الاقتصاد الإسلامي.. والمصارف

الاقتصاد الإسلامي.. والمصارف
        

          نشرت مجلة العربي في العدد (568) مارس 2006م مقالاً للدكتور على أحمد عتيقة عنوانه «الربا والفائدة المصرفية... دعوة لمواصلة الاجتهاد». وقد صدّر المقال بقوله: «يهدف هذا المقال إلى تحفيز الحوار والاجتهاد في واقع الفرق بين الربا المحرم نصًا والفائدة المصرفية المستجدة بما لها من أدوار حميدة وما عليها من مآخذ».

          فالموضوع مهم فعلاً ويحتاج إلى مزيد من النقاش حتى تتضح الصورة جلية، خصوصًا ونحن مقبلون على انفتاح أكبر من الانفتاح وعولمة أكبر من العولمة.

          ولنبدأ بتعريف الربا، ففي اللغة تطلق لفظة ربا على كل زيادة في المال وغيره، حتى إن ما ارتفع عن سطح الأرض يسمى ربوة، وفي الشرع كل ما زاد عن الأصل فهو ربا كما نص الحديث، والأصل هنا المراد به القرض أي كل زيادة على أصل القرض حال رده تعتبر ربا مادام قرضًا، وآثار الربا السالبة لا تخفى فمن أخطرها على الإطلاق تكدس الأموال في أيدي فئة قليلة قادرة على إقراض الآخرين بينما يظل هؤلاء الآخرون في كد دائم سعيًا لتحقيق الربح الذي يغطي الزيادة والمنفعة الشخصية التي من أجلها تم الاقتراض.

          وقبل أن نناقش إن كان هنالك فرق بين الربا والفائدة أم لا، نناقش أولاً علاقة عناصر الإنتاج بالإنتاج نفسه، فإن الصلة بين الإنتاج وعناصره تختلف من وجه نظر الاقتصادي الإسلامي عن غيره - الاقتصاد التقليدي - فالإسلام يرفض رفضًا تامًا توزيع الإنتاج بين عناصر الإنتاج ولا يرى تكافؤ هذه العناصر، بل إن النظرية الإسلامية تعتبر أن الثروة المنتجة ملك للإنسان المنتج وحده - عنصري العمل والتنظيم «العامل» - وأما وسائل الإنتاج المادية الأخرى التي تستخدم في عملية الإنتاج من أرض وآلات فليس لها نصيب من الثروة المنتجة نفسها، وإنما تعطي مكافأة - أجرة - لمالكي هذه الوسائل نظير سماحهم للعامل المنتج باستخدامها، وأما إذا كان العامل يملك هذه الآلات فلا معنى للمكافأة لأنها عندئذ منحة الطبيعة لامنحة إنسان آخر. ومن هنا نخلص إلى نقطة جوهرية في النظرية الإسلامية وهي أن الملكية في الإسلام لا تتأتى إلا من خلال عمل منفق إما مباشرة أو مختزن في آلة أو إصلاح أرض أو بناء... إلخ، وبالتالي لا يسمح في الإسلام لأي فرد بأن يضمن لنفسه كسبًا من دون عمل - يجب أن يكون العمل من أعمال الانتفاع والاستثمار - لأن العمل هو المبرر الأساسي في الربح، والفرق بين العمل المباشر والمختزن في مسألة المشاركة في الربح، أن العمل المباشر ممارسة من العامل للمادة تبرز تملّكه لشيء منها إذا تنازل مالكها السابق عن حق السبق الزمني، وأما العمل المختزن في أداة الإنتاج فهو ليس ممارسة من صاحب الأداة في العملية فلا يكون له حق الملكية في المادة سواء تنازل الممارس للعمل عن حقه أم لا، وإنما له حق الأجرة كمكافأة وتعويض عما تبدد من عمله المختزن خلال العملية.

الإجارة والمضاربة

          لقد سمح الإسلام للعامل بأسلوبين لتحديد المكافأة التي يستحقها وترك له حق الاختيار بين هذين الأسلوبين، فالأول يسمى الأجرة ويحق للعامل أن يطلب مكافأة محددة - كمًا ونوعًا - مقابل العمل الذي يقوم به، وفي الأسلوب الآخر المسمى بالمشاركة يحق له أن يطالب بإشراكه في الربح أو الناتج ويتفق مع صاحب العمل على نسبة مئوية من الربح أوالناتج تحدد لتكون مكافأة له على عمله، وقد نظم الإسلام الأسلوب الأول - الأجرة - بتشريع أحكام الإجارة، ونظم المشاركة بتشريع أحكام المضاربة والمشاركة والمساقاة والمزارعة والجعالة. وأما المرابحة فهي نوع من أنواع التمويل بأجل، كأن يشتري الممول السلعة ثم يبيعها لمن لايملك ثمنها حاضرًا إلى أجل، وهنا لا يحق للتاجر إذا اشترى سلعة ولم يقبضها أن يربح فيها عن طريق بيعها بثمن أعلى وإنما يجوز له ذلك بعد أن يقبضها. والآن بعد هذه الوقفة مع بعض الأساسيات في الاقتصاد الإسلامي - وهي أساسية لفهم موضوع الربا - ننتقل لتفنيد مبررات الفائدة أو الربا أو سمها ما شئت فكما علمنا من التعريف لا فرق بينهما.

          إن أول ما تبرر به الرأسمالية الفائدة هو عنصر المخاطرة، والمخاطرة في حقيقتها ليست سلعة يقدمها المخاطر إلى غيره ليطالب بثمنها ولا عملاً ينفقه المخاطر على مادة ليكون من حقه تملكها والمطالبة بأجر على ذلك من مالكها، وإنما هي حالة شعورية خاصة تغمر الإنسان وهو يحاول الإقدام على أمر يخاف عواقبه، فإما أن يتراجع انسياقًا مع خوفه وإما أن يتغلب على دوافع الخوف ويواصل تصميمه. وحرمة القمار وتحريم الكسب منه برهان على موقف الشريعة السلبي من عنصر المخاطرة لأن الكسب الناتج عن المقامرة لا يقوم على أساس عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار وإنما يرتكز على أساس المخاطرة وحدها فالفائز يحصل على الرهان، لأنه غامر بماله وأقدم على دفع الرهان لخصمه إذا خسر الصفقة، إذًا تبرير الفائدة بعنصر المخاطرة خطأ من الأساس في نظر الإسلام، لأنه يعتبر المخاطر أساسًا مشروعًا للكسب، وإنما يرتبط الكسب في الإسلام بالعمل المباشر أو المختزن.

          والرأسمالية في تبريرها هذا للفائدة تتناسى دور الرهن في ضمان المال للدائن وإزالة عنصر المخاطرة من عملية القرض، فما رأيها في القروض المدعمة برهن وضمانات كافية؟ لم يقتصر المفكرون الرأسماليون على ربط الفائدة بعنصر المخاطرة وتفسيرها في هذا الضوء، بل قدموا لها  تفسيرات عدة لتبريرها من الناحية المذهبية.

          فقد قال بعض المفكرين الرأسماليين إن الفائدة يدفعها المدين إلى الرأسمالي تعويضًا له عن حرمانه من الانتفاع بالمال المسلف، ومكافأة له على انتظاره طيلة المدة المتفق عليها، أو أجرة يتقاضاها الرأسمالي نظير انتفاع المدين بالمال الذي اقترضه منه، كالأجرة التي يحصل عليها مالك الدار من المستأجر لقاء انتفاعه بسكناه.

معنى المضاربة

          هناك من يبرر الفائدة بوصفها تعبيرًا عن حق الرأسمالي في شيء من الأرباح، التي جناها المقترض عن طريق ما قدم إليه من مال، وهذا القول لا موضع له في القروض التي تنفق على الحاجات الشخصية ولايربح المدين بسببها شيئًا، وإنما يكون عندما يدفع الرأسمالي المال إلى من يتجر به ويستثمره، وفي هذه الحالة يقر الإسلام الفائدة، ولكن على أساس اشتراك صاحب المال والعامل في الأرباح، وهو معنى المضاربة في الإسلام، وهذا يختلف بصورة جوهرية عن الفائدة بمفهومها الرأسمالي التي تضمن له أجرًا ثابتًا منفصلاً عن نتائج العملية التجارية.

          وجاءت الرأسمالية أخيرًا بأقوى مبرراتها للفائدة، إذ فسرتها بوصفها تعبيرًا عن الفارق بين قيمة السلع الحاضرة وقيمة السلع في المستقبل، اعتقادًا منها بأن للزمن دورًا إيجابيًا في تكوين القيمة، فالقيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل، فإذا أقرضت غيرك دينارًا إلى سنة كان من حقك في نهاية السنة أن تحصل على أكثر من دينار لتسترد بذلك ما يساوي القيمة التبادلية للدينار الذي أقرضته وكلما بعد ميعاد الوفاء ازدادت الفائدة التي يستحقها الرأسمالي تبعًا لازدياد الفرق بين قيمة الحاضر وقيمة المستقبل بامتداد الفاصل الزمني بينهما وابتعاده. والفكرة في هذا التبرير الرأسمالي تقوم على أساس خاطئ، وهو ربط توزيع ما بعد الإنتاج بنظرية القيمة، فإن نظرية توزيع ما بعد الإنتاج في الإسلام منفصلة عن نظرية القيمة فالتوزيع على الأفراد في الإسلام لا يرتكز على أساس القيمة التبادلية، لكي يمنح كل عنصر من عناصر الإنتاج نصيبًا من الناتج يتفق مع دوره في تكوين القيمة التبادلية وإنما يرتبط توزيع الثروة المنتجة في الإسلام بمفاهيمه المذهبية وتصوراته عن العدالة.فلا يجب من وجهة نظر الإسلام أن يُدفع إلى الرأسمالي فائدة على القروض حتى إذا صح أن سلع الحاضر أكبر قيمة تبادلية من سلع المستقبل لأن هذا لا يكفي مذهبيًا لتبرير الفائدة الربوية التي تعبر عن الفارق بين القيمتين ما لم تتفق الفائدة مع التصورات التي يتبناها المذهب عن العدالة.

عدلان عوض عدلان
مدني - السودان