساني. وقد حقق دي كيريكو عام (1911) أول أعماله «أطياف ميتافيزيقية» بمنأى عن أعمال الطليعيين الانطباعيين والتكعيبيين، واصلاً أبحاثه الميتافيزيقية بمناخات عصر النهضة في تصويره للوجوه، والعمارات الفارغة، والأشكال والوجوه (هيكتو رواندروماك 1916) والرسم المقدس (1915) قبلها إلخ.

          والدادائية مفردة استعملت للإشارة إلى موقف تجاه الحياة والفن انتشر بشكل واسع في الوسط الفني العالمي في مناخات الحرب الأولى (1914)، وهي نوع من الثورة ضد تقاليد المجتمع. وقد جاءت أعمال الفنانين الدادائيين عبثية خالية من المعنى، مع أنها تحمل وتعبر عن معان فلسفية عميقة، ترفض ما هو سائد واصطناعي واستهلاكي في المجتمع الحديث، وهي مدرسة تأخذ المهملات والأشياء المهملة القناني، العلب، وقصاصات الورق والأقمشة وتجعل منها أعمالاً فنية متميزة. وقد عرض مارسيل ديشومب في لغته الدادائية الجديدة طريقة جديدة في التعبير الفني، فتحت أبوابًا واسعة لتيارات الفنون المعاصرة من مفاهيمية، واصطناعية، وهي تجعل من عاديات الأشياء موضوعات فنية غير عادية كأنها بذلك تعمم الفن وتدعو إلى مشاعية الفن باعتبار أن كل الناس فنانون.

          والسوريالية، كامتداد عالم للدادائية أعطت مغامرة الروح إمكاناتها القصوى، رابطة الوعي باللاوعي، والواقع بالواقعية المغلقة (الحلم) متأثرة بالتحليل النفسي الفرويدي.

          ويميل الكاتب إلى ماكس أرنست باعتباره «الساحر الأكبر في مجال التصوير السوريالي دون منازع» والفن السوريالي كما هو معلوم «يحول الواقع إلى واقعية مطلقة» كما يقول أندريه بريتون في «البيان السوريالي»، وهو يفرد دراسة خاصة لأرنست، ويمر على أعمال خوان ميرو، وماغريت، وسلفادور دالي الذي يجد عالم الوعي في أعماله أقل عفوية من ميرو، وغرائبيته أقل إدهاشًا مع أن سلفادور دالي يعد الرائد الأول للسوريالية، وقد يليه من وجهة نظرنا ماغريت، في أعمالهما السوريالية ذات البعد الجمالي والسيكولوجي والفني المتعالي. إن استعمال المعرفة المستقاة من قراءة فرويد وتفسير أحلامه وعلاقة الروح باللاوعي تميز الفنانين السورياليين، قاطبة (دالي، وميرو، وماكس أرنست وماغريت) وبالنسبة لماكس أرنست كان استعمال المنابع التصويرية دون علاقة بينهما مركز أبحاثه الفنية. لكن أعماله ليست بلونية، ولا انسيابية ولا غنائية دالي وماغريت التعبيرية الغنية.

          وفي خضم حركة التجريب التعبيري - التجريدي، تبرز ما بين 1950 - 1960 حركة الفن اللاشكلي، وهي حركة تجريبية مطلقة تتخلى عن الباليت والفرشات وأدوات الرسم والتصوير العادية مفضلة عليها أدوات العصا والمسامير والعجينة اللونية المخلوطة بالرمل أو قطع الزجاج المجروش أو غيرها من المواد اللونية والتشكيلية الغريبة والمبتكرة.

          أما الممثلون الأكثر أهمية والأكثر دلالة للفن الحركي اللاشكلي فمنهم بولوك وكلاين ودي كوننغ، وتقوم تعبيرية هارتونج اللاشكلية على التجريد البنائي الذي يرتكز على القيمة المطلقة للشكل.

          ويعتبر بولوك من أهم شخصيات التصوير الحديث في أمريكا، لاسيما في الأعمال التي تظهر العنصر التشخيصي مقروءًا ومرئيًا بطريقة تعبيرية مشوهة منبعها علاقة الوعي باللاوعي كتقنية الرش، وهذا يعني سكب اللون على القماشة الممددة على الأرض بحيث يستطيع الفنان العمل عليها من كل الجهات والمشي عليها.

          وقد تأثر فرانك ستيلا بالجيل الأول الأمريكي أمثال جاكسون بولوك وفرانز كلاين. وقد رفض ستيلا الحركة التعبيرية في الرسم والانسجام الكلي للون (في رسومه السوداء، أو الرسوم الأحادية اللون، إضافة إلى التصوير على المعدن، والهندسة المكررة لمصلحة الأشياء النافرة التي راكمت في اللوحة عددًا غير محدد من الأنسقة البصرية المتعارضة في علاقة المرئي باللامرئي، في فضاء متعدد الأبعاد. أما الفن البصري، فقد ظهرت بشائره مع الانطباعية الجديدة ومع ديلوتي، ثم مع الطليعيين الروس والباوهاوس. وهو فن سينامي يقوم على اللعبة البصرية، أي على لعبة الخطوط والألوان، أو حركة المشاهد من خلال تنقله.

          وفي هذا الفن يصبح الفن عبارة عن لعبة تأليفية تركيبية متعددة الأشكال، تركيبية، تأليفية، لانهائية.

          والواقعية الجديدة التي ظهرت في ألمانيا مع أوتو ديكس وجورج غروس تميزت بأعمال فنية سياسية تنتقد المجتمع من خلال تشويه الأشخاص، وإظهار الموضوعات بصورة غريبة ومفجعة، في العالم البوهيمي، وعالم البروليتاريا والنساء الحوامل العاملات والبؤس والقذارة والفساد السياسي.

          أما الواقعية المفرطة، فهي تيار في الرسم والنحت جاء كرد فعل على التعبيرية التجريدية والفن المفهومي لكونه فنًا واقعيًا أكثر من الواقع، وهو يقوم على التصوير الدقيق، ولكن البارد الشعور، وطريقة الرسم فيه تقوم على الخداع البصري التي تضيع فيها الحدود ما بين الصورة الفوتوغرافية واللوحة التشكيلية.

          أبرز ممثلي هذا التيار الفنان الأمريكي جون دي أندريا، ودوين هانسون وغيرهم.

          ويعتبر الفن المفهومي أو التصوّري، الشكل الأكثر راديكالية لفن القرن العشرين، وهو فن أمريكي ظهر بصورة موازية مع موجات ثورة الشباب والحركة الطلابية والروك والثقافة المضادة. وهو فن يدعو إلى الثورة ضد «عالم الفن» وضد العالم بشكل عام دون أن يمس جوهر الفن بذاته.

          إن فنان المفهوم ينطلق من مسلمات نزوية، بطريقة تقوم على جمع عناصر بسيطة وأصوات لغوية وأشكال هندسية بسيطة تنسق تبعًا لبعض المعالم الرياضية أو الألسنية لصياغة «العمل الفني».كاستعمال الحقائب المستهلكة، والعلب الفارغة، والبناءات الهندسية، بصورة منسقة، وعفوية في آن.

          ويعتبر فن الفيديو امتدادًا للفنون المفهومية، التصويرية، والفيديو، تجتمع فيه كل التقنيات الممكنة، بمستويات عدة (موسيقى، أو تصوير فوتوغرافي يمكن أن تستعمل لخلق فنون بصرية سمعية خارقة في علاقة الصوت بالصورة).

          من هذه الأعمال - مثلاً - مشروع فيلم فيديو بعنوان «غزو الواقع». وهو عبارة عن فيلم يدور في مكان متخيل تنصهر فيه ثلاث مدن هي باريس، برلين ولشبونة. كتاب الدكتور يوسف غزاوي من الغنى بحيث لا يمكن الإحاطة به إلا من خلال قراءته المتأنية، والمتمهلة، ولذلك تبقى كل قراءة له قراءة على القراءة، وكتابة على الكتابة، لعمل كبير كتبه الباحث الفنان برؤية الفنان والمؤرخ النقدي، بريشة عالمة ومفكرة.

 

جميل قاسم   




حضور العقل.. للفنان رينيه ماجريت عام 1960





مصارع الثيران.. للفنان الاسباني بابلو بيكاسو عام 1923





الزجاج والصحف.. للفنان جان كريسي عام 1916





الخط الأبيض.. للفنان فاسيلي كاندنيسكي





غلاف الكتاب





الأنف.. للفنان ألبرتو جياكوميتي





صورة جانبية للمرأة.. للفنان ليبون بوبوفا 1915





الخروج إلى الريف.. للفنان فرنياند يج عام 1954