محمد الماغوط.. قصيدة طويلة كعواء ذئب

 محمد الماغوط.. قصيدة طويلة كعواء ذئب
        

الماغوط مرة أخرى. لأنه يمر علينا كالوجع، تقدم العربي هذه المقالة وتلك القصيدة التي تتبعها لعلها تخفف قليلاً من وطأة حزن الرحيل

          توفي الشاعر السوري محمد الماغوط (1924- 2006) ظُهر يوم الاثنين الواقع فيه الثالث من أبريل 2006. «نتيجة تعرضه لهبوط حاد في القلب». مات الشاعر (كما نقلت وكالات الأنباء صورة موته) جالسًا على أريكته في صالون منزله الدمشقي. «وكان في يده اليمنى عقب سيجارة، وفي اليسرى سمّاعة الهاتف، في حين يدور صوت شريط المسجلة في تلاوة لسورة يوسف». ومشهد موت الماغوط، على هذه الصورة، لا يمرّ، لمن يعرفه - سيرة وشعرًا - من دون بعض الدلالات.

          فأما جلسته على الأريكة، بجسمه المترهّل المكتنز باللحم والشحم والسموم، فلأنه كان في سنواته الأخيرة، عاجزًا عن الحركة والتنقّل، إلا بصديقين له (على ما كان يقول) هما: العكّاز والكرسي المتنقل.

          والرجل يعترف بأنه لم يحترم جسده، فأثقله بأخلاط الشراب والطعام، ولم يحرره بالحركة، فخانه الجسد وانتقم لنفسه كأي أعرابي أو جمل. والماغوط كان يعرف ما يفعل، بجوارحه وأعضائه، تاركًا لهذه الأعضاء بدورها أن تعبّر عن نفسها، كما يقول في نص بعنوان:  (الانتقام الجبّار - من آخر إصداراته: البدوي الأحمر/ 2006). فهو في هذا النص يصوّر جسده، وعلاقته هو به وعلاقة الناس بهذا الجسد أيضًا من خلال سؤالهم عن أحواله. كان كل من يمرّ به، يقف أمامه ويتفحصه كلوحة مسماريّة»، بسبب ملامح الفناء والاحتضار الواضحة عليه. يقول في النصّ المذكور: «منذ سنين طويلة/ لم أر وجهي في مرآة/ أو جسدي في حوض/ ولم أتنشّق زهرة/ ولم ألمس رسالة/ أو أتأمل سحابة/ أو أسمع عصفورًا/ ....» (ص266)... من أجل ذلك، «ترك أعضاءه تعبّر عن رأيها بحريّة»، كما قال.  والأرجح أن ذلك جزء من حال الماغوط النفسية، امتدت في جسده حتى الموت، إنها صراخ الماغوط في جسده (كما في كلماته)، ووحشيته البدائية أيضًا، وعواؤه في أعضائه، كذئب، كعوائه في قصائده الأولى.

          أما عقب السيجارة التي وجدت مطفأة في يده اليمنى، فهو عقب أطول سيجارة دخنها مدخن في التاريخ: محمد الماغوط، فلا صورة من صوره، سواء في أول شبابه أو في فتوّته وصولاً لكهولته، إلا والسيجارة تظهر فيها كأنها امتداد لأصابعه وامتداد لأعصابه. سيجارته هذه تمتدّ، على ما أرى، من أرض السلمية (في محافظة حماه) إلى أبواب السماء، وتنفث دخانها الذي هو من قهر وغضب وحزن، وهي شعره، ولم يطفئها أيضًا سوى الموت.

          ولكي نخرج من الصورة الأخيرة في الألبوم، بعناصرها: «الكرسي والعصا والسيجارة، وسورة «يوسف» التي أرجّح أنها خيطه الأخير في الرجاء». ما كان باستطاعتنا الخروج من عينيّ الماغوط الغائمتين، تحت نظارته الطبية. والأمر في عيني الماغوط محيّر. فالصور الكثيرة التي نشرت له من أيام الشباب والفتوّة (أيام مجلة شعر في العامين 1957و 1958) حتى آخر الشيخوخة، تظهر له نظرة ثابتة، والسؤال هو: أين ينظر الماغوط في صوره؟

          حسنًا، لن تكون الإجابة بعيدة عن شعره. يظهر لي أنه ينظر في الغائب، والغائم، واللاشيء، إنه لا يتجه بعينيه لصوب أو لأحد أو لمكان.

          كأنه المخطوف والغائب. «كأنه آخر». فهو غائم واستفزازي. وهو شديد الوحدة، لا أقول اليأس، أو انعدام الفرح، بل التوحّش المطلق، ولم نكن بحاجة إلى التدقيق في نصوصه الشعرية والصحفية، القديمة والأخيرة، لأخذ أدلة على توحش الشاعر، فهو في نصوصه الأخيرة، التي جمعت في «البدوي الأحمر»، والتي يثرثر فيها حتى السأم، ويعرض فيها عرضًا مستفيضًا حمولة ذاكرته المنتفخة بكل شيء، نعم، كل شيء، لا ينسى أنه وحيد وموحش: «ها أنا أحتفل بعيد ميلادي السبعيني/ولا أحد يشاركني المائدة سوى الذباب» (ص394). 

الماغوط الأوّل/ الماغوط الثاني

          والحال هي أن الرجل المكوّم في كرسي الموت، هو بنظرنا اثنان: الماغوط الثاني يقف خلفه، وفيه، الماغوط الأول. فمحمد الماغوط الذي ولد في السلمية (تلك القرية الفقيرة المشاكسة على طرف الصحراء من منطقة حماه) في العام 1934، ولد ولادته الشعرية، بعد ولادته الطبيعية، في بيروت، في الحضن الثقافي والإبداعي لمجلة «شعر» التي صدر العدد الأول منها في شتاء العام 1957، وصدر العدد الأخير منها في خريف 1970. إن الولادة الشعرية الأولى إذن، للماغوط، عرفت في بيروت وعلى صفحات «مجلة شعر»، وفي خميسها المعروف «خميس مجلة شعر»، وبين جماعتها: يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وعصام محفوظ وتوفيق صايغ، وقد تم تداول إدارة المجلة بين بعض هذه الجماعة، كما استقل البعض منهم، كل في مشروعه الخاص ومجلته الخاصة، ونحن نقصد بالماغوط الأول، الشاعر في شبابه وفتوّته الشعرية، هذه الفتوة التي انبثقت كبركان مفاجئ على صفحات مجلة «شعر» البيروتية، التي احتضنت قصائده ابتداء من عددها الخامس في سنتها الثانية، في كانون الثاني 1958 وتوالت القصائد بعد ذلك في أعداد المجلة، لتتكون منها المجموعات الشعرية الثلاث الأولى للماغوط. وهي على التوالي:

          1- «حزن في ضوء القمر».

          2- «غرفة بملايين الجدران».

          3- «الفرح ليس مهنتي».

          هذه المجموعات الشعرية الثلاث هي التي تشكّل الفتوّة الإبداعية التغييرية، التي تتصف بالمفاجأة والوحشية التعبيرية والإيقاعية، وهي السمات الشعرية الجديدة للماغوط الأول، وبها، ومن خلالها، تجاوز المألوف الشعري العربي السابق عليه، وشارك (مع آخرين) في تأسيس حساسية شعريّة جديدة في العربية، ربما كانت «قصيدة النثر» اختصارًا تعبيريًا لماهيتها. ولا يمكن فهم «الماغوط الأول» ودوره في الحداثة الشعرية العربية، بمعزل عن موقعه في مجلة «شعر»، والحوار الحداثوي الجديد والعميق الذي أوجدته جماعتها، على تباين ميولهم واتجاهاتهم، في الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة.

          أما الماغوط الثاني، فهو محمد الماغوط، بعد الدواوين الثلاثة المذكورة، خاصة في نصوصه الأخيرة التي صدرت له في مجموعتين:

          1- «شرق عدن غرب الله»

          2- «البدوي الأحمر»، وقد صدرت قبل موته بأيام.

          ومجموع نصوص المجموعتين الأخيرتين يناهز الأربعمائة نص نثري صحفي في حوالي ألف ومائتي صفحة، يظهر فيها الماغوط الثاني في طور ترهّله الشعري والإبداعي، ويكاد القارئ العارف بالشاعر وصيرورته، يسأل نفسه: ما علاقة الأول بالثاني؟

          إلا أن بين المرحلتين مرحلة وسيطة للماغوط، تمثّلت في كل من ديوان «سياف الزهور»، ونصوص «سأخون وطني» هذا مع العلم أن لمسرحياته حسابًا آخر. 

صعلوك في المدن

          شعر الماغوط طالع من مناطق أولية، خام، من العيش والتجربة الحياتية المباشرة، ولم يطلع من ناحية الثقافة أو القراءة. ذلك واضح بيّن في شعره الذي لا يُرى أثر للثقافة الأجنبية عليه، ولا للموروث العربي البلاغي أيضًا. وهذه الخاصية لشعر الماغوط شديدة الأهمية والدلالة. فهو يكاد يكون المؤسس الشعري الفطري الأول لقصيدة النثر العربية، وتجربته الفنية مقنعة في هذا الموضوع، فقدم الشرطي، وليست أشعار بودلير أو رامبو أو أنتونان آرتو أو لوثريامون وسواهم من مؤسسي قصيدة النثر في الشعر الفرنسي، والذين تأثر بهم شعراء قصيدة النثر العرب، كأنسي الحاج وأدونيس (في بعض من نتاجه) وشوقي أبي شقرا وعصام محفوظ، نقول إن قدم الشرطي هي التي دفعت محمد الماغوط إلى كتابة نصوص هي أشبه ما تكون بصراخ وحشي في أروقة الأزمنة العربية الحديثة والمعاصرة، مثلما شكّلت حزوز الحبال على ظهر مكسيم جوركي سببًا لرواياته، ثمة جروح في قلب الإنسان لا تندمل. تجربة محمد الماغوط - إذن - في كتابة قصيدة عربية جديدة كانت فطرية، أولية، غير مسبوقة بعدّة ثقافية غربية على وجه الخصوص، ولم يكن ذلك حال شعراء مجلة «شعر» المعدودين، يترسّخ ذلك فيما توالى نشره للماغوط في المجلة، فهو في عدد شتاء 1960 ينشر ثلاث قصائد بعنوان «سماء الحبر الجرداء» وهي على التوالي: «الغريب» ومطلعها: «ثلاثة رماح تحت المطر/ ثلاثة رماح في قلبي/ هذي هي قصائدي الأخيرة/ هذا هو نشيد الانكسار». و«عتبة بيت مجهول» بمطلعها المدهش: «الوحل يتهادى كالأمير/ والشرف يتألق على سرجه الذهبي/ حاملاً سوطه الأبكم»... و«الدموع» وهي مرثية لحبيبة يقول فيها: «عيناك مليئتان بالدموع/ وشعرك مسترسل كشعر الفرسان المقهورين».

          في عدد ربيع 1959 من مجلة شعر، كان الماغوط نشر قصيدة  «الرجل الميت» يرسّخ فيها تشرّده وانتماءه للقهر والحزن (كبديل عن الوطن): «أيتها الجسور المحطمة في قلبي/ أيتها الوصول الصافية كعيون الأطفال/ كنا ثلاثة نخترق المدينة كالسرطان/ نجلس بين الحقول/ ونسعل أمام البواخر/لا وطن لنا ولا أجراس/ ... نفتح مجارير الدم/ نحن الشبيبة الساقطة/والرماح المكسورة خارج الوطن».

          أما آخر قصائد الماغوط في «شعر» ففي شتاء/ ربيع 1967 فهي قصيدة بعنوان «في الليل» يخاطب فيها الشرق بقوله:

          «كل ما كتبتهُ عنكَ أيها الشرق

          مقذوف عند قَدَميَّ...».

          وقصيدة «النعش ذو الغطاء البعيد»: «إنني أقف على حافة الجنون/ كما يقف الطفل على حافة النافذة: لا القمر في السماء/ ولا حبيبتي في السرير/ طفولتي بعيدة/ وكهولتي بعيدة/ وطني بعيد/ ومنفاي بعيد/ وأنا أهرول ذات اليمين وذات الشمال/ كنهر ضرير فقد مجراه في العاصفة».

          والذين وضعوا الإصبع على أصل صراخ الماغوط وعذابه، كُثُر. فقد حظي الشاعر بما يستحقّ من الاهتمام. وزوجته الشاعرة سنيّة صالح كتبت لمجموعته الأولى «حزن في ضوء القمر» مقدّمة بعنوان «طفولة بريئة وإرهاب مُسِنّ» تقول فيها «مأساة محمد الماغوط إنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط، ومنذ مجموعته الأولى، وهو يحاول إيجاد بعض الكوى أو توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسّم الحرية.. وحيدًا لا يمتلك من أسلحة التغيير إلا الشعر».

          تشير سنيّة أيضًا إلى دور الماغوط في تحرير الشعر العربي من «عبودية الشكل» تقول: «وقد لعبت بدائيته دورًا مهمًا في خلق هذا النوع من الشعر، إذ إنّ موهبته التي لعبت دورها بأصالة وحريّة كانت في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي».. ويقضتي إضافة حصانتها من ضغط الثقافة الغربيّة أيضًا.

          والحال، هي أنه من اللافت أنّ قصائد الماغوط التي طلعت باكرًا كالدبابير من وكر سياسي واجتماعي، لم تؤثّر في السياسة، بل أثّرت في الكتابة. في روح الكتابة الشعرية ولغتها وشكلها. فهو الذي طلع من سجن المزّة العام 1955، وجاء إلى بيروت، لم يعد للسجن بمعناه المادي مرة ثانية، ولكنه دخل في سجن آخر أصعب وأمرّ، هو سجن الحال العربية، وهو سجن واسع استطاع أن يهضم في الماغوط جميع أعصابه الروحية والجسدية.

          وأن يصغي بأذن صمّاء لحشرجة روحه وهو يكتب «سأخون وطني».. بل لعلّ الماغوط دخل في سجن وجودي أكبر من السجن السياسي. دخل في العزلة المطلقة. أخلد للصمت واللاأحد، وأدرك أنه كسوداوي تعس، عاجز عن إدراك الفرح. رجُلُ ظلماتٍ هو، ومصلوب بلا أمّ لتبكي عليه.. ويعيش في الوحل والبرد وبين المقابر. متشرد في الروح والقدمين. رامبو عربي على خطى أنتونان آرتو، شريد متمدّد لا على «بردى» وحده بل على امتداد الأنهار العربية.

          سألت نفسي: ألهذا الحد استطاعت قدم شرطي في سجن عربي أن توجد هذا المجد الكبير للشعر؟ الماغوط يرى أنه بلا مجد ولا أوسمة. والعجيب في أمره أنه لم يعد يخيف أحدًا. يذكر في حواره آنف الذكر مع عبده وازن (في جريدة الحياة) أن الرئيس الراحل حافظ الأسد قال له: «أكتبْ ما تريد.. فلن يعتقلك أحد». وتَتَبّعتُهُ من أولى قصائده حتى مجاميعه حتى صمته وانطوائه أو مقالاته ونصوصه الأخيرة، التي هي فقاعات شعر، تبعتُهُ، كما تبع هنري ميلر آرثور رامبو خطوة خطوة، شممت رائحة حريق الكلمات فتبعتُها، كان ذلك حين سئم الشعر وشتمهُ أمام حريق لبنان فكتب «سئمتُكَ أيها الشعر/ أيّها الجيفة الخالدة/ لبنان يحترق/ يثب كفرس، جريحًا عند مدخل الصحراء/ وأنا أبحث عن فتاة سمينة أحتكّ بها في حافلة/ عن رجل بدوي الملامح أصرعه في مكان ما، عندما أفكّر في بلاد خرساء/ تأكُلُ وتضاجع من أذنيها/ أستطيع أن أضحك حتى يسيل الدم من شفتيّ.../ أيها العرب/ يا جمالاً من الطحين واللّذة/ يا حقول الرصاص الأعمى/ تريدون قصيدة عن فلسطين؟ عن القمح والدماء؟».

الماغوط المختلف

          كان محمد الماغوط جزءًا من حركة مجلّة شعر التغييرية لمفهوم القصيدة العربية. وكان بين أقطاب المجلّة نقاط التقاء ونقاط أخرى للافتراق. أما محمّد الماغوط، فكان مروره في المجلة حالاً على حدة. لعله كان الشاعر الوحيد الذي كان سلاحُه قصيدته، بلا أناشيد ومقدمات ومشاريع سياسية وثقافية أثيرت حولها علامات استفهام كثيرة. كتب الماغوط قصائده بتلقائية كاسرة وآسرة، وعُرْي أوّلي للغة، مستمدّ من عمق التجربة الحياتية للشاعر.. فهو الأكثر جسديّة بين شعراء مجلة شعر. وأعتقد أنّ حُجيّة نصوصه هي التي أسست لقناعة إمكان توليد قصيدة من النثر، إضافة للقصائد المترجمة من الفرنسية والإنجليزية لشعراء معدودين من أمثال بودلير، ورامبو، وآرتور وأولينر، ورينيه شار، وأندريه بريتون، فضلاً عن إدجار ألن بو، وت.س.إليوت، وولت ويتمان، وسواهم من شعراء قصيدة النثر في الفرنسية والإنجليزية، مع دراسات مرافقة لأشعارهم، وسير حياتهم، ببراعة وإبداع لم تشهد مثلهما العربية من قبل. هنا تكمن ينابيع قصيدة النثر العربيّة.

          يقول الماغوط إنه كان بعيدًا عن هذه المثاقفة، بل عن أي مثاقفة أخرى اهتم بها شعراء مجلة شعر، ونحن نصدّقه. إلاّ أنّ ثمة ابتكارات تعبيرية بكْرًا ارتجلها الماغوط، تلتقي مع هذه المثاقفات. فهو أقرب ما يكون لرجل «انتحرَهُ المجتمع» كما سبق العبارة. وشعرُهُ أيضًا ليس سوى «مزق عقلية يشرشر منها الدم». وأنسي الحاج نفسه حين فرغ من النقد وكتب الشعر، كانت له نقاط تقاطع مع الماغوط كما في قصيدة «رائحة الحليب» المنشورة في العدد الخامس من مجلّة شعر (السنة الثانية، شتاء 1958): «لا شيء يدوم لي/ أعطيني قدمك علّه يبعث النعاس في رفيف جفني/ إني منهوك وحزين/ أمس رَقَصَتْ أجراسُ الفرح في بيتي/ واليوم عَبَر من رأسي غراب». الفرق بين شعر الماغوط وشعر أنسي الحاج هو أن شعر الحاج نفسي عصبي لغوي مثقف، في حين أن شعر الماغوط عصبي جسدي ويضرب بسيف «الكاف». والكاف هنا هي كاف التشبيه... الكاف الخطيرة التي كانت في قصائده الأولى تلمع كسيف قاطع وسحري «أنحني كالمتسوّل على أقدامك يا بردى... الوحل يتهادى كالأمير على سرجه الذهبي/... أنعق كالغراب بين نهديك الرماديين المقطوعين/... تبعثرنا الريح فوق قرانا البعيدة كالرسائل الممزقة...»... إلخ. 

الماغوط الثاني

          والحال أنّ قدرة الماغوط الجسديّة الوحشية على تشبيه الصور الحسيّة بالذهنية والذهنية بالحسيّة، والحسيّة بالحسيّة، بحرف الكاف القاطعة، تنامت وتصاعدت في دواوينه الثلاثة الأولى، وبدأت تتراجع في الكتابات الوسيطة «سياف الزهور» وسأخون وطني»، لكي تهزل وتكاد تضيع في كتابيه الأخيرين «شرق عدن/ غرب الله»، و«البدوي الأحمر». فبعد أن فرغتُ من قراءة نصوص هذين الكتابين، قلت في نفسي: الأحصنة الجميلة قد تهرم أيضًا... صحيح أنّ المسافات الطويلة والجليلة التي قطعها مهر القصيدة العربيّة الحديثة الجميل محمد الماغوط تركت بصمات حوافره على حلبة هذا الشعر بقوّة، كما أن صهيله المبكّر وحمحمة كلماته وعناوينه الحادّة لاتزال تترك في فضاء هذه الحلبة صرخات هي أشبه ما تكون بشظايا حمم خارجة من بركان.. لكنْ، على الرغم من ذلك، فالماغوط وصل إلى «شرق عدن غرب الله» ومن ثم إلى «البدوي الأحمر» مترهلاً، متراخي الكلمات، يحشد في نصوصه آلاف المفردات، ونادرًا ما يطعن بواحدة منها.

          ونسأل: لماذا؟

          ونجيب: لعل الحالة الشعرية للماغوط، التي نمثّلها بقصيدة طويلة كعواء ذئب، لا تحتمل نقدًا بالمعنى المدرسي للنقد، بمقدار ما تحتمل أسئلة.

          ولعلّ الماغوط انتبه لنفسه في معظم نصوصه الأخيرة، فكتب في قصيدة بعنوان «الظلام المراهق» (من شرق عدن...): «كل ما هنالك/ أنني شمعة عجوز أضاءت كثيرًا/ ولم يبق لها إلا الرماد والذكريات». وفي نص آخر معبّر عن حاله بعنوان «خريف درع»، يقول: «اشتقت لذلك الحنين المشرّد الفتيّ وقد ضاقت به السبل/ فيبكي كسيف عجز ولم يشهره أحد/ ولو للتنظيف/ منذ آخر معركة أو استعراض».

          ونصوصه في المجموعتين الأخيرتين، نظلمها ظلمًا فادحًا إذا اعتبرناها قصائد، على الرغم من أنه هو يدعو لعدم التفرقة بين المقال الصحفي، والقصيدة. فالنصوص آنفة الذكر بمنزلة تمارين كاتب سياسي مدرّب على صيغة ما، من خلال قالب موحد: إنها صيغة الحشد والإلحاح وعرض جميع التفاصيل وتفاصيل التفاصيل على الورقة، تمهيدًا للضربة الأخيرة أو الجملة الأخيرة، التي قد تصل وقد لا تصل، فيستحيل النّص المضجر إلى ثرثرة وإلحاح لا طائل تحتهما.

          لقد ضاع الشعر وبقي الكلام اليومي بيومياته وعادياته، وحشوه المللّ. فالماغوط من خلال هذه النصوص، وإن كان يسوق الكلام على سجيته وبلا تدبّر مسبق وبلا حذر لسياقات الكلام (وهي السياقات الخطيرة في الكتابة) إلا أنه لم يعد يختار وينتقي، يومئ ويُشَبّه، بل جاءت نصوصه لا تحتمل الاحتمالات ولا تستند إلى الاستعارات والتشابيه التي شكلت أداته التعبيريّة الأولى، ووقعت في مباشرة سرديّة من خلال إلحاح نمطي على صورة قالب معروف سلفًا... وكان بإمكانه الانتخاب وقطف زهرة الكلام، من خلال جملة واحدة في نص طويل، أو عبارة مكثّفة وجارحة، وهي لا تعوزه أحيانًا، كأن يكتب «أيتها الزلازل إليكِ حبوبي المهدئة» (من شرق عدن) أو «كلّ صباح/ وبعد أن أغلق باب منزلي/ أرفع طرف الإسفلت وأعيده/ كما يعاد الغطاء على وجه الميت» (ص403 من البدوي الأحمر).

          وتقنية الماغوط في نصوصه الأخيرة، احتفظت بتفاصيل وأسماء الواقع القديم المتجدّد، التاريخي المتطاول والمتكرر من الهزيمة والعار والذّل وما يوازيه في الحال العربية من كشف وكشط وصراخ، فذاكرة الماغوط منتفخة وفائضة، بحيث لا يترك شيئًا إلا ويورده حشدًا.. لكنْ ما الذي خسره الشاعر يا ترى؟ ولماذا؟

          بالتأكيد، كان مازالَ الماغوطُ يكتب من أجل فكرة، وبالتأكيد: إن دمغته الجارحة لا تخفى، لكنّ الحال العربية أصبحت من التأسّن والتبلّد، وفي منطقة لا تفيد فيها الأوصاف، ذلك أن تقرير المقرر، وسرد المعروف، لم يعد يحمل إثارة الشعر ومفاجآته.. هنا قد يكون مفيدًا تدخّل الثقافة والمخيّلة والصمت.

          يلاحظ أيضًا أن الشاعر، اختصر من التشابيه التي شكّلت لُحمة نصوصه الأولى، وهو حين يستعيدها متفاوتة ومتباعدة في نصوصه الأخيرة، يُشعل الصورة بما يشبهها. يقول في «الأمير المعتّق» من (شرق عدن): «أليف كريشة في جناح/ غريب كجناح بين حوافر» ويقول في «البدوي الأحمر»: «رخيص ومهدور كدم الكلام والشعراء» أو «قلمي خارج دفاتري/ كلسان المشنوق» (من قصيدة زهور بريّة في البدوي الأحمر)... إلا أن ذلك قليل في النصوص.

هذه واحدة

          وربما كانت هناك أسباب أخرى نالت من شعريّة الماغوط بعد دواوينه الثلاثة الأولى، من بينها الكتابة الصحفية بلغة الاحتجاج اليومية، التي امتصت طاقته الشعرية الأولية. وأحسب أيضًا أن طقوس الحياة اليومية للرجل، من أخلاط طعام وشراب وتدخين، جعلت الجسد يترهّل، والعصب أيضًا.. وربما كان أنّ جميع ما هجاه الشاعر من خراب الروح العربيّة وترهلها، قد وقع بالفعل أكثر مما تخيّل، وأكثر مما تنبأ به كعرّاف لهزائمنا، وكجلاّد للسقوط السياسي والاجتماعي والعسكري العربي الكبير، فَضَمَرَ فيه عصب الشعر الملتهب، ولم تسعفه الثقافة التي في الأساس لم يكن له فيها مأرب أو رغبة. لكنْ وإنْ متحشرجًا، بقي لنا، كعرب معاصرين، قصيدة طويلة من الماغوط، كعواء ذئب رائع.

 

محمد علي شمس الدين