الكويت اليوم.. مطبعة ومطبوعة

 الكويت اليوم.. مطبعة ومطبوعة
        

          تصاحبك انطباعات الشوارع الدالفة إلى مطبعة الحكومة (الكويتية)، وتلون الأجواء الحاضنة لرحلتك بلون الشمس الذهبية. وعندما تطأ قدماك أرض المبنى الذي تهدر بين جنباته أصوات ماكينات هايدلبرج الرمادية، تجد نفسك وقد أصبحت بالضبط على البرزخ الفاصل بين عالمين مختلفين: الطبيعة والمطبعة.للأجواء المكشوفة بمدينة الكويت سمت طبيعي نهاري القسمات والتقاطيع .. تلعب فيه الشمس دور البطولة المطلقة. وبقدر ملحمية نهار الكويت، بقدر درامية النقلة التي تحسها وأنت تخطو من وضع الطبيعة إلى داخل المطبعة. وفور أن تجد نفسك أمام ماكينة طباعة في مطبعة الحكومة (الكويتية)، تنسحب من رأسك انطباعات الخارج هاربة لتفسح مكانها لانطباعات أخرى جديدة تماماً، يسميها المثقفون بـ «الحداثة». فالكويت مدفوعة إلى الحداثة - نكاد نقول - رغماً عنها.فالطبيعة لم تحنُ عليها لتتمنى أن تبقى عندها أو أن تعود إلى حالها.  

          من هنا نمسك بداية خيط الفهم لأهمية النقلة التي أنجزتها الكويت في عام 1954، بقرار الانتقال من الطبيعة إلى المطبعة. تصفح صور مطبعة الحكومة المرفقة بالاستطلاع قدر ما تستطيع، ستلاحظ ظاهرة عجيبة، وهي أن جميع من يقفون إلى جوار ماكينات الطباعة، يعجزون عن رفع أبصارهم عنها، كأنما هم مسحورون فلا يملكون تحويل أبصارهم عن ماكينات الطباعة الهادرة إلى ما عداها.

          وهذه قاعدة قلما تجد لها تبديلاً، مهما استعرضت من صور المطابع عبر العالم.

          فصدمة الحداثة هي أن تقف مشدوهاً أمام ماكينة طباعة، فالمطبعة تصنع عالماً جديداً يختلف تماماً عن عالم الطبيعة، خارج المطبعة.

          وكل من سحرته المطابع ذات مرة في حياته يعلم تمام العلم أنك مهما قرأت عن الحداثة واستوعبت مفاهيمها، فستبقى جاهلاً بها، إن لم تقف مشدوهاً، ومسلوب اللب، أمام ماكينة طباعة تعمل على صنع الحداثة. أي إذا لم تعرض نفسك عامداً لصدمة الحداثة التي تسببها ماكينة الطباعة لكل بشري يقف أمامها. فلا يمكن لمن لم ير مطبعة وماكيناتها الطابعة أن يدرك المعنى الحقيقي للثورة الصناعية الحديثة، وللحداثة بشكل عام. ففي آلية المطابع ومنطق عملها ونظرية تشغيلها يكمن فحوى الحداثة الصناعية والفكرية بقضها وقضيضها.

          إذا أردت أن تختار آلة تلخص فكرة الحداثة فلن تجد ضالتك في السيارة أو الصاروخ ، بل في المطبعة ، فالحداثة وليست الحداثة عملية الكتابة ولا هي عملية القراءة ولا حتى عملية التفكير. فهذه العمليات كلها كانت معروفة وستظل مدى التاريخ، قبل الحداثة وأثناءها وبعدها. ولكن العنصر الأساسي الذي تغير بين الحداثة وما قبلها كان هو المطبعة.

          فالمطبعة هي بحق صانعة الحداثة.

          وهذا ينقلنا إلى طرف خيط جديد:

          كي تنتقل من حال الطبيعة إلى حال الحداثة، فلابد من صدمة المطبعة. فلا حداثة، دون مطبعة!

          كان ذلك هو نفس طرف الخيط الذي التقطه الأمير عبد الله السالم الصباح عندما أصدر قراره بإنشاء دائرة المطبوعات نهاية عام 1954، وذلك بغرض: «أن تتولى طبع ونشر الجريدة الرسمية وجميع المطبوعات الحكومية على أن تزود بمطبعة حديثة».

          ولا عجب أيضاً أن يكون هذا العام 1954م هو نفسه عام تأسيس شركة طيران الخطوط الجوية الكويتية.

سيرة مطبعة الحكومة

          برزت الحاجة لإنشاء مطبعة الحكومة، بعد صدور الجريدة الرسمية لدولة الكويت «الكويت اليوم» في 11 ديسمبر عام 1954. وذلك حتى تؤمن طباعة الجريدة الرسمية وتلبي حاجة الإدارات الحكومية الأخرى من المطبوعات.

          وفي صيف 1956 صدر القرار بإنشاء مطبعة حكومة الكويت، واتخذت من الطابق الأرضي لدار العوضي في منطقة شرق مركزا لها بإمكانات متواضعة تنفيذا لرغبة الحكومة بتحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها وهي (طباعة الجريدة الرسمية وتأمين حاجات الإدارات الرسمية من المطبوعات) وما لبثت أن انضمت مجلة العربي وملحقاتها ومضابط مجلس الأمة إلى مجموعة من الدوريات الرسمية التي يتم انجازها في المطبعة. وفي أوائل العام 1962 جرى تشييد مبنى جديد لوزارة الإعلام في منطقة الصوابر وكانت حصة المطبعة الطابق الأرضي والسرداب، واستمرت في هذا المبنى حتى الشهر السابع من العام 2003 حين انتقلت المطبعة إلى المبنى الجديد بالشويخ.

          المبنى الحالي الذي تشغله المطبعة في الشويخ تم بناؤه في العام 1981 وفق أحدث المواصفات العالمية في عالم المطابع، وبسبب بعض العوائق تأجل افتتاح المبنى لسنوات جرى خلالها البدء بالتجهيزات وعندما قاربت على الاكتمال داهمها الغزو العراقي عام 1990 حيث سرق الغزاة كل ما حواه المبنى من تجهيزات حديثة، ثم أعيدت عملية التأهيل وتم الانتقال في يوليو 2003.

          يتألف المبنى من ثلاث صالات متلاصقة وعلى مسطح واحد، مساحة كل صالة عشرة آلاف متر مربع.

          الصالة الأولى جنوباً تتقاسمها الإدارة وقسم الأختام ومراقبة الجمع ومراقبة الزنكوغراف ومراقبة الجريدة الرسمية؛ تليها الصالة الثانية في الوسط وهي تشغل مراقبة الطبع والطوي ومراقبة التجليد والكراسات ومراقبة الميكانيك؛ أما الصالة الثالثة الشمالية فتضم بعض المعدات الطباعية ومعظم مساحتها غير مشغولة حالياً.

          يبلغ عدد العاملين في مطبعة  الحكومة 817 شخصاً منهم 160 شخصًا على بند المكافآت.

          يبلغ المعدل المتوسط لاستهلاك الورق والكرتون سنويا في المطبعة بمعدل مليون دينار كويتي أو ما يوازي 3500 طن كما يبلغ المعدل الوسطي لاستهلاك المواد الأولية الأخرى من أحبار وبلايتات وغراء وأفلام وسواه ما يوازي 300 ألف دينار كويتي تقريباً.

          أما فيما يخص المكائن والتجهيزات فهي مختلفة الأعمار والمستويات، فبعضها يتجاوز عمره الثلاثين عاما والحديث منها بعمر خمس سنوات تقريباً. وبشكل عام يوجد الكثير من النواقص لمواكبة التطورات وتلبية للحاجة المتزايدة من الإدارات المعنية.

مطبعة الكويت وتاريخ الكويت

          يستند جزء كبير من تاريخ الكويت الحديث والمعاصر إلى مطبعة الحكومة. فقد أنشئت مطبعة الحكومة لإصدار المطبوعات الرسمية للدولة الكويتية، بمعنى أنه ترسخ بوجود المطبعة بالكويت طابع رسمي للدولة الكويتية. فكانت المطبعة تطبع جوازات السفر والصكوك الرسمية وأختام الدولة ونماذج الإجراءات الورقية المعتمدة كافة. وكان هذا الجزء الحساس من المطبعة يطلق عليه اسم «المطبعة السرية». وكان محظوراً دخوله على غير العاملين فيه، والذين كانوا ينتقون بعناية من الأمناء وأصحاب الذمم الناصعة. فقد كانت مواقعهم على نفس درجة الحساسية والأهمية التي لموظفي البنك المركزي والعاملين في طباعة النقود. وسيظل لكل من عمل في مطبعة الكويت مساهمة فعلية ما في بناء دولة الكويت المعاصرة، حرفاً بحرف وورقة بورقة.

دور مطبعة الحكومة في الثقافة العربية

          يمثل تاريخ مطبعة الحكومة في الكويت زاوية لا يستهان بها من تاريخ الثقافة العربية ككل.

          فقد أصدرت مطبعة الحكومة طبعات أثيرة إلى قلوبنا، فمنها سلسلة المسرح العالمي، وسلسلة عالم المعرفة، وعالم الفكر، ومجلة العربي ومجلة الثقافة العالمية.  كان أغلب المثقفين العرب، وما زالوا، يهرعون للحصول على هذه الطبعات الكويتية فور خروجها من المطبعة، كما يهرع الطفل لتلقف الرغيف الساخن الخارج لتوه من الفرن. بل وقد تحولت هذه الإصدارات الكويتية إلى علامة أكيدة على أن شهراً جديداً قد ولد في حياة الثقافة العربية، ليقضيه القارئ العربي في قراءة الإصدار الجديد من مطبعة الحكومة، إلى أن يأتي الإصدار التالي في شهر جديد.كسرت المطبوعات الكويتية هذا القانون الحديدي، ونأمل أن تظل قادرة على كسره دوماً، لأنه يعني الكثير لقراء العربية في مختلف البلدان، التي ما عادت تحصل على شيء به بريق من بهجة حقيقية، بعيداً عن القوانين الحديدية للفعل ورد الفعل المادي.

          فهذا القانون الحديدي للفعل ورد الفعل، الذي تطبقه أغلب دور النشر العربية، هو المسئول الرئيس عن انحسار ظاهرة القراءة في البلدان العربية. وهو ما يؤدي إلى أن تنحصر الثقافة في فئة محدودة من الناس، ويحد ذلك من انتشارها.

          دوماً كانت طبعات مطبعة الحكومة الكويتية في بيوت العرب علامة على الثقافة الخالصة، غير المقترنة برغبة ناشريها في الكسب المادي، على عكس السائد في أغلب دور النشر والمطابع الأخرى.

          قد لا يدرك كثيرون الأثر الحقيقي الذي تركته المطبوعات الكويتية على نفوس قراء العربية ومثقفيها في مختلف البلدان العربية. فهذه الظاهرة لم تلق بعد ما تستحقه من اهتمام. لكن المؤكد أنها كونت جزءًا مهمًا من وعي وفكر جيل كامل من القراء والمثقفين العرب، منذ بداياتها في الستينيات إلى الآن، وفي جميع البلدان العربية.

          ساد شعور أصيل بالامتنان لدى غالبية القراء العرب، الذين ذاقوا البهجة النقية لمطبوعات مطبعة الحكومة الكويتية، وكانت أعينهم تتوق للاستئناس بأسماء رؤساء التحرير ومستشاري التحرير الذين كتبت أسماؤهم على ترويسة الصفحة الأولى الداخلية، منذ أحمد مشاري العدواني إلى محمد الرميحي إلى سليمان العسكري. ومع كل تغير في الأسماء، كان القراء يتوقعون تغيراً طفيفاً في الألوان والتصميم الخارجي، ولكن تبقى القيمة الفكرية التي يجدونها بالداخل غالية، وعصية على الخضوع للقانون الحديدي، الذي بدأ يطغى في كل مكان خارج الكويت.

          في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، لم يكن هناك منافس لمطبوعات مطبعة حكومة الكويت، لدرجة أن النسخة نفسها كانت تقرأ ويعاد بيعها وشراؤها مئات المرات في المكتبات التي يعرفها مدمنو القراءة المخضرمون. كان سعر النسخة القديمة من مطبوعات مطبعة الحكومة يرتفع بتقادم الزمن عليها. فكأنما هي من الذهب الذي تزداد قيمته بتقادمه.

          لم تكن كتب مطبعة الكويت سهلة التقادم، فالخامات التي صنعت منها أكثر من ممتازة، لدرجة أن تعاقب السنوات وتلاحق عوامل التعرية عليها، كان يزيدها رونقاً وجمالاً، وكأن في الأمر «سر صنعة» تحفظه المطبعة لنفسها.

          ورغم امتياز مطابع بيروت،  فإن القارئ المخضرم يعلم أن مشكلتها كانت في ألوانها التي تذوى، بمرور الزمن، فتتحول أغلفتها إلى الأبيض الباهت بعد أن تضربها الشمس، وتلاحظ بعض التآكل والاصفرار في حوافها. كذلك كانت مطابع القاهرة على نفس درجة التميز، ولكن القارئ الخبير، كان يعلم أن نقاط ضعفها تكمن في الخيوط التي تشد ملازمها إلى بعضها البعض، ومادة أوراقها التي كانت تتشبع برطوبة التخزين، وتحسها الأنامل التي تقود العيون أثناء القراءة.

          خلت مطبوعات مطبعة الحكومة من مثل هذه العيوب. فأنت إن ذهبت إلى مكتبات سور الأزبكية الشهير بميدان العتبة بالقاهرة، ستجد أن نسبة مطبوعات مطبعة الحكومة الكويتية هي السائدة هناك ولا تقاربها أي نسبة أخرى من أي جهة. بل إن الطبعات القديمة من سلسلة عالم المعرفة والمسرح العالمي تباع - في الأسواق غير الرسمية بالطبع - بأسعار أعلى من أسعار الطبعات الجديدة التي أعيد إصدارها منها. ويندر أن تجد نظيراً لهكذا تفضيل للإصدارات القديمة على الجديدة إلا لمطبوعات مطبعة الحكومة (الكويتية)، التي عمت البلدان العربية، واستمرت تصنع فيها عقولاً - لدى القراء - ودخولاً - لدى من يعيدون بيعها - إلى الآن، فكانت بمنزلة نخلة عربية تسّاقط رطباً طرياً.

          وصل الإعداد لتطوير مطبعة حكومة الكويت ذروته قبيل الغزو العراقي. فقبيل الغزو، كان الكويتيون متفائلين للغاية للدخول بكل ثقلهم في مجال الثقافة العربية. وأعدوا لهذا الغرض كل ما استطاعوا من طابعات متقدمة وباهظة. استغرق الإعداد لتطوير المطبعة وجلب الماكينات الثقيلة لتطويرها حوالي 6 سنوات كاملة. وتم تخصيص أراض ومبان جديدة لها في منطقة الشويخ، التي تمثل العاصمة الصناعية للكويت. إلا أن الغزو العراقي قضى على كل هذه الخطط، فقد سلب المطبعة معداتها الجديدة التي كان لاتزال ترفل في صناديقها وأكياسها التي وردت بها للتو من ألمانيا، بانتظار التركيب. وبهذا أجهض مشروع تطوير مطبعة الحكومة. وما زال المشروع حتى اليوم لم يتعاف من قسوة الضربة التي وجهت إليه بفعل الغزو.

          وعندما تم تحرير الكويت، عادت الطباعة إلى المطبعة القديمة، مرة أخرى. فقد أصبح مشروع المطبعة الجديدة مجرد مبان خاوية مسلوبة المحتوى. فكأنها أجهضت مطبعة الحكومة الكويتية، وهي بعد حبلى بالتطوير. فعادت مطبعة الحكومة إلى حالها القديم، وتحولت أطراف كويتية كثيرة إلى إنشاء مطابع خاصة، وتحول بعضها الآخر إلى الطباعة خارج البلاد. وسمع أنين مطبعة الحكومة في جنبات الثقافة العربية كلها، وأحس بها رجل الشارع في كل شارع وكل زقاق من أزقة الوطن العربي. فقد احتجبت سلسلة المسرح العالمي وسلسلة عالم المعرفة لفترة طويلة من الوقت، واحتجبت معها لذة الثقافة الخالصة التي عهدها المثقف العربي فترات طويلة من الزمن.

من المطبعة إلى مطبوعتها

          لا يملك الإنسان حتى الآن - بعد ذاكرته - من أداة تسجيل أخرى سوى الكتابة. فإذا انتفت الكتابة لم يبق شيء خارج الذهن والذاكرة البشرية. ومن دون الكتابة يصبح الزمن رهناً بالذاكرة البشرية وتقلباتها. وهذا هو بالضبط سبب ظهور الجريدة الرسمية لدولة لكويت، وعنوانها «الكويت اليوم». ففي حال انتفاء الكتابة نسقط في المثالية الساذجة التي مثلها المفكر «برادلي» عندما قال إن الشجرة التي تسقط في مكان لا يعرفه بشر، ولا يسمعها فيه أحد، تصبح وكأنها لم تكن. وهو بذلك يصف حال الإنسان الذي لا يعرف الكتابة بصفتها أداة للتسجيل خارج الذاكرة.

          تمثل الجريدة الرسمية «الكويت اليوم» انتقالاً حاسماً بالدولة الكويتية الناشئة - وقتئذ في أربعينيات القرن الماضي - من مرحلة السماع والشائعات إلى مرحلة الكتابة والمؤسسات.

          الجريدة الرسمية هي همزة وصل مضبوطة وغير محرفة تنشأ بين الهيئة التشريعية والتنفيذية وبين المواطنين.

          فهي تنشر التشريعات والقوانين الجديدة وكذلك المراسيم الأميرية، وأيضاً الممارسات الوزارية التنفيذية ذات العلاقة بالمواطنين.

          فهي إذن مدونة المجال العام الذي يلتقي فيه الفعل الحكومي مع مصالح المجتمع المدني.

          وقد أتى إصدار الجريدة الرسمية «الكويت اليوم» بمنزلة خطوة أساسية على طريق تحديث الدولة الكويتية. فإصدار جريدة رسمية يعني أن أسلوب الحكم يتحول للمرة الأولى من أقوال وأهواء الحاكم إلى مبادئ مسجلة ومحددة ومدونة ومعلنة على الآخرين، بحيث يستطيعون تحليلها ودرسها ونقدها.

          وهذا هو معنى الحداثة في الحكم.

          لذلك صدرت جريدة «الكويت اليوم» الرسمية. فهي تسعى للحفاظ على المراسيم  الأميرية والقرارات  الوزارية والحكومية كما هي، دون تحريف أو تبديل. فسيرة جريدة «الكويت اليوم» هي سيرة البعد عن الأهواء وتجنب معرفة الحق بالرجال إلى معرفة الرجال بالحق. وتلك هي البداية الحقيقية لحداثة الدولة في الكويت. فإصدار جريدة رسمية يعني الانتقال من دولة الحاكم الفرد إلى دولة المؤسسات.

          في الجريدة الرسمية تستقل القوانين عن شخص الحاكم ويصبح لها كيان منفصل يدور في فلك المؤسسات.

          وقد يكون احترام الإسلام للأديان الكتابية نابعاً من فهم حداثي عميق لما تضفيه الكتابة على الأديان من حماية من التحريف و«مأسسة» للمساعي الإنسانية.

          يوصف وضع ما قبل إصدار جريدة رسمية للدولة بالوضع ما قبل الحداثي، حيث يصبح الكلام في حد ذاته سند الملكية وسند النسب وسند الحياة ذاتها. ولكن الكلام يصدر عن فم الأشخاص، فإذا لم تكن موجودا ولم يكن شهودك حاضرين، فسينتفي صوتك وأصواتهم بفعل المسافات، وبالتالي يختفى حقك، بل يختفي وجودك ذاته. فصاحب الحق هو صاحب الصوت.

          إذا كنت تظن أن الشائعات لها تأثير اليوم، فماذا تظن في الوضع قبل إصدار الجريدة الرسمية «الكويت اليوم»؟ حينها كانت الشائعات هي القانون. فلم تكن هناك سجلات تصدر ليراها ويطلع عليها الجميع. تخيل حياة كهذه.  قبل الجريدة الرسمية، كانت الشائعات هي الحقائق. لذا كان من الممكن أن تتعدد الحقائق وتتضارب بتعدد وتضارب الشائعات وفق مصادرها المختلفة. أما اليوم، فالسجلات والتدوينات هي وحدها الحقائق, لذا حدث الاتساق بينها وزال التضارب,لأن السجلات تسمح بإلغاء التضارب، بفعل قدرتها على الظهور وتثيبت موضوع الوصف، فلا يهرب، بل يحضر، ويصبح عرضة للتحليل والتصحيح والضبط.

          يعتبر صدور «الكويت اليوم» علامة تاريخية فارقة تمهد لولوج الدولة إلى مرحلة جديدة تتسم بتشابك وتعقد المعاملات والقرارات. ومع لحظة صدور «الكويت اليوم» توقفت الدولة عن أن تكون بدائية، وانتقلت من حال الطبيعة إلى حال المطبعة والمطبوعة لحظة صدور «الكويت اليوم» تعني التزام وتقيد الناس والحكومة بالمبادئ، مع إنهاء تقيد المبادئ وانقيادها للناس وللحكومة. وتلك بداية حتمية لأي حكم رشيد يقوم على مبادئ وأسس راسخة.

          في بدايات النهضة الاقتصادية والسياسية لدولة الكويت أوائل الخمسينيات من القرن الماضي برزت الحاجة إلى وسيلة لنشر أعمال الدوائر الرسمية التي بدأت تتشكل إضافة لنشر التشريعات والقوانين الجديدة. وفي سبتمبر 1954، أرسل سكرتير مكتب المدير الإداري بدائرة المعارف، بدر خالد البدر، رسالة إلى مدير الإدارة المالية تتضمن اقتراحاً بإصدار جريدة رسمية على أن يرفع هذا الاقتراح إلى اللجنة التنفيذية العليا. لاقى الاقتراح قبولاً فورياً من المدير المالي للمعارف، آنذاك خالد المسلم، مما دفعه إلى تمرير الاقتراح خلال الاجتماع الذي عقدته اللجنة التنفيذية العليا في 13 سبتمبر 1954، وكان أن اتخذ قرار بتوجيه رسالة إلى مدير إدارة ومالية المعارف بتوقيع الشيخ صباح الأحمد حول ما جاء في رسالة المسئولين بالمعارف إلى اللجنة التنفيذية. تبلورت ملامح إصدار الجريدة الرسمية عقب الاجتماعين اللذين عقدهما مندوبو الدوائر الحكومية في (26، 30 أكتوبر 1954) لبحث إجراءات الخطوة الأولى لإصدار الجريدة، في مبنى مجلس الشورى.

          كما تقرر تسمية الجريدة باسم «الكويت اليوم»، وبدأت أسرة التحرير اجتماعاتها استعدادا لإصدار العدد الأول من الجريدة الرسمية وراسلت الدوائر الحكومية وطلبت منها تزويد الجريدة بإعلاناتها وقراراتها التي ترغب في نشرها، واختارت أسرة التحرير إحدى المطابع لطباعة الجريدة التي صدر العدد الأول منها في اليوم السادس عشر من ربيع الثاني 1374 هـ (11 ديسمبر 1954).

العدد الأول

          كان عدد صفحات العدد الأول 16 صفحة، لكن إعلانات الدوائر لم تكن كافية لهذه الصفحات، فما كان من أسرة التحرير سوى ملء الصفحات المتبقية ببعض الأخبار والمقطوعات الأدبية، كما أدخلت الجريدة فيما بعد أبواباً أخرى في صفحاتها، منها (الكويت في صحف العالم) وغيرها.  وفي الصفحة الأولى من العدد الأول للجريدة الرسمية «الكويت اليوم» التي صدرت بتاريخ 11 - 12 - 1954م وتحت عنوان «أهداف الجريدة» جاء ما يلي:

          «بديهي أن الدعاية النافعة لا يمكن أن تدوم إلا على أساس متين من الصدق والأمانة والعمل الصالح وسرد الحقائق التي لدينا منها الكثير ولله الحمد، والدعاية التي لا ترتكز على العمل والإنتاج فإنها لامحال ستؤدي إلى عكس النتائج المطلوبة تاركة وراءها أسوأ الأثر، وعلى المواطنين الكرام أن يطمئنوا إلى أن الجهات العليا في هذا البلد تدرك ذلك أتم الإدراك وأنها لم تنشئ هذه الجريدة لتكون بوقاً من أبواق الدعاية الفارغة وإنما أنشأتها لتكون سجلاً يسرد الحقائق ومرآة صافية تنعكس عليها أعمال الحكومة ليطلع عليها الجميع. فماذا يعرف الناس مثلاً عن الجهود الكبيرة التي تبذل في دائرة المعارف في نواحي التعليم والتغذية وكم عدد المدارس والطلاب والمدرسين والبعثات العلمية في الخارج وبعثات الأقطار الشقيقة إلى الكويت. وما يقال عن دائرة المعارف ينطبق على غيرها من بقية دوائر الدولة.  إن نشر مثل هذه الحقائق وغيرها هو الأساس الذي بني عليه كيان هذه الصفحة التي هي بين أيديكم الآن فاعتبروها منكم وإليكم. ادعوا الله معنا بأن يسدد خطوات كل عامل لخير هذه الأمة برعاية حضرة صاحب السمو حاكم البلاد المعظم».

الأعداد اللاحقة من «الكويت اليوم»

          بدأت صفحات جريدة «الكويت اليوم» تزيد عن 16 تبعاً لزيادة عدد القوانين والتشريعات التي راحت تواكب التطورات السريعة والكبيرة التي طالت جميع مرافق الدولة منذ الاستقلال.

          وكانت الجريدة توزع في الكويت على نطاق محدود وخاصة لرجال الأعمال وشركات المقاولات وهي أسبوعية الصدور، وقد لاقت هذه الجريدة تطورا وزيادة في أعداد الصفحات تمشياً مع زيادة المناقصات والقرارات الحكومية وإدخال أبواب جديدة كأسماء الوفيات وفقدان البطاقات الشخصية وجميع ما يتعلق بالعلاقة بين أجهزة الدولة والمواطن.

          كانت «الكويت اليوم» تصدر بداية كل يوم سبت حتى العدد السادس والتسعين المؤرخ في 30 نوفمبر 1956م. ثم جرى تغيير في تاريخ صدورها.

          فصارت تصدر كل يوم أحد بدلاً من السبت ومازالت كذلك حتى اليوم.

          واستمرت «الكويت اليوم» تواكب التقدم الحاصل في دولة الكويت على مختلف الأصعدة بصدور منتظم صباح كل يوم أحد، إلى أن جاء الغزو العراقي صباح يوم 2 أغسطس عام 1990م. ولأنها تمثل لسان حال الكويت الرسمي فقد أصابها الغزو كما أصاب سائر المؤسسات والدوائر الحكومية، ولاسيما مطبعة الحكومة التي تتولى إصدارها بإشراف وزارة الإعلام.

          كان آخر عدد صدر قبل الغزو في 28 يوليو عام 1990م، ويحمل الرقم 1885، فكان أن صدرت «الكويت اليوم» مجدداً من المملكة العربية السعودية برقم جديد، لتكون مرة أخرى منبر الكويت الرسمي لنشر القرارات والمراسيم التي كانت تصدر في حينه. واستمرت في الصدور من السعودية حتى تمام تحرير الكويت.

          وفي أول يناير عام 2000م جرى إصدار العلامات والقوانين التجارية في ملحق خاص يرافق صدور الجريدة وفي الموعد نفسه. وفي أوائل شهر ديسمبر عام 2003 أعيد دمج الملحق التجاري مع الجريدة الرسمية في عدد واحد.

          يحترم شعب الكويت أسرته الحاكمة بشكل غير معهود، لا يجاريه فيه حتى الإنجليز. فالكويتيون يرون في حكامهم الرموز الحية للدولة، لا للحكومة. فهم ليسوا حكومة بالمعنى الذي يميز كيان المجتمع إلى حكومة وشعب، وفق ما يسود في النظم السياسية المعاصرة، التي دشنت منذ الثورة الفرنسية. بل تمثل الحكومة في الكويت، رأس الشعب، ولاتمثل كيانًا منفصلاً عن الشعب. وهذا ما وضح جلياً في تعزيز الشرعية التي حازها أمير الكويت خلال الغزو العراقي للكويت. فقد زاد الغزو من شرعيته، بدلاً من أن ينتقصها أو يسقطها، كما كان متوقعاً، لدى بعض محللي النظم والنخب السياسية المعاصرة.  ولذا يقيم الكويتيون وزنا كبيراً للجريدة الرسمية للدولة، ويحتفظون بأعدادها كاملة في بيوتهم وفي أماكن مخصصة لهذا الغرض وحده.  وهذا هو أيضاً السبب في أن جريدة الكويت اليوم تصدر بهذا الحجم الذي يعتبر هائلً، إذا ما قورنت بغيرها من الجرائد الرسمية للدول الأخرى.

          فالكويتيون يعتبرون جريدة «الكويت اليوم» بمنزلة السيرة الذاتية لهم ولدولتهم، وليست بالمرة مجرد قرارات أو مراسيم تلقيها الحكومة عليهم أو تبلغهم بها.

 

أمير الغندور