عمار الشريعي وصلاح الدين عبدالله

 عمار الشريعي وصلاح الدين عبدالله
        

هوامش على دفتر الأغنية المعاصرة

  • لم أعد أستطيع التنبؤ بالأغاني التي تنجح... أو تفشل... كل شيء أصبح مشوشًا
  • الرحابنة أثروا في جيل من الموسيقيين المصريين
  • تلاوة القرآن هي حارس الموسيقى

          حينما تحتدم الأزمة في مجال من مجالات الحياة نتطلع إلى أولئك الحكماء الواقفين على جسر ممتد بين عصرين، عصر مضى يلتفتون إليه ليتبصروا، وعصر حاضر يعيدون النظر إليه، ليتحسّروا، وبين يقين التبصر واحتمال التحسر تتخلق الحكمة الحقة في عقول من ينشدونها، وتكتسب التجربة الفردية من العمق ما يجعلها صالحة لأن تكون أساسًا لتبرير ما هو ماض، وتفسير ما هو راهن، والتنبؤ بما هو آت. والغناء في حياة الشعوب هو مرآة من أهم المرايا، التي تعكس حالة الوعي، كما تعكس مقدار ما عليه ثقافة الأمة ووعيها من تطور أو تدهور. والمدقق في أحوال الغناء العربي المعاصر يلاحظ بسهولة ما وصل إليه حاله من مراهنة على كل ما هو عاجل ليتماشى مع إيقاع الحياة الذي لم يعد لديه وقت للتأمل، كما لم تعد به حاجة إلى ما كان يسمى بالذوق السليم، لهذا فإن المستمع العربي لا يرى بأسًا بأن يختزل مهاراته السمعية في نظرة سريعة إلى وجه جميل يتوج جسمًا جميلاً ضاربًا بتاريخ الذوق عرض الحائط، وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت الأغنية الواحدة يغنيها بضعة مطربين أو مطربات في جسم مطرب أو مطربة يغنيها الشّعر والحواجب والأعين والشفاه وما تحتها.  

          أجل كان الصُمّ يتحسرون على عدم قدرتهم على سماع الأغاني، أما اليوم فقد انتقلت الحسرة إلى دنيا المكفوفين، فلم يعد من الغرابة في شيء أن أصبح الحديث عن القرارات والجوابات والعُرَب والمقامات «حديث خرافة يا أم عمرو».

          كما أصبحت الطبقات العليا تحسد الطبقات الدنيا على ما أنعم الله عليها به من نعمة فساد الذوق وهبوط الطرب وأهله، فأبت إلا أن تشاركها هذه النعمة، فاختيارنا لعنوان هذا الحديث لم يكن عشوائيًا، بل إن الغناء العربي بصراحة نكسة تحتاج نزارًا آخر يكتب هوامش على دفترها وحول هذه الموضوعات وغيرها، كان لي هذا الحوار مع الموسيقار عمار الشريعي.

          وعمّار من أولئك الذين يتمتعون بمقدار من المصداقية الملساء، التي تعرف كيف تصيب الحقيقة دون أن تصيب أحدًا من الناس، ثم هو بعد ذلك واحد من أولئك الذين لموسيقاهم مذاق من الثقافة، كما أن في ثقافتهم ظلا من الموسيقى فهو لم يزل قادرًا على أن يبرهن بوضوح أن الفن الصحيح هو ذلك المخلوق الوديع أو المتوحش الذي أمه الدهشة وأبوه التفرد في الأداء، وحسبك أن تمس أنامله أوتار عوده، حتى ينساب من بينها طرب حزين لا يبقي لك جنبًا تنام عليه ولا ليلا تسهره، بل يستعيرك من نفسك ويردك إلى غيرك، فيتركك لا حيًا صحيحًا، ولا ميتًا مستريحًا، فإذا أضفت إلى هاتين الصفتين صفة ثالثة وهي جمعه بين خفة الظل وسرعة البديهة أدركت أنك أمام رجل متفرد لا تفارقه اليقظة حتى وهو يهزل كأن سخطه على العمى قد جعله يبصر بكل خلية في جسده، ولو أنك ألقيت إليه السمع وهو يحاكي لهجات أهل الخليج والشام والمغرب، ويتصرف في فنون الأحاديث من الأدب القديم إلى الأدب الحديث إلى الأدب الإنجليزي، إلى حديث مفصل عن الحاسوب إلى مشاركة في السياسة، إلى خوض في أحوال الرياضة بفروعها، لأيقنت أنك أمام رجل ذي حس لا تعوزه الشفافية، فأنت حين تحاوره لا تعرف أعمّار في الدنيا أم الدنيا في عمار!

          وقد قام بإجراء الحوار معه صلاح عبدالله وهو من الكتّاب المصريين والباحثين الشبّان.

افتقاد الموجة

  • ما موقع الجمهور من عملية إنجاح الأغنية، هل هو قادر على خلق عناصر النجاح فيها، حتى وإن لم تكن موجودة أو أنه يستجيب لهذه العناصر حين تكون موجودة بالفعل؟

          - بالرغم من أن هناك تجارب عدة قد أثبتت مع الأسف الشديد أن الجمهور هو صاحب الرأي الأوحد والقاطع في ما ينجح من أغان وأعمال فنية على الأقل في الوقت الراهن. فإن هذا لا يمنع من أن هناك مقومات للنجاح تكمن في العمل الفني على الأقل من وجهة نظر مَن تربوا بعقلية معينة على ذوق معين.

          هذه المقومات سوف تظل مطلوبة داخل العمل الفني نفسه، ولست أدري ما أقول لك، دعني أضرب لك مثلاً بنفسي. منذ خمسة عشر عامًا تقريبًا كنت أفاخر بأنني أنا والشعب المصري على موجة واحدة، فما من أغنية كنت أتنبأ بنجاحها إلا نجحت، وما من أغنية تنبأت لها بالفشل إلا فشلت.

          أجل، كانت هناك مؤشرات للنجاح، كانت هناك صيغ يمكن أن نحتكم إليها في ما عسى أن ينجح وما لن ينجح بدءًا بالكلمة، ومرورًا باللحن والأداء، وانتهاء برأي الناس، وذلك لأن رأي الجمهور عامل لا يمكن أن نهمله ونحن نتنبأ بنجاح أي عمل فني.

          أمّا الآن، فقد اختل الميزان ولم تعد ثمة موجة بيني وبين الوعي الفني في مصر.

          فكم من أغنية تنبأت بنجاحها، فلم تنجح سواء أكانت جيدة أم رديئة، لأن النجاح قد يصادف الأغنية الرديئة كما يتوقع للأغنية الجيدة.

          وكم من أغنية لا قيمة لها قد تنبأت لها بالفشل الذريع، فإذا هي في القمة نجاحاً، وهكذا تشوش ما بيني وبين الوعي الفني، وأصبح التنبؤ بما سوف ينجح، وما لن ينجح مستحيلاً، ولكن بالرغم من هذا يظل في داخلي ما تربيت عليه من قبل من تقدير للكلمة واللحن والأداء، وما إليها من مقومات العمل الفني الصحيح.

          ولا أحسب أنه سيأتي ذلك اليوم الذي تنمحي فيه تلك المقومات من داخلي، لأصبح مراهنًا على ما يحدث فرقعة في أوساط الجماهير.

          بمعنى آخر، سوف تظل هناك أغنية أحبها لأنها تستحق سواء أنجحت أم لم تنجح، وأغنية أمقتها لأنها لا تستحق سواء أنجحت أم لم تنجح.

          فالعلاقة العاطفية التي تربط بيني وبين العمل الجيد ليست قائمة على أساس نجاحه الجماهيري، بل على أساس ما فيه من مقومات خاصة.

  • كيف نفرق بين الأغنية الخالدة والأغنية الموضة إن حققت كلتاهما انتشارًا شديدًا في أوساط الجماهير؟

          - أشك في أنه ستكون هناك أغنية خالدة في ما تسمعه الآن، لست أقصد ساقطة فقط بل أقصد جيده أيضًا لأن للأغنية الخالدة معايير لا يتوافر واحد منها في ما تسمعه الآن.

  • عمار الشريعي الذي تربى على الطرب الأصيل أمازال يحلم بأن يطرب؟

          - ليس حلمًا، فإن من الأصوات المعاصرة أصواتًا تستطيع أن تطربني كأصالة وأنغام وآمال ماهر ومحمد الحلو وصابر الرباعي ومدحت صالح، كل أولئك أصوات تستطيع أن تطربني، آمال ماهر - على سبيل المثال - مولودة وفي فمها ملعقة طرب، وكذلك أنغام من القادرات على أن يطربنني، فالمشكلة ليست مشكلة الصوت الجميل بل مشكلة ما يقوله ذلك الصوت، هذا هو المحك.

  • ما رأيك فيمن يقول لقد أغنى الوجه الجميل عن الصوت الجميل؟

          - هذا قول حق أوافق عليه أتم الموافقة، فالذي حدث هو إحلال في وظائف تلقي الأغنية، فالأغنية - في اعتقادي - خلقت لكي تُسمع، وأما الآن بعد انتشار التقنيات والفضائيات وهيمنة التلفزيون هيمنة تامة على المناخ العام، فقد أصبحت الأغنية مخلوقًا يُرى في المقام الأول، أي أن العين قد احتلت مكان الصدارة في التفاعل مع الأغنية بدلاً من الأذن، وحين نقول العين، فإننا نقصد بجميع أحكامها، ومشكلة العين أنها جهاز شديد السطحية لم يؤت حظًا من العمق، فلا تصدق أولئك الذين يتحدثون عن الحب من أول نظرة، فإن هذا الحب سرعان ما تذروه رياح النسيان.

جاءت التكنولوجيا فانتفع بها الأذكياء وانتفع بها الأغبياء على سواء، ولكن كيف نفرق في ظل من يستعملون التكنولوجيا بين موهوب ودعي؟

          - نستطيع أن نفرق بينهما بما يقدمه كلاهما، أنت كجمهور لا سبيل لك إلى تلك التفرقة، ففي النهاية الذي يتناهى إلى سمعك موسيقى، ولن يكون لك أن تميز سليمها من سقيمها إلا بشق الأنفس، ومع ذلك فلعلي أستطيع أن أدلك على بعض الوسائط التي تعينك على ذلك التمييز، فلما شرع في تبيينها جعل يتراجع رويدًا رويدًا ثم لم يلبث أن قال لاسبيل إلى ما وعدت به، فإن هذا الأمر سوف يظل حكرًا على المتخصصين، فإجابتي باختصار لن يعرف الفرق إلا المتخصصون «لا يعرف الشوق إلا من يكابده».

أوبرا عربية

  • فكرة وجود أوبرا عربية، هل هي ضرورة حضارية أم أنها مجرد محاكاة؟

          - هي في جملتها وتفصيلها محاكاة كمحاكاة القرود، الذي أعنيه أن في وسعنا أن نأخذ من مفهوم أوبرا ما ينفعنا، ما يناسب أذواقنا وليس معنى هذا أن الأوبرا شر أو ضرر، بل قصارى ما أريد قوله هو أن ليس كل ما فيها صالحًا لأن تهضمه أذواقنا، والذي قلته في مناسبات سابقة عبر وسائل الإعلام، ولم أزل أقوله ليس بالضرورة أن نغني كما يغنون. لتكون لنا أوبرا، حسبنا أن نستعير المفهوم العام لننفث فيه تلك الروح التي تخصنا نحن، ما يوافق مزاجنا العربي أو بألفاظ أخرى: الأوبرا عمل مغنى من الألف إلى الياء، ليس يُسمح فيه بالكلام، وأذكر في ما أذكر بهذه المناسبة، أنه جرى حوار بيني وبين الأستاذ كامل سعيد، الذي كان قد تولى أمر الكلية الملكية للموسيقى في لندن، وكنت أشاهد معه الترافياتا، فقلت له ممازحًا ألم تزعموا أن الأوبرا عمل غنائي صرف لا يتخلله كلام، فما بال هذا السعال من تلك الممثلة! فأخذ الرجل حديثي مأخذ الجد، واندفع يبين لي الضرورة الدرامية لهذا السعال ودلالته على السل، والذي أخلص إليه من كل هذا أن في أيدينا أن نأخذ من الأوبرا جوهرها وهو أن يكون لدينا عمل عربي مغنى من أوله إلى آخره سواء علينا أكان هذا العمل المغنى شعريًا أم نثريًا، وإن كنت في الحقيقة لا أوافق على مسألة غناء النثر، المهم هو الغناء بصرف النظر عن طريقة الغناء، أية ضرورة تملي علينا ذلك المط والغناء من مناطق صوتية لا تتناسب مع المكونات الأساسية لفكرنا الموسيقي حتى يكون لي صنيع كصنيع فيردي على سبيل المثال! والدليل على صحة ما أقول أن العمل الأخير الذي أنجزه الشاعر سيد حجاب، والزميل شريف محيي الدين، وما كان قد سبقه من أعمال في تعريب الأوبرا أو محاكاتها كالترافياتا والأرملة الطروب وما إليها، كل هذه الأعمال لم تلق نجاحًا إلا من بين صفوة المثقفين دون أن يكون للعامة أو متوسطي الثقافة حظ من فهمها أو التفاعل معها، ولا والله ما نجحت تلك الأعمال بين من نجحت بينهم إلا لخجلهم من أن يعلنوا أنهم ليسوا من فهم حقيقتها في شيء، وما يزكّونها إلا مخافة أن يعيروا بأنهم عن فهمها عاجزون، وسوف أقص عليك من نبأ ذلك ما تعجب له عجبًا لا ينقضي. حدثني المرحوم الشاعر صلاح عبدالصبور في اللقاء الوحيد الذي تم بيني وبينه، وكان قد أنس إليّ لما علم أني من أهل الموسيقى قال: إن بعض أعماله قد اختيرت لتعد إعدادًا أوبراليًا، وكان أن دعي إلى حفل الافتتاح ليكون له فخر بعمله وشاءت الصدفة أن يكون مجلسه بين فريقين، كان عن شماله الدكتور جمال عبدالرحيم وزوجه الدكتورة سمحة الخولي، وكان عن يمينه ألفريد فرج وشخص آخر لا أذكره، فما هو إلا أن أخذت الأوبرا مأخذها من الأسماع والأبصار، حتى جعل القاعدون عن اليمين بمن فيهم الشاعر صاحب العمل يفرطون في الضحك إفراط من لا حيلة له في نفسه، وأما القاعدون عن الشمال، فقد أخذوا يمطّون شفاههم، ويهزّون رءوسهم طربًا وإعجابًا، فكانت النتيجة أن صلاح عبدالصبور خرج من هذه الليلة يضحك من عمله هو، وعلل ضحكه هذا بأنه شاهد على المسرح عملاً آخر لا صلة بينه وبين عمله الشعري، لا من الناحية النفسية ولا من الناحية الذهنية، أرأيت الآن ما يمكن أن تفعله بنا الأوبرا حين توضع في غير موضعها؟ 

أين المرأة الملحنة؟

  • يطيب لي أن أسألك عن بعض الظواهر المفقودة، وأول ما أسأل عنه ما بال هذه القلة النادرة من الملحنات عبر الغناء العربي الحديث والمعاصر؟ وبأي شيء تعلل هذه الندرة؟

          - الحق أني لا أعرف لذلك سببًا، فالذي أنا مؤمن به أتم الإيمان أن النساء لسن أقل عاطفة ولا أقل قدرة على التعبير ولا أقل حرفية من الرجال، فإن قال قائل إن التلحين يستلزم مهارات عالية في العزف، فهذا أيضًا غير صحيح لأن بعض أساتذتنا الذين تربينا على أيديهم لم يكونوا عازفين مهرة خذ مثلا المرحوم كمال الطويل وهو من هو اقتدارًا في التلحين لم يكن عازفًا من الطراز الأول لا في البيانو ولا في العود، بل كان حسبه من ذلك أن يجلس إلى البيانو ليعزف الجملة الموسيقية التي هي أساس لحنه، وأمّا ما وراء ذلك فلم تكن له به طاقة، وعليه، فإني لا أعرف سببًا حقيقيًا يدرأ النساء عن التلحين، ربما لأنهن يفكرن في الغناء بما يتضمنه الغناء من رغبة في الظهور، ومواجهة للجمهور، أي أنهن لسن معنيات بأعمال المطبخ الموسيقي، أعني بما يتم داخل الكواليس قبل أن يخرج العمل إلى الجمهور، أو لعل زواجهن المبكر يصرف أنظارهن تلقاء البيت والأسرة، وما يدريك لعل الاشتغال بالتلحين عمل ذكوري في أساسه لما يتطلبه من المشاق والنصب ومعاناة الجهد مع العازفين والشعراء والمغنين والمنتجين، وما في ذلك من أخذ ورد وقبول ورفض، غير أن تاريخ الموسيقى سوف يظل يذكر بمنتهى الإكبار ملحنات مثل ملك ونادرة ولور دكاش ووفاء فريدون، التي مازالت تعمل إلى الآن، وإني ليستميلني الطرب والإعجاب كلما استمعت إلى أوبريت مايسة الذي لحنته المرحومة ملك.

غياب أغنية الاسرة

  • والظاهرة الأخرى التي أحب أن أسألك عنها، ما بال أغنية الأسرة التي كانت تملأ الأسماع في خمسينيات وستينيات القرن الماضي قد اندثرت تمامًا، فما سبب ذلك، أهي أزمة موسيقى أم أزمة كلمات، أم أزمة أداء، أم أزمة تمويل؟

          - كانت هناك عوامل عدة ساعدت على نهضة الأغنية الأسرية وانتشارها، فمن ناحية كان المجتمع المصري أشد استقرارًا مما هو عليه الآن، كان الصبية يرجعون إلى منازلهم، فيجدون أباهم وأمهم في انتظارهم، وكانوا يحتضنون بعضهم بعضًا، الصغار يبذلون التوقير، والكبار يبذلون الرفق، ومشاربهم فيما بينهم متقاربة والتزاور بين أفراد العائلة يحدث دفئاً معنويًا، كانت الأسرة مترابطة أشد الترابط، وفي مناخ كهذا يصبح لهذا النوع من الأغاني ما يبرره، أما الآن، فقد تفرقت السبل وتشعبت مشاكل الحياة، وأصبح كل فرد قانعًا بأن ينغلق على ذاته بما فيها من أفراح وأتراح، ولست أكتمك القول، لقد ساعد التلفزيون على تفتيت الأسرة، والعامل الثاني الذي ساعد على إنعاش أغنية الأسرة هو أن الإذاعة كانت تقوم بتمويلها، فحين كانت السيدة صفية المهندس رئيسًا للإذاعة أُنتج كم كبير من هذه الأغاني تقرّبًا إليها، لأنها كانت تقدم برنامجها الشهير «إلى ربات البيوت»، نذكر منها - على سبيل المثال - أكتر تلاتة بحبهم ابني وبنتي وأمهم للفنان إسماعيل شبانة، وكذلك «وحياة ابنك وحياة ابني ارجع وانشلله تعذبني» للفنانة نجاة، «ويا حبيب قلبي يا ابني يا ضناية» للفنانة شريفة فاضل، ثمة عامل ثالث يتمثل في النجاح العظيم الذي أحرزته الفنانة فايزة أحمد بأغنيتها الشهيرة «ست الحبايب ياحبيبة» فقد شجعها هذا النجاح على المضي قدمًا، فقدمت أعمالاً كثيرة بمساعدة عبدالوهاب الذي ما كان له أن يفوت نجاحًا كهذا دون أن يستثمره على أكمل وجه، وبما أن دور الدولة بصفة عامة والإذاعة بصفة خاصة قد تقلص، فمن الطبيعي أن تنحسر هذه الموجة، ولست أظن أن عهد نهضة الأغاني الأسرية سوف يرجع أبدًا.

  • إذا رجعت إلى دنيا عمار الشريعي، فهناك سؤال ملح: هل يمكن لفكرة تقرأها في الفلسفة أو حادثة تقرؤها في التاريخ، أو خاطرة تقرأها في الأدب أن تلهمك عملاً موسيقيًا؟

          - لم يحدث لي ذلك قط اللهم إلا في عمل واحد وهو مسلسل «حديث الصباح والمساء» وذلك أني كنت في مجلس مع المرحوم الكاتب محسن زايد فلم تزل تتقلب بنا الأحاديث حتى تراجعنا حديث الموت والبرزخ فوجدت من أثره في نفسي ما حملني على أن أضع له موسيقى قبل المسلسل فاستدعيت الشيخ سيد حسن وطلبت إليه أن يسرد عليّ أسماء الله الحسنى فكان كلما نطق اسمًا عزفت مقامًا موسيقيًا وطلبت منه أن يغني هذا الاسم على هذا المقام ثم جعلت أصوغ حول هذه الأسماء أنغاما تهويمية لا يُفهم منها شيء محدد وإنما تأخذ الروح إلى المطلق، ولم أقنع بهذا حتى أضفت إلى صوت الشيخ سيد مؤثرا صوتيًايُخيل إليك معه أنه يتناهى إليك من أقصى الكون فإذاما سمعت هذه الموسيقى حسبت الكون بأسره يسبح وكأن هذه الموسيقى قادرة على خلق حالة لا علاقة لها بالجسد وكان من مصداقية هذه الموسيقى أنه حين أذيع هذا المسلسل ارتبطت هذه التيمة بمنطقة الموت فجعل أصحابي يتصلون بي قائلين: أرأيت ما فعلته موسيقاك بنا لقد جعلت أرواحنا تنقبض.

  • ما بالنا لا نعرف للفنان عمار الشريعي قطعًا موسيقية تعزف بشكل مستقل كما هي الحال مع الملحنين الكبار؟

          - حين كنت طفلاً بين التاسعة والثانية عشرة ألفتُ بعض المقطوعات منها مقطوعة تسمى «أمي» وأخرى تسمى «عزبة النخل», فلما كبرت سني وذاع أمري طلب الأستاذ فهمي عمر الذي كان رئيسًا للإذاعة منا معشر الملحنين أن نتقدم بموسيقانا إلى الإذاعة فذهبت إليه ومعي موسيقى المسلسلات وكان يجالسه السيد عمر بطيشة الذي أصبح في ما بعد رئيسًا للإذاعة أيضًا ولبثنا نختار أسماء لهذه المقطوعات التي كانت قد أُعدت أساسًا للمسلسلات، فمثلا كنت ألفت في مسلسل «الأيام» مقطوعة تصاحب دخول طه حسين إلى القاهرة ومسيره في حي الأزهر على إحدى عربات الكارو وكانت هذه المقطوعة تحمل مذاق القاهرة القديمة فسماها الأستاذ عمر بطيشة «خشوع» وصارت تذاع قبل وبعد كل أذان. وأذكر بهذه المناسبة قصة هزتني من الأعماق، فذات يوم تلقيت خطابًا من سيدة تقول فيه إن لها مع الألم رحلة طويلة ولم يعد المورفين قادرًا على أن يسكن آلامها فأصبحت كلما اشتد عليها الألم دعت بمقطوعة «خشوع» فسمعتها فحينئذٍ تسكن آلامها.

الدمج الموسيقي

  • إن الوعي الفني المصري متهم من قبل بعض النقاد بأنه لا يلتفت إلى غيره ولا يكاد يرى إلا ماصنعت يداه فما قولك؟.

          - ليس هذا القول من الصحة في شيء وعليّ بيان ذلك.

          وأظن أنه يكفي في بيان ذلك أن أتحدث عن المناطق المحيطة بنا، خذ مثلا موسيقى الخليج، هذه الموسيقى نحن بالفعل مسهمون فيها منذ أن بدأ روادها الذين تعلم معظمهم في مصر عملية تطويرها، لقد أسهم أولئك الرواد في تعريفنا نحن بموسيقاهم وأغانيهم وفلكلورهم وأفكارهم اللحنية، وكان علينا أن نضطلع بتقنينها وقولبتها ووضعها في مكانها الصحيح، وأعني بهذا أن التوزيع والتدوين والمقاطع الموسيقية والعزف كل أولئك كان مصريًا.

          أجل لقد حدث نوع من الدمج والمزج بين منطقنا ومنطقهم إلى حد أستطيع معه أن أدعي أن المنطق المصري قد ساد أخيرًا فصار القوم يستعملون الأرتام المصرية ويتخلون عن أهم ما يملكون وهو الوحدات الإيقاعية الشديدة الخصوصية, فأصبحنا على سبيل المثال نسمع كلاً من نبيل شعيل وعبدالمجيد عبدالله يغنيان على رِتم «الواحدة ونصف» أو الرتم الصعيدي وكلاهما رتم مصري صرف, ولكن سواء علينا أكانوا قد أخذوا عن أهل مصر أم لم يأخذوا فإن الأثر المصري شديد الوضوح في موسيقاهم خلال الأعوام الأربعين أو الخمسين أو الستين الأخيرة, والحق أنه ما كان لهذا أن يحدث لو لم يكونوا هم أنفسهم قد أثروا فينا كذلك.

          لقد أخذنا عنهم أشياء لم يكن لنا بها علم من قبل كالإيقاعات المبنية على الموازين العرجاء كإيقاع 86 أو 43، هذه الإيقاعات التي أخذناها عنهم قد وسعت مدارك الموسيقى المصرية وكنا من قبل احتكاكنا بهم قلما نستعملها، فتاريخ الاحتكاك بيننا وبينهم هو تاريخ التفاعل النشط، فإن أنت صرفت النظر تلقاء الشام فسوف تجد الرحبانية على سبيل المثال قدأثروا أثرًا بالغًا في جيل الملحنين المصريين المعاصرين لهم والآتين من بعدهم ونحسب أن في شبابهم من الاقتدار ما كان في أسلافهم من البراعة ونضرب مثلاً بصباح فخري الذي استطاع بصوته المؤثر أن يشيع القدود الحلبية. ربما يقل هذا التأثير بعض الشيء في المغرب لأن مطربي المغرب إنما قدموا على مصر طلبًا لموسيقى أهلها وغنائهم بدءًا من عبدالوهاب أجومي في الخمسينيات الذي غنى «تانجوهات» مصرية مثل «عينيكي حلوة وفيها حنان» مرورًا بعبدالوهاب الدوكالي الذي غنى «حكايتي ويا حبي حاقولها في كلمتين» إلى عبدالهادي با الخياط الذي غنى «هذه الصخرة».

          وكان من نتيجة صنيعهم هذا أن الذي وصل إلينا من فنهم الخاص نزر يسير، لأجل هذا كان تفاعلنا مع فنهم أقل كثيرًا من تفاعلنا مع الشام والخليج على الرغم من حبنا وتقديرنا لكثير من الأصوات المغربية وحسبي أن أذكر لك منهم لطيفة وعلية من تونس وعزيزة جلال ذات الصوت العبقري من المغرب ومحمد حسن من ليبيا ومقطع القول أننا قد تأثرنا بهم وأثرنا فيهم.

تقييم الأصوات

  • هل لك في تقييم هذه الأسماء؟

          - نعم ولم لا.

  • ما قولك في شيرين وجدي؟

          - عملت مع شيرين وجدي في مسلسل «بوابة الحلواني» بعد وفاة المرحوم بليغ حمدي عبر أربعة أجزاء متتالية وكانت تلعب في المسلسل دور ألمظ، كما تعاونت معها في بعض حفلات أكتوبر وأستطيع أن أقول إنها لا بأس بها أي ليست هناك مشكلة حولها.

  • لست أسألك عن هذا بل عن تقييمك لصوتها ما هو عندك؟ فلزم الصمت دقيقة أو أكثر ثم قال:

          - لا تحسبن أن الحياة تنقسم إلى قمة وقاع، فإن بين القمة والقاع مستويات عديدة تناسب أشخاصًا عديدين, فإن قلت عن شخص ما إنه لابأس به ولم أصفه بأنه في القمة فليس معنى ذلك أنه في القاع بل معناه أنه في مكانه، وما دمت مصرًا على الاسترسال فدعني أقل لك إن أميز ما يميز شيرين وجدي هو أنها شخصية مثقفة تعرف بالضبط ماالذي يجب عليها أن تفعله وتعرف كيف تضطلع بدورها حين يكون لها دور معين في الغناء, أي أنك لن تبذل جهدًا مضنيًا في أن توصل إليها ما تريده منها أما مقدار توفيقها في ذلك أو إخفاقها فراجع إلى موهبتها التي هي صنعة الله.

  • وشيرين الأخرى؟

          - هذا صوت جميل يحمل بطاقته في داخله فصوت شيرين هو الصوت الوحيد الذي حينما تسمعه تعلم بالضرورة أنه صوت مصري آت من صميم الأحياء الشعبية وفيه مذاق النيل, فهو لا يصلح أن يكون صوتًا خليجيًا أو شاميًا أو مغربيًا، أضف إلى هذا أن صوتها في حد ذاته صوت بيِّن الجمال.

  • إلى أي شيء تعزو نجاح شعبان عبدالرحيم؟

          - الذي أراه أنا شخصيًا أن نجاح شعبان قد فرضته علينا الطبقات العليا في مصر.

  • ماذا تعني؟

          - أعني أن شعبان كان محمود الغناء بين ذويه داخل طبقته، أجل كان على الجادة حين كان يخاطب طبقته فلما جاوز ذلك إلى غيره وصار يخاطب غير طبقته انقلبت حاله إلى الترهل واتسع عليه الأمر غير أنه مع ذلك الترهل أصاب نجاحًا فوق ما كان عليه أو بلفظ موجز دعني أقل لك إن شعبان لم يكن يقصد أولئك الذين أنجحوه.

  • وماذا عن محمد محيي؟

          - أقول بلا مزاح لقد كان عقلي يختلط من جراء هذا المطرب لأنه بلا مجاملة مغن بدرجة قدير وحين غنى لعبدالوهاب أمام لجنة الاستماع في الإذاعة لم يسعهم إلا أن يصفقوا له، أجل لقد تخلى عن طريقته التي يعرفه بها العامة والخاصة وغنى غناء جادًا أجبر اللجنة على التصفيق له فأنجحه ثمانية من أعضاء اللجنة البالغ عددهم تسعة لأني لم أكن بينهم يومئذ فلما جرى حديث بيني وبين الأستاذ ميشيل المصري أعظمت عليه وعلى زملائه اللوم وقلت له أأجزتموه؟ قال لا بل صفقنا له أيضًا وغدًا إن أنت قدمت علينا أسمعتك شريط الامتحان فلما سمعته ذهلت.

  • فما طريقته في الغناء؟

          - لا أدري لعله أراد أن يصطنع أسلوبًا جديدا بين الناس يعرف به ولكن هذا ليس معبرًا عن حقيقته ولا عن قدراته ولو لزم الجادة في الغناء لوقفت منه على مطرب منقطع النظير.

  • ولا يكتمل تقييم المغنين إلا بتقييم الملحنين ماقولك في رياض الهمشري؟

          - هذا هو أحسن ملحن في الجيل الذي يلي جيلنا.

  • وفاروق الشرنوبي؟

          - لست أعده من الجيل اللاحق بل من جيلنا، فالذي يفصله عنا سنوات قليلة ليست كافية لأن يخرج عن جيلنا إلى جيل آخر وهو بحق ملحن موهوب.

  • وأخوه صلاح الشرنوبي؟

          - صلاح نجح.

  • ما تعني بقولك صلاح نجح؟ إن تعبيرك هذ من التعبيرات التي تحتمل وجهين كقول المتنبي لكافور «ولله سرٌ في علاك» فإنه يصلح للمدح وللذم معا.

          - ليست إجابتي من التهكم في شيء الذي قصدته أن أقول إن رجلاً قد نجح لأكثر من سبع سنوات في أغان عديدة مختلفة مع مطربين عديدين مختلفين لابد أن يكون لديه ما يقدمه.

  • فما قولك في الكثرة الكاثرة من الملحنين المعاصرين؟

          - بالحق أقول لك لم تكتمل في ذهني صورة عنهم لأني لم أسمعهم سماعًا كافيًا وبالتالي فأنا لست قادرًاعلى تقييمهم، وإنه لمن الصعب بمكان أن تقيِّم مغنيًا أو ملحنًا لم يمر عليه عام أو عامان ولم يُعرف له إلا عمل أو عملان فتقول هذا طيب وهذا خبيث، لابد أن ننتظر حتى تصقله التجارب وتكشف الأيام عن معدنه.

  • إذا مضينا نحلل العلاقة بين الفن والمجتمع فلأيهما يكون التأثير أم أنها جدلية متشابكة لايُعرف فيها متقدم ولا متأخر؟

          - المفترض في الفن أن يكون هو الموتور المحرك للمجتمع حتى إذا ما تطور المجتمع صار قادرًا بدوره على التأثير في الفن أعني أنه يطوره ثم يتطور به.

  • كيف ترى صورة الموسيقى والغناء المعاصرين وبأي شيء تتنبأ لهما؟

          - لا أرى شيئًا على الإطلاق، أجل إن الجو ضبابي قاتم وكنت دائمًا أقول إن الفن بخير ما دامت تلاوة القرآن بخير وأما اليوم فإن تلاوة القرآن نفسها قد أصابها ما أصابها فصرت بخوفي على التلاوة أشد ما أكون خوفًا على الفن.

لي مَوطِنٌ في رُبُوعِ النِّيلِ أعظمُه ولِي هُنا في حِماكُمْ مَوْطنٌ ثانِ
إنِّي رأيتُ على أهْرامِها حُلَلاً مِن الجَلالِ أراهَا فَوْقَ لبنانِ
رأيتُ رأي المعرّي حين أرهقَه ما حلّ بالناسِ من بغيٍ وعدوانِ
لا تطهرُ الأرضُ من رجسٍ ومن درنٍ حتى يُعاوِدَها نُوحٌ بطُوفانِ


حافظ إبراهيم  





عمار الشريعي





محمد عبد الوهاب وأم كلثوم





صلاح الدين عبدالله





نزار قباني