كتبوا للبسطاء.. (فهد العسكر) شاعر الحلم

   كتبوا للبسطاء.. (فهد العسكر) شاعر الحلم
        

          يجسد الشاعر رسالته حين يرصد معاناة الإنسان بشتى همومه ومواقفه، ويفتح لنا نوافذ نطل منها لنرى صور المعاناة ومشاهد الشكوى، ولذا تأتي مستويات التعبير بين تصريح وتلميح . وقد يلجأ الشاعر إلى الرمز فيقلب المعاني ويغلف المضامين.

          والشاعر الكويتي «فهد العسكر»، ومعه كوكبة من شعراء الخليج والكويت بخاصة، جسدوا رسالة الشعر عندما حملوا لواء دعوة تنويرية، لشدة إحساسهم بالمجتمع وقضاياه ومشاكله، ولهذا نشأت ألفة بينهم وبين مشاكل الحياة اليومية وحقائقها بصورة لم يسبق الوقوف عليها، جعلوا اللغة رسولا بينهم وبين عقول الناس وحقائق حياتهم اليومية، والدعوة التنويرية عند فهد العسكر لم تتسم بأنها رؤيا حالم، تعتمد على معلبات القواميس، بل جاءت دعوة واعية تستمد أصولها من طبيعة الرؤيا، ونوعية الحلم، معتمدة على الصورة اللغوية في ثوب جديد، يلتقي فيها كل أفراد المجتمع، الحكيم، والمفكر، والإنسان العادي.

          ولقد تراوح شعر «فهد العسكر» التنويري بين الاتجاه الرومانسي في الصياغة، والاتجاه الواقعي في المضمون. وكان هذا محكوما بتطور البيئة، وتنوع الأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية بالكويت، وإن كان المجتمع قد اتهمه بالمروق والتحرر والخروج على التقاليد الاجتماعية، مما أظهره في صورة غريبة أمام مجتمع تحكمه التقاليد والأعراف الموروثة، ذلك لعدم تفهم أبناء مجتمعه شعره على وجهه الصحيح، فما أسرع ما هاجمه المجتمع مما اضطره للدفاع عنه نفسه حين قال:

وأنا شاعر خلقت لأشدو لا لأتلو القرآن في المحراب


          إن للشعر مكانة، وللقرآن مكانه، ولا خلاف بين هذا وذلك لأنه لم ينكر الدين، ولم يرفض تعاليمه، ولكنه رفض الجمود أمام الممارسات الدينية المتصلبة، يقول من قصيدة مفقودة، لم ترد في ديوانه:

زعموا أنى تقاضيت وأغرتنى المدام
ثم طوحت بنفسى آه لو يدرى اللئام
لرموا غيرى، ولو زف لهـ م عندي الطعام
وسقاهم أكؤس الخمـ ر بغي أوغلام


          رافق الشاعر فهد العسكر في ذلك ثلة من الشعراء أحسوا بضرورة التغيير، ليس فحسب، بل بضرورة التنوير أيضا. لأنهم كانوا يشعرون بمعنى الانتماء البنّاء إلى الأرض الوطن، والانحياز إلى المواطن الإنسان، الذي يمثل أدوات التغيير في هذا المجتمع.

          أرسل فهد العسكر إلى صديقه الشاعر «عبد المحسن محمد الرشيد»، وكان مسجونا يسأله عن حاله، فأرسل إليه هذه الأبيات:

أيها السائل عن حالي، وما حال السجين
حال من أمسى كما أصبح، ذا روح حزين
تعبر الدنيا عليه وهو في ظل السكون

          فرد العسكر عليه بهذه الأبيات:

حالي كحالك أيها الشحرور قست الحياة فكلنا مأسور
فالعسكر المفجوع ضاق بحبسه وابن الرشيد بسجنه موتور
الأسد تؤسر والنعاج طليقة والصقر يهوي، والغراب يطير


          إننا أمام ظاهرتين: هما «التغيير» و«التنوير». فالتغيير مرحلة تتطلبها الظروف الإجتماعية، والظواهر الحياتية. أما التنوير فهو عملية عقلية تستتبع التغيير عند أصحاب الرسالات الاجتماعية، و«فهد العسكر» من هؤلاء الذين يقفون أمام التغيير من أجل التنوير. وأشعاره في الغالب الأعم تدل على ذلك. وهذا ما جسده عندما شكا وتعددت مصادر شكواه بتعدد من يشكو إليهم، كما اختلف مستويات خطاب هذه الشكوى فقال موجها شكوى عامة غير محددة إلى «بنت الجار» في قصيدة عنون لها بـ(شكوى): فقال:

قومي اسمعي يا بنت جاري شكوى الهزار إلى الهزار
شكوى الحبيس المستجير من الطليق المستطار
شكوى صريع الكأس كأ س الصاب لا كأس العقار
شكوى لها اضطربت لفرط الحزن أحشاء الدراري


          ولأمه التي تلح عليه باللوم كثيراً وجه خطاب الشكوى إليها، كاشفا عن معاناته وبؤسه وتشتته، وضياعه في غربة ألزمته منزله وضيقه به كالسجين، شارحا لها دوره كشاعر، في قصيدة طويلة بعنوان : «شهيق وزفير » يكشف عنوانها عن مضمونها، في تقابل بين اليأس والبؤس، واستحالة الحياة في مجتمعه . فقال:

كفي الملام وعللينى فالشك أودى باليقين
وتناهبت كبدي الشجون فمن مجيري من شجوني؟
وأمضنى الداء العياء فمن مغيثى من معيني؟
أين التي خلقت لتهوا نى وباتت تحتويني؟
أماه قد غلب الأسى كفى الملام وعلليني
أرهقت روحي بالعتاب فأمسكيه أو ذريني
أنا شاعر أنا بائس أنا مستهام فاعذريني


          ويمضى الشاعر في القصيدة التي يقسمها تقسيمات يكشف كل قسم منها عن خطاب لفئة من فئات مجتمعه، ولهذا نجد خطابه للوطن «الكويت» يطول لأنه يناقش فيه الأوضاع التي أوصلته إلى حالة البؤس التي يعيشها فيه، وأسلمته إلى تمني الموت وتفضيله على الحياة، فيقول:

وطنى وما أقسى الحياة به على الحر الأمين
وألذ بين ربوعه من عيشتى كأس المنون
قد كنت فردوس الدخيل وجنة النذل الخئون
لهفى على الأحرار فيك وهم بأعماق السجون
ودموعهم مهج وأكباد ترقرق في العيون
ما راع مثل الليث يؤسر وابن آوى في العرين
والبلبل الغريد يهوى والغراب على الغصون


          وهذه الأوضاع المقلوبة أسلمته للتعذيب، ومعايشته المستمرة للسجون فأعلن للوطن خيبته، ويأسه، وغربته فيه فيقول:

وطني وأدت بك الشباب وكل ما ملكت يميني
وقبرت فيك مواهبي واستنزفت غللي شؤني
ودفنت شتى الذكريات بغور خافقي الطعين
وكسرت كأسي بعدما ذابت بأحشائي لحونى
وسكبتها شعرا رثيت به منى الروح الحزين
فلأنت يا وطني المدين وما هزارك بالمدين


          ويشكو الشاعر للوطن من أبنائه الذين قضوا على آماله، وتحاملوا عليه ظلما وعدوانا فأرهقوه باتهامهم له بشتى الاتهامات كالشذوذ والجنون، كما تطاول المتعصبون في المجتمع عليه وكفروه، ذلك لأنهم لم يعرفوه حق المعرفة، ولم يدركوا دوره في خدمتهم، ولم يستشفوا رسالته الشعرية، فقال:

وطني، وما ساءت بغير بنيك يا وطنى ظنوني
أنا لم أجد فيهم خدينا، آه .. من لى بالخدين؟!

الموت المعنوي

          ومن الطبيعى بعد هذا التعبير البائس، والفشل في محاولة الإصلاح، والتغيير، في مجتمعه أن يعتريه الإحباط في حناياه ليعكسه لنا في شعره في إحساس منه بالموت المعنوي في الحياة، وفي توقع منه لموته المادى الغريب في القبر، والذي جاء كأمنية تراوده بين الحين والآخر في أبيات تنتشر في العديد من قصائد الديوان، ولهذا تحول الخطاب في شعره إلى ندب مباشر وصراخ صريح مناديا المرأة في مجتمعه التي جاهد كي يرفع الظلم عنها ويعيد لها حقوقها الإنسانية المسلوبة، والتي عوقب بسببها باسم التقاليد الاجتماعية،إلى الاحساس به عندما رمز لليلى بالوطن لتوحد الهدف بينهما في مشروعه التنويري : (المرأة والوطن) فقال:

وطنى وما يوم الرحيل بشاحط عن شاعر متوجع متقطع
قلق أذاب الهم حبة قلبه فترقرقت في مقلة لم تهجع
ناجى رؤاه فيا بلابل رددى وبكى مناه فيا حمائم رجعى
يستعرض الماضى بطرف دامع وبخافق في الذكريات موزع
ما خر قطر لغير ليلى ساجدا ولغير سلطان الهوى لم يخضع


          وتتوحد الشكوى بينه وبين » ليلى » - الرمز الوطن - في حربهما ضد من يقف في وجه التطور الاجتماعي، وعودة الحقوق الإنسانية المسلوبة في مجتمعهما عندما قال قصيدته » نوحى » والتي أهداها (( إلى تلك التى اختطفها يد القدر القاسية من أحضان حبيبها وزجت بها يد المتعصب الذميم في سجن الفناء الرهيب أهديها ))، وقد بدأها الشاعر بالنواح على جيل الأبناء الذى يحكم مصيره جيل الآباء والأجداد ... موجها خطابة إلى المرأة حبيسة التقاليد الاجتماعية واصفاً هذه التقاليد بالسجن يقول:

نوحي بعقر السجن نوحي فصداه في أعماق روحى
نوحي فقد سالت جرو حك مثلما سالت جروحي
نوحي فما أغنى غبو قك لا ولا أجدى صبوحي


          ويجعل الشاعر من قضية التقاليد قضية مشتركة بينه وبين المرأة، فهى تقاليد تصوب سهامها على جيل الأبناء .. جيل الحاضر والمستقبل وتحول شبابهما إلى أطلال لا حياة لها ولا روح فيها كما تحول وأحلامهما إلى الفشل فيقول : الديوان : نوحي : 502 وما بعدها.

نوحى على جدث المنى في غور خافقك الكئيب
نوحى فقد ولى الربيـ ع، وأجدب الوادى الخصيب


          ويهاجم فهد العسكر جيل الآباء والأجداد الذى يقف حجر عثرة في وجه المحبين وإعطاء المرأة أبسط حقوقها مما يعكس مشروعه التنويرى في الحرية والديمقراطية، ويكشف الشاعر عن قضية أخرى تتعلق بالمرأة هي أنها سلعة تباع وتشترى لمن يدفع المال غير مكترثين بمشاعرها، ورأيها ومصيرها في هذا الزواج يقول:

باعوك بالثمن الزهيـ د، فأين يا ليلى العدالة؟


حراس التقاليد

          وراح الشاعر يهاجم حراس التقاليد الباليه من الأهل والأقارب والأصحاب ممن ينتمون إلى جيل الماضى الذى يحارب حرية جيل الحاضر فيصفهم بالثعالب والعقارب والكلاب الذين يرمون بمصير ابنتهم إلى القبر والهلاك:

قد شيعوك، فخبرينى بعدما طوى الكتاب
ماذا لقيت بذلك القبـ ر المخيف من العذاب؟


          ثم يوجه خطابه إلى المرأة كاشفاً عن النقلة الجديدة في المجتمع الكويتى بسبب العلم والانفتاح والتي أنتجت الصراع بين الجليين، جيل الماضى المتمسك بتقاليد الماضى وجيل الحاضر جيل العلم والانفتاح الرافض للقيود والمنفتح على العلم والثقافة والتنوير فيقول مخاطبا ليلى رمز كويت الحاضر وكويت المستقبل:

ليلى، وما الدنيا سوى نار الكريمة والكريم
أواهُ من داءٍ قد استـ شرى وجرح في الصميم
رباهُ رفقاً بالجديـ ـدِ، فكم شكا جور القديم
وطغت أبالسة الجحيـ م على ملائكة النعيم


          ولفهد العسكر الكثير من هذه المواقف الداعمة للبسطاء من أبناء مجتمعه وللمرأة على وجه الخصوص ضد التقاليد والتعصب الأعمى، ولكننا نشير فقط إلى قصيدته التي عنون لها :

          «الشباب للشباب - قاتل الله أمها وأباها»، وتدور القصيدة حول فتاة أرغمها أهلها على الزواج بشيخ يكبرها في السن وكان ذلك طمعاً في ماله، ولكنها لم تتقبل ذلك لأنها كانت على علاقة عاطفية بشاب يناهزها في السن فرق أهلها بينهما، ولم تجد الفتاة المظلومة وسيلة لدفع الظلم إلا بالموت، فخرجت إلى شاطئ البحر، وهناك لقيها الشاعر وفشل في أن يثنيها عن عزمها فألقت بنفسها في البحر، فقال الشاعر في روح سردية طاغية على القصيدة حولتها إلى قصة شعرية، وتحكى قصة الصراع الدائر بين الأجيال فى الكويت وقصة الحرية المفقودة في المجتمع الكويتى من ناحية. ويصور لهذا ذروة المأساة في مشهد الانتحار كاشفا عن وضع المرأة في هذا المجتمع. التى هى في الأساس رمز للحرية المفقودة والمنشودة في جميع مشروع فهد العسكر التنويرى من ناحية أخرى : الديوان : قاتل الله أمها وأباها : 266 - 270.

فحداني إلى الفتاة شعور لاقت الروح منه ما أضناها
فحثثت الخطى إليها بجنح الليل والناس نوم لأراها
كفكفت دمعها وكفكفت دمعى وسألت العذراء عما دهاها؟
فشكت ظلم أمها وأبيها قاتل الله أمها وأباها
حملاها ويلاهُ عبئا ثقيلاً رزحت تحته فلم حملاها؟
أرغماها على الزواج بشيخ ذى ثراءٍ من أجل ذا أرغماها
حددا موعد الزفاف فجاءت تندب الحظ حين خاب رجاها
وقفت حول ذلك الصخر كالتمثا ل فاهتز هزة من بكاها
ظمئت روحها ولم تر كأساً غير كأس الردى تبل صداها
سكنت روحها إلى خاطرْ مر بها رغم أنهُ أدماها
ثم صاحت لبيك والبحر ساج ليت شعرى من الذى ناداها
أدعاها الردى فلبت نداه أم دعته؟ يا ليته ما دعاها!!


          فثريا في هذه القصيدة هى الحرية الموءودة في المجتمع الكويتى آنذاك والذى سخر الشاعر فهد العسكر مشروعه التنويرى من أجلها: وهي قصيدة طويلة صاغها الشاعر صياغة رومانسية، قصصية إنسانية، يلح من خلالها على الجانب التنويري في إعطاء المرأة حقوقها الإنسانية حتى لا تنتهي هذه النهاية المأسوية.

«ليلى» تعالى وردى بعض ماأخذتْ منا ليالي النوى عطفا وإحسانا
«ليلى» تعالي فصرف الدهر أعلنها حربا وحطمنا ظلما وطغيانا
«ليلى» تعالي لنشكو ما نكابده في الحى مذ أصبح الأحرار عبدانا


          ويتوحد «فهد العسكر» مع «ثريا» رمز الحرية المفقودة بالوطن بالإحساس العميق في موته البطيء، فيلقى بآماله عند اعتاب الوطن «ليلى» المرأة - الوطن»، في خطاب النداء إليهما:

ـ «ليلاي» يا حلم الفؤا د الحلو يا دنيا الفنون
«ليلى» تعالي زودينى قبل الممات وودعيني
«ليلاي» لا تتمنعي رحماك بي لا تخذلينى
«ليلى» تعالي واسمعي وحي الضمير وحدثينى
ودعى العتاب إذا التقينا أو ففي رفق ولين


          ويترك فهد العسكر بعد رحيله أشعاره لأجيال الوطن التي ستولد بعد وفاته ليقرأوها،ويكملوا مشروعه في الإصلاح في رسالته الشعرية التنويرية عندما قال:

ليلى إذا حم الرحيل وغض قيسك بالأنين
ورأيت أحلام الصبا والحب صرعى في جفونى
ولفظت روحى فاطبعى قبل الوداع على جبينى
وإذا مشوا بجنازتى ببنات فكرى شيعينى
وإذا دفنت فبللى بالدمع قبرى واذكرينى


          وفي غمرات اليأس وظلماته المتراكبة يبحث الشاعر بعين بصيرته عن شعاع للخلاص، لعله ينتشر رويدا رويدا فينتقل به من ضيق اليأس إلى سعة الأمل، فلا يجد خلاصه إلا في استحضار الحضرة النبوية الشريفة؛ فيناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبثه شكواه، ويصّور له مايرزح تحته المجتمع من أثقال التقاليد وجور المتناقضات: فيقول:

قم يا رسول الله كي نشكو إليك فمن سواك نبثه شكوانا؟
كل بميدان اللذائد والهوى يجري وما تلقى لديه عنانا
أما الفقير فلا تسل عن حاله حال تثير الهم والأحزانا
أما الغني فقلبه ويمينه لا يعرفان العطف والإحسانا
يختال في حلل الهنا بينا ترى ألف التعاسة ذاك والحرمانا


 

نورية الرومى