كتبوا للبسطاء.. (يوسف إدريس) نجم البسطاء اللامع

 كتبوا للبسطاء.. (يوسف إدريس) نجم البسطاء اللامع
        

          في مثل هذا الشهر، أغسطس، منذ أربعة عشر عاما، رحل عن عالمنا أحد نوابغ الأدب العربي الحديث، وأحد نوابغ القصة القصيرة العالمية بلا شك، وكان امتيازه الاستثنائي نابعا من استلهام نماذج بسطاء الناس كأبطال لقصصه اللامعة، ولم تكن لغة البسطاء بعيدة عن تقنيات القص التي أعاد اكتشافها وتطويرها لتفتح أبوابا ونوافذ واسعة، على عالم من الأدب العالي وقريب المنال من الناس في آن واحد. إنه طبيب القصة العربية الموهوب، وقصاص الطب البارع الدكتور يوسف إدريس. والعربي إذ تتذاكره في هذا الشهر، فإنما تفتتح به مقاما رفيعا في دنيا الأدب، قوامه رهافة الحس المنحاز للمستضعفين، وهو انحياز يعبر عن سوية القلب الإنساني، ونقاء المعالجة الجمالية، وشرف أصحاب الكلمة الأمانة. رحم الله يوسف إدريس رحمة واسعة.

          تحضرني ابتداء حادثة مشهورة عن موسيقي شاب تزوج ابنة موسيقار عظيم، فاستمع هذا إلى ألحان زوج ابنته في تطلع وشغف ثم قال: «برافو يا بني.. لقد أتقنت الصنعة ولكنك لن تبدع فنا عظيما إلا إذا أحسست بألم عظيم».

          ولا بأس من أن نقرر هنا مباشرة أن أكثر ما ميز يوسف إدريس كأديب يتمثل في قدر الصدق وكم الأحاسيس الذي يستشعره القارئ في قصصه. فقد حابى القدر إدريس بالوقوع على مدرسة تعليم الصنعة، لكن الأهم أنه كان قد حاباه قبل ذلك حين جعله يعايش ويستشعر شقاءً عظيماً، وكان من نتيجته أن وسعت المعاناة عتبات الإحساس عنده، أي جعلته ميزانا حساسا دقيقا، يمكن أن يحس ويدرك ويقدر معاناة من حوله على نحو أكبر من كثيرين غيره.

خبرات لا تبارى بالبطل الجديد

          وقد كانت خبرات المعاناة الشعورية الأصيلة، التي جمعها الطفل يوسف خلال جولته الواسعة القاسية في أقاليم مصر- شبه وحيد- من قريته «البيرون» إلى فاقوس فالزقازيق فالمنصورة فطنطا فالقاهرة، زادا هائلا قربه من نبض ووجدان قاع المجتمع، مما أتاح له كنزا من الأحاسيس الحميمة التي تخص بسطاء المصريين، خلال التحامه العميق بهم. وكانت هذه خبرة لا تقدر بثمن، إذا أخذنا بعين الاعتبار الواقع والبطل الذي صارت تعبر عنه الاتجاهات الأدبية الجديدة، ومدى معرفة من تصدوا لتجسيد الاتجاهات الجديدة، بهذا البطل وواقعه. وحتى ندرك مغزى وطبيعة وقيمة، بل والمدى الذي وصل إليه ذلك، لا بأس من إطلالة سريعة على تاريخ القصة العربية في مصر.

          كتب يحيي حقي في «فجر القصة المصرية»: «بين هيكل وتيمور في المنشأ شبه غير قليل، كلاهما لم يولد في مهد تهزه يد الفقر، هو الذي يتلقى عادة أرباب المواهب». ثم عاد- حقي- وقرر: «يسلمنا محمد تيمور إلى المدرسة الحديثة، فقد نشأت بين يديه في قصر آل رشيد أصهار بيت تيمور، يجتمعون لقراءة الإلياذة وعيون الأدب الأوربي ويمضون أغلب الليل في نقاش لذيذ ينفسون به عن مطامحهم في أن يكون لمصر أدبها الأصيل هي أيضاً... هل ولدت القصة عندنا إذن على يد فئة أرستقراطية مرهفة اعتنقت الديموقراطية؟ وهل لنا أن نقول إنها تملصت بصعوبة من قبضة أبناء القصور ليتولاها أبناء الشعب للتعبير الصادق عن هذا الشعب؟».

          حقيقة كان يوسف ابن القرية وقاع المدينة، يملك بالنظر إلى تجربته ومعاناته، مادة خاما عيانية ملموسة لا تبارى.. مقارنة بأبناء المدينة وأبناء «الذوات» الذين يكتبون عن القرية و«الناس اللي تحت»، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار الجمهور الجديد الذي راح يقرأ الأدب ويعبر عنه الأدب، مع طلوع جيل يوسف إدريس من الكتاب.

          كانت خبرات المعاناة الشعورية الأصيلة خلال رحلة إدريس القاسية عبر أقاليم مصر زادا هائلا قربه من نبض ووجدان قاع المجتمع، مما أتاح له كنزا من الأحاسيس الحميمة التي تخص بسطاء المصريين (البطل الأدبي الجديد)، وأعطاه ميزانا يبرع به في تقدير هذه الأحاسيس، مما ساعده على استبطان العوالم التي يريد التعبير عنها، بل وجعله قادرا على تمثل أبطاله بدرجة تساعده على أن «يتقمص»، بل وأن يعيش، أدوارهم واحدا وراء الآخر.

          ولم يكن الأمر يخص واقع القصة القصيرة في مصر فقط، إذا سلمنا بما رآه فرانك أوكونور من أن القصة القصيرة هي فن الفئات المغمورة (المهمشين)، وأن كل كاتب قصة قصيرة عظيم وقع على قطاع المهمشين الذين أخذوا بيده إلى التفوق (خادمات تورجنيف، وضائعات موباسان، وأطباء ومدرسو تشيخوف). وقد كان هؤلاء المغمورون البسطاء، هم الذين شكلوا عالم إدريس الأدبي الحقيقي.

          لكن لا جدال في أن بعض مجايلي يوسف إدريس ممن عرفوا أبناء القاع، قد ملكوا ماملكه يوسف. فماذا ميزه عنهم يا ترى؟

          لقد ساعدت يوسف إدريس المعارف الاجتماعية، التي حصلها من خلال ارتباطه بالحركة اليسارية في مطلع شبابه، ذلك أنه لم يكتف في الميل لجموع الناس الذين ينتمي إليهم بالحب الفطري المكتسب من أيام الطفولة، أو بوعي مناخ الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين و...، بل مضى بهذا الميل إلى مداه أو ذروته حين انتمي فكريا إلى التيار الاشتراكي الذي كان ناهضا آنئذ. وقد زود الفكر الاشتراكي إدريس، مع خبرته بالواقع- الجدلي بالطبيعة- بنظرة جدلية حقيقية، صقلت فيه القدرة على أن يرى.

قراءة الواقع دون إضافات خارجية

          لكن الأمر مع إدريس لم يقتصر على الانتماء الاشتراكي أو معرفة الواقع الشعبي، لأن ظروفه أعطته أيضا إمكانية لقراءة هذا الواقع قراءة متفردة من حيث صدقها، مع إمكانية صياغتها صياغة فنية محكمة. لقد تعود يوسف في مجال الحديث عن تفضيله الأدب على الطب، إدانة ضيق مجال الدراسة والممارسة الطبية، وإعاقتها له لبعدها عن الإبداع. لكن هذا المجال هو الذي أمد إدريس (إذا تجاوزنا الخبرة بالتيمات الطبية التي شكلت رافدا أساسيا في أعماله) ببعض الخبرات والأدوات فيما يمكن وصفه بتراسل أو تلاقح طرائق الخبرة ومناهجها بين مجالي الطب والكتابة، مما ساعده في نهاية المطاف على إنجازه الأدبي المتميز.

          ففضلاً عن التأثير الذي يمكن أن تكون قد مارسته الخبرات الطبية المختلفة على الخبرات المتصلة بعمليات المراقبة والالتقاط، والاستعداد للكتابة، والكتابة بما تشتمل عليه من طلاقة وتدفق وتقييم وتعديل حتى وصول العمل الفني إلى الاكتمال. وما يحتاج إليه كل ذلك من قدرات كالتركيز ومواصلة الاتجاه و.... فضلاً عن ذلك لعل رؤية الواقع كما هو أهم ما استفاد إدريس من تراسل وتلاقح الخبرات الطبية والأدبية، فعملية التشريح تنطوي على منهج رؤية الجسد- الواقع العضوي المنفصل عن الرائي- كما هو دون إضافات خارجية، وتعلي من أهمية الملاحظة الدقيقة لرصد الاختلافات الفردية ودلالاتها (السوية والمرضية)، على الرغم من الخطوط العامة المشتركة بين أفراد النوع.

          وقد ساعدت خبرة التشريح مع خبرات الملاحظة الموضوعية والاختبار المعملي، وغير ذلك من الشروط التي تطلبتها الدراسة الطبية العلمية، ساعدت إدريس على التحلي في معظم قصصه بنظرة موضوعية حقيقة، لا يسقط فيها أفكاره، أو أية أفكار مبسطة، على كيانات اجتماعية أو نفسية بالغة التشابك والتعقيد، كما ساعدته على أن يتمعن هذه الكيانات، ويحاول أن يقرأ علاقاتها دون إضافات خارجية، وأن يبرع في قراءتها في نفس الوقت لا كجزء من نسيج كلي فقط، وإنما من نسيج كلي حي أساسا.

الحس الإكلينيكي وخبرات المعايشة

          وإضافة إلى ما سبق كانت بين خبرات الممارسة الطبية خبرة قريبة جدا مما يسمى لدى الأطباء «الحس الإكلينيكي»، وهي لاتقدر بثمن لأنها الوسيلة الجارية فعلا في دراسة الظواهر الإنسانية المعقدة، ولا يمكن شرح هذه الخبرة بأمان كاف دون أن تشوهها الألفاظ، إلا أنها بصفة عامة تعتمد على المشاركة، فهي تجعل الفاحص (الطبيب، والطبيب النفسي على وجه الخصوص) جزءا من الظاهرة المفحوصة (من المريض ومرضه)، وتعتمد على الطبيب ذاته كأداة قياس مباشرة، وهي تتضمن درجة من المعايشة أكثر من الملاحظة، وفيها طمأنينة للحكم الذاتي، واحترام لاجتهاد الطبيب في مواجهة الإنسان موضوع الممارسة، بحثا عن الحقيقة، وأخيرا فإن فيها من التأني وتعليق الحكم أكثر مما فيها من المباشرة والاكتفاء بملاحظة ظاهر الحركة... وممارسة هذه الخبرة صعبة وتحتاج إلى تنشئة طويلة، كما تحتاج إلى نمو شخصي في اتجاه الموضوعية. وبديهي أن المشاركة والمعايشة لا تعني أن يأخذ الطبيب مأخذ التسليم ما يقوله مريضه متأثرا بمشكلته.. إن الطبيب يسمعه ويشاركه مشاعره ويحسه إحساسا عميقا، ثم يُكون رؤيته الخاصة الأكثر صحة والأقل تحيزا. لكن العيش المشارك بمختلف مستوياته يتيح الفرصة لدرجة أرقى من الصدق.

المعرفة المنهجية الشاملة بالإنسان

          وتستحق خبرات المعارف الخاصة بالنفس البشرية وقفة هنا إذ إنها ساهمت بنصيب وافر في بلوغ يوسف الذروة السامقة التي وصل إليها. فقد وفرت خبرات علم النفس والطب النفسي لإدريس أكبر قدر من المعارف الموثوقة في هذا الصدد، ناهيك عن إمكانات إضافية (فوق ما سميناه خبرات المعايشة والحس الإكلينيكي) تتيح الاهتمام بالأعماق النفسية لأبطال أعماله، والصراعات الداخلية والآلام التي يعانونها.

          وقد كانت هناك مثيرات مبكرة لإدريس في هذا المجال، فقد ارتبط في أول طريقه بالشاعر الطبيب إبراهيم ناجي. وفتح هذا اللقاء لإدريس آفاقا مهمة.. كان إبراهيم ناجي يشغل وظيفة مدير مستشفي الخازندار الحكومي.. وكانت له عيادته الخاصة في وسط الحي، حيث كان يعالج أغلب مرضاه مجانا، مهتما بحالاتهم النفسية أكثر من اهتمامه بحالاتهم الجسمانية، ولهذا كان شديد الشغف بقراءة علم النفس. ولديه مكتبة زاخرة بأدبياته، كما كان يقدم- في الصحف- أبوابا قصيرة عن الأمراض النفسية.

تجاوز الواقعية الاشتراكية

          لقد كانت الواقعية الاشتراكية تهتم بالشخصيات الوافدة من قاع المجتمع وتعنى بالأحداث والمواقف الأيديولوجية. ولكن يوسف إدريس، الذي كان يساريا متحمسا حينذاك، لم يخضع لهذه المقاييس وتلك المواصفات. وإنما شق طريقا خاصا به يعتمد على استكشاف العالم الداخلي لهذه الشخصيات ومبلغ ما تعانيه إنسانيتها من آلام ومن تمزقات وتناقضات في حياتها اليومية، وكانت كتابته على هذا النحو بحثا في الأعماق البشرية، بكل ما تشتمل عليه من دوافع غامضة ومعاناة تفتقد القدرة على الإفصاح.

          وكلنا يذكر قصة «أرخص ليالي»: «الفلاح الفقير عبد الكريم يصاب بالأرق بعد أن طمع في كوب شاي ثقيل، ويبحث عن طريقة يقضي بها ليلته دون أن يتكلف مالا، فتتجمع أحداث حياته كلها في شعور واحد من الغضب والضيق من أوضاع الفقر، ولايجد شيئا متاحا في قريته النائمة في بلادة إلا داره، ليمارس فيه متعته المجانية الليلية الوحيدة، غير ملتفت للعلاقة السببية بين ذلك وبين الإنجاب والزحام والفقر».

          إن المسألة بين يدي إدريس لم تقف عند الدائرة الملعونة التي تناولتها القصة: الفقر الذي يدفع إلى الليالي الرخيصة، لينجب الناس جيوشا من الأفواه التي تدفع بالفقر إلى مستويات أكثر حدة. فقد لجأ- إدريس- إلى المونولوج الداخلي لعبد الكريم بطل القصة، ليعرض عالمه الروحي من الداخل، كاشفا ما يعانيه من عذاب ومن أشواق (فلعبد الكريم يوتوبياه الخاصة مثلما للصول فرحات في جمهورية فرحات يوتوبياه )، وليصبح هذا هو موضوع القصة وقيمتها الإدريسية أكثر من الدائرة الملعونة.

          لقد قدم لنا إدريس في هذه المرحلة صورا حية للمقهورين في القرية والمدينة وهم يحلمون بالمستقبل، أو يضحون بمطالبهم الفردية في سبيل الجماعة، أو يكسرون جدار الإذعان بالتمرد على ظالميهم، أو يعانون قدر التحول من القرية إلى المدينة.. وإذا كان عبد الكريم مثله مثل عبد اللطيف وعبده وأبو سيد وعوف وغيرهم من «أبطال» قصص إدريس، يجسدون هوية المواطن المصري البسيط، الفقير، الذي يتجه إليه القص وينحاز، وهو يتناول مشكلاته، والملامح الخاصة للظلم الواقع عليه، والمحرمات التي تكبل خطواته، فإن المعالجة الإدريسية تصل غياب العدل بالفساد الاجتماعي والظلم السياسي، وتصل الكل بخصال هذا المواطن الكادح الذي يتميز بصبر الجمال التي تشهد وتسمع وتحتمل، وذلك دون إغفال لمجمل قسمات عالمه الروحي.

          هكذا يلتزم إدريس في هذه المرحلة بالواقعية الهادفة (إدانة أوضاع الحياة البائسة للكادحين) على الرغم من تجنب العثرات التي يقع فيها أتباع الواقعية الاشتراكية الجامدة، من تركيز على البطل الإيجابي والتفاؤل الزائف وتقسيم العالم إلى أبيض وأسود. إن شخصيات إدريس تجهد في تحسين أوضاعها، في إطار التفاؤل المرح، لكن هذا الجهد قد يتبدد في النهاية، ويتقلص ما تبقى من متعة إلى رشفة من كوب شاي، أو تدخين «جوزة»، أو وجبة مهلكة من التين الشوكي. وقد تفشل الشخصيات التعسة في تحقيق أي شيء، ولكن مجتمع القرية يظل في مجموعه قادرا على تحقيق بعض الانتصارات المتفاوتة القيمة (في الليل، الهجانة).

          لكن إدريس كان يكد مع ذلك في استخدام منهج الطب.. منهج التشريح والوصف والتفسير، بعيدا عن الأوردة والأنسجة والأعضاء في اكتشاف خبايا النفس الإنسانية، ساعيا إلى إضاءة أغوارها بكل ما تنطوي عليه من تعقيدات ودقائق ليكشف لنا عن حقائق إنسانية تكاد تعادل في صدقها حقائق العلم الطبيعي (أو القانون كما راق له أن يعبر في مناسبات عديدة)، إذا راعينا المعايير الخاصة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار فيما يخص الموضوعات التي تنتمي لمجالات مختلفة ومتباينة. وقد جعل ذلك من إدريس أستاذا في كشف ما يدور بنفوس أبطاله، ورؤية الدوافع التي تحرك شخوصه. ولأنه امتلك طيفا هائلا من مختلف ألوان الأحاسيس، إلى جوار المعاناة التي وسعت عتبات الإحساس عنده، وساهم ذلك في قدرته على تمثل العوالم التي يريد التعبير عنها بل وحتى عيش خبراتها، فصار لا يبدع في كثير من أعماله عالما قصصيا، وإنما يعيش على التوالي دورا بعد دور.

          تبقى إشارة أخيرة إلى أن ارتباط أدب إدريس بالفقراء كان مرحلة، وعلى أهميتها فقد تطور إدريس إلى ما يتجاوزها، بل إنه في عدد من قصصه كان يقف - عن حق - ضد الفقراء ليس لفقرهم وإنما لما يسببه الفقر من تداعيات في مواقفهم. لكن هذا موضوع آخر.

 

محمد فتحي