كتبوا للبسطاء.. (رابندرانات طاغور) في عشق الحياة

   كتبوا للبسطاء.. (رابندرانات طاغور) في عشق الحياة
        

في هذا الشهر نتذكر رحيل ثلاثة أعلام كتبوا للبسطاء: رابندرانات طاغور فيلسوف الهند وشاعرها الحكيم، ويوسف إدريس نابغة القصة العربية ولسان المستضعفين في مصر، وفهد العسكر شاعر الحلم، وداعية التنوير بالكويت. إنها أصوات لا تخبو لأنها تعيش في قلوب صنّاع الحياة.

          لا يعرف اليأسُ سبيلا إلى قلبِ فيلسوفِ الهندِ وشاعرها الحكيم رابندرانات طاغور، الذي تمر هذا الشهر ذكرى وفاته الخامسة والستون ففي نثره أملٌ لا يجف نبعه، وفي شعره عشقٌ لا يتوقف خفقه، وفي فكره شمعة لا يخبو ضوؤها. إنها الشمعة التي أوقدها للبسطاء صانعي الحياة وعاشقيها الذين يحترقون لينيروا الطريق للآتين بعدهم.

          أعيشُ مع طاغور كأني أراهُ، فكلما طوى اليأسُ صفحة أحد أيامي، أفتح صفحة جديدة حين أتذكرُ قصيدته التي يمهِّدُ لهَا اسمُها؛ «لا تَطْوِ جناحيكَ»، ويقولُ فيها : «مع أن المساءَ يزحفُ وئيدًا ومتراخيًا،  ويكادُ بإيماءة منهُ يُسكِتُ أغنيتك؛ ومع أنكَ وحيدٌ في السماءِ اللامتناهيةِ، وجسدُك منهكٌ، تَراك ترفع متمتمًا صلاةً صامتة نحو الآفاق المستترة وراء الحجب. مع أن الظلام مخيِّم على العالم، أيها الطائر، يا طائري، لا تَطْوِ جناحيك»!

سيرة البحيرة الطاغورية

          ثلاثة مناهل ثقافية، هي البنغالية والهندية والإنجليزية، صبت جميعها في بوتقة هذا المبدع وتركت آثارها المتباينة على آثاره الأدبية التي تنوعت بين كتابة الشعر والقصة والمسرح، وعزف الموسيقى، بل والرسم الذي صاحبه منذ شيخوخته عشرين عامًا حتى وفاته وهو يناهز 84 سنة.

          لم يتلق طاغور تعليماً تقليديًا، إذ حرصت أسرته على تعليم ابنها تعليمًا خلاقًا، وهو الذي توفيت والدته حين بلغ الرابعة عشرة من عمره. ونحن نعرف أن دواركانات جدَّ الصبي رابندرانات (الذي رحل قبل ولادة الشاعر) كان من كبار ملاك الأرض، وعاش سنواتٍ طوالا في بريطانيا، حتى توفي بها، وقد اقترب خلال هذه السنوات من المجتمع الإنجليزي اقترابًا جعله يُدعى بالأمير، وإن لم يحصل على اللقب، بل ودخل القصر الملكي والتقى الملكة فكتوريا، وخالط فناني وأدباء ذلك العصر، ومنهم تشارلز ديكنز.

          لكن حياة ذلك الجد لم يكن لها ظلال على سيرة الأب (ديبندرانات). الذي عاش شبابه غريبا، حتى انضم إلى طائفة البراهمة، ووصل فيها إلى مرتبة (المهاريشي)- أي الكاهن العظيم- إلى أن انتهى زعيماً لتلك الطائفة.

          نحن إذن في بحيرة رابندرانات حيث يصب نهران، من الجد والأب، كلاهما خبر الحياة بشكل مختلف، وكلاهما أمدَّ الصبي من عنده بما يسر له أن يكون عاشقا؛ لله والطبيعة والبشر.

          في الحادية عشرة من عمره رافق رابندرانات أباه في رحلة إلى جبال الهمالايا حيث كانت لهما وقفة طويلة في منطقة بغرب البنغال تسمى (شانتي نيكتان)- وهي الجهة التي أنشأ فيها الابن فيما بعد (عام 1918) مدرسته الفلسفية المعروفة باسم (فيسفابهاراتي) أو (الجامعة الهندية للتعليم العالمي). هناك غرس الأب في روع ابنه المفاهيم البنغالية التقليدية وحرك في نفسه القيم الروحية ونمى فيه نزعة استقلال الذات والاعتماد على النفس، فقد كان يتركه وحيداً في جولات طويلة يجوب فيها المسالك الوعرة في تلك الجبال الخطرة.

          بعد هذه الرحلة التعليمية «البرية»، يُصبح البيت مدرسة طاغور، ويكون معلموه هم أشقاءه إضافة إلى مدرس وحيد من خارج الأسرة اسمه (دفيجندرانات) وكان عالمًا وكاتبًا مسرحيا وشاعرا، كما حظي أيضا بمعلم لرياضة «الجودو»!

الخلاص من الألم

          بعد وفاة والدة طاغور تنتحر شقيقته، مما يسبب له صدمة هائلة. ويقوده ذلك إلى محبة الإنسانية جمعاء، بدلاً من التمسك بالحب الفردي والخاص، وتتوالى الأحداث المؤلمة في حياته، لكنها كانت تعضد باستمرار روح اللاتعلق عنده إلى أن انتزع منه الموت بين عامي 1902 و 1918، زوجه وثلاثة من أطفاله ووالده!

          في كنفِ البيت يتعلم طاغور «السنسكريتية»؛ لغته الأم، وآدابها ثم يدرس الإنجليزية فتكون بوابته إلى آداب أوربا، رغم استرابته من الإنجليز أنفسهم، وهي ريبة جاءت من غيرته على وطنه الأصلي «البنغال». وإذ يوحِّد الإنجليز الهند والبنغال في مستعمرة ضخمة تلغي الوجود البنغالي نعرف كيف كان طاغور يستبصر الأمر وأن ريبته لم تكن خيالا. ويغدو طاغور موزعاً بين مشاعره كمواطن بنغالي، وبين ولائه للكيان الهندي الكبير.

          سنقف أمام صراع الفتى مع نفسه، والصراع في حياة الشاعر سيتحول إلى ثنائية تعيش  في فكره ولا تغيب أبدًا عن إبداعه. ففي حين يقبل على معطيات الحضارة الغربية العلمية والجمالية والفلسفية، نجد أن ذلك كله يتزامن  مع حياته داخل أسرته الأكبر التي كانت تعيش في بيتين كبيرين بالقسم البنغالي من مدينة كالكتا. ولم تمنعه قناعاته وتقاليده من استقلاله برأيه، بشجاعة، كما لم يوقفه إخلاصه وولاؤه للوطن عن نشر كتاب في عام 1916 ميلادية يهاجم فيه التعصب حتى وإن كان للوطن!

          كان طاغور قبلها بثلاث سنوات قد نال جائزة نوبل في الآداب، بعد نشر أهم أعماله بين عامي 1908 و 1912 وهي جيتانجالي، أو (القربان الشعري)، وروايته الشهيرة (جورا) ومسرحية واحدة هي (كتب البريد) بالإضافة إلى صفحات من مذكراته، حين انقلب بعد ذلك متأثرًا ببشاعة الحرب العالمية الأولى ـ على الزعيم الروحي الهندي غاندي، الذي اعتمد على المغزل وبساطة العيش، كوسيلة سلبية لمقاومة الاستعمار الإنجليزي، مما رآه رابندرانت الغاضب تسطيحًا لقضية المقاومة.

          كان طاغور يذوب عشقًا في وطنه. وهو يحدّد لأهله وعشيرته السبيل القويم المؤدي إلى رفعة شأنهم وخلاصهم، حين يقول: «حيثما يتحرّر العقل من الخوف ويشمخُ الرأس عاليًا،  وحيثما تتوافر المعرفة بلا قيود، وحيثما لا يتفتّت العالم إلى شظايا تفصلُ أجزاءها عن بعضها جدران المحليّة الضيّقة، وحيثما تنطلق الكلمات من أعماق الحقيقة، وحيثما يمدّ الكفاح الذي لا يعرف الكلل ذراعيه ليُعانق المثل الأعلى، وحيثما لايضلّ تيار العقل الرائق طريقَه فيتخبّط في صحراء العادات المرذولة،  وحيثما تنطلق عقولكم نحو الفكر والعمل المُتنامي لبلوغ فردوس الحرية،  أناشدُك ربّاه أن توقظ قوْمي من غفلتهم وغفوتهم».

          لكن المواطن رابندرانت يجد نفسه في علاقة متوترة ببني وطنه «البنغال» الذي كان يموج بالاضطرابات، حين ظهرت روايته (جورا) عن دعاة التحرر والهندوس. كانت الرواية تفضح التعصب الهندوسي من خلال قصة حب بين فتى نشأ هندوسيًّا وفتاة من طائفة البراهمة (وهي حال تلخص آلاف الحالات للعلاقات بين الطوائف والأديان في الهند المقسمة). لقيت رواية (جورا) استياء أهله، فنُصِح طاغور بالسفر ورحل إلى إنجلترا في عام 1909 ميلادية، ليصيب شهرة في الأوساط الأدبية الإنجليزية بفضل أشعاره المترجمة إلى لغة شكسبير.

          على منوال جده يتصل طاغور بحركة الأدب في إنجلترا حتى بعد أن انتهت تلك الرحلة وعاد إلى وطنه فأصبح يحظى بمكانة متميزة في الحياة الأدبية الإنجليزية وذلك ما شجعه على معاودة التفكير في الارتحال بأسرته في عام 1912 ميلادية، حيث تعرف في لندن على الشاعر الإنجليزي و. ب. ييتس؛ ونال إعجاب الشاعر إزرا باوند وبعض الناشرين الإنجليز. وكان طاغور خلال الرحلة البحرية الطويلة قد قام بترجمة بعض قصائد من ديوانه (جيتانجالي) إلى الإنجليزية، نشرتها دار ماكميلان الشهيرة. وأصبح طاغور في قائمة المرشحين للحصول على جائزة نوبل، فنالها في 1913. وقد تبرع بربع قيمتها آنذاك (ثمانية آلاف جنيه) للإنفاق على صرحه التربوي والتعليمي الذي أنشأه ورعاه في شانتي نيكتان.

في كل قلوب العالم

          كانت رحلة طاغور بين الهند وإنجلترا تمر بمصر بحرًا، وقد اهتم به أدباؤها، وقال عنه الدكتور طه حسين: «إن الذي يملأ نفسك في حضرة طاغور هو تجلّي فكرته الروحية في كل شيء من كيانه المادي». ويحكي حسين أحمد شوقي في كتابه (أبي شوقي)، عن استقبال أمير الشعراء للأديب الهندي الأشهر في حفل تكريم حضره الكثير من الأدباء والكبراء، على رأسهم الزعيم سعد زغلول الذي أجَّلَ اجتماع مجلس النواب ساعة آنذاك، كي يتسنى للأعضاء المدعوين إلى الحفل تلبية الدعوة. وفي هذا الحفل أثنى طاغور على شعر شوقي لأن قراءه هم العالم العربي كله، بينما قراء طاغور ـ في لغته الأم ـ لا يتجاوز عددهم عشرة ملايين، لأن كل ولاية هندية تتكلم لهجة تختلف عن لهجة أخرى. وقد غنى محمد عبد الوهاب في هذا الحفل مقطوعة من رواية مصرع كليوباترا لأحمد شوقي احتفاءً بطاغور.

          وبعيدًا عن توزع طاغور بين الإقامة والرحيل، وحضور ذلك في عوالمه، وتوتره بين لغة قومه ولغة العالم، بين مقاومة غاندي وفظائع الحرب، انشغل الأديب الكبير في قصصه بثنائية الحياة والموت، ثنائية الزواج والشراكة العائلية بين قطبي الكراهية والحب، الطيبة والقسوة. ولذا نرى كيف تصاحب شخصيات طاغور مأساوية الحياة والشعور بالاحباط والرغبة في الخلاص من الحزن المدمر، ويعود معظمها إلى البيت بحتمية الارتباط العائلي الموضوعي، الغامض والقسري.

          في قصته القصيرة «الحياة والموت»، ترحل البطلة مرتين، الأولى مرة خيالية قصصية متوهمة، يمكن أن ننعتها بالاختفاء المؤقت، داخل بنية حكائية كاذبة تم تصديقها نتيجة الخطأ والاعتقاد بأنها ماتت حقا، بينما الرحيل النهائي والحقيقي هو انتحارها في الخاتمة. إنها ثيمة كثيرًا ما تتكرر، بين الحضور الخادع، والموت السري، هكذا نراه أيضا حين تفقد الأسرة طفلها، وحين يعود القارب بطفل آخر، عليها أن تعيش خديعة أنه ابنها، (قصة عودة السيد الصغير).

          يقول طاغور في إحدى قصائده، متذكرًا ـ ربما ـ العودة إلى البيت، بعد عناء الرحلة: «إنك تسير على شاطئ البحر نحو المعبدِ البعيد؛ أنا شجرة، وبفيئي سأقبِّل جسدَك.  دَعْني، أيُّها الحاج، أقاسِمْك شطرًا من مجاهدتِك . على جانب الطريق سأبقى شاهدة على رحلتك، وفي عبادتك، إذ تقرِّب الزهور،  سيمتزج بعضٌ منِّي، ما كان صارمًا وقاسيًا، لتجده وقد أضفيتُ عليه شيئًا من الطراوة؛ وما كان مجهولاً ونائيًا، وقد أعرتُه، بحروف من الخضرة،  مظهَرَه المعلوم، وإذ عرفتَني  بات لكَ أن تعرف طريقك،  وفي إبداعك  يترجَّع، ضعيفًا، صوتُ مَنْ نذرتْ نفسها لك. إن أوراقي ترتعش في حرِّ شمس الظهيرة اللاذع،  وتنشد الصلاة التي تهجع في قلبك، أما ثماري فأمزجها بثمار عبادتك، وحين يندغم النهار بالليل  وتنتهي رحلتُك،  سأقف هنا وحدي، وقد انتهت خدمتي، هذا الدرب سيبقى غاليًا على قلبي وفي ذاكرتك سأمكث كالذكرى. ومن أجلك، بفرح،  سأقدِّم كلَّ ما هو لي».

زهرة طاغور الحُرة

          يقدم طاغور نفسه وحياته نموذجًا للإنسان الحُر، الذي لا ينسى انتماءاته، ولا يتنكر لقناعاته، وهو مرتبط بجذوره وإن اضطر لمغادرتها حينا، لذلك يقول: «يوما بعد يوم، أدفع بزوارقي الورقية واحدا إثر واحد، في الجدول الجاري. لقد كتبت عليها، بأحرف سود كبيرة اسمي واسم القرية التي أسكن فيها، آملا أن يلقاها إنسان في أرض غريبة ما، ويعرف منها من أنا. لقد أوثقت زوارقي الصغيرة بزهور (الشيولي) المقطوفة من حديقتنا، آملاً أن يتاح لهذه الزهور، زهور الفجر بأن تنقل غضةً ريّا إلى أرض الليل. ودفعت زوارقي وشخصت ببصري إلى السماء، فثمة قزعات من الغيوم تنصب أشرعتها البيضاء الحدباء. لا أدري أي رفيق لي عابث، في السماء، يحدر إلى هذه الغيوم نسيما لتجري مع زوارقي. وحين يجن الليل فإنني أدفن رأسي بين ذراعي ، وأحلم بأن زوارقي تمخر بعيداً ، بعيدا في موهن من الليل تحت أشعة النجوم ، تواكبها جنيات النوم ، متخذة حمولتها سلالاً ملأى بالأحلام».

          طاغور الذي عانى الفقدَ ـ كما أسلفنا ـ كان يحس أنه مثل زهرة انتُزِعت بتلاتها واحدة تلو الأخرى، وأصبحت كالثمرة التي سيأتي الموت ليقطفها في كمال نضجها لكن صفاءه الواسع وضبطه لنفسه وخضوعه أمام الله الذي ورثه من والده، جعله إنسانًا نادرًا. لم يكن الموت سراً بالنسبة له، ولم يكن ليستدعي الألم. وهكذا، كانت إحدى أغنياته التي استلهمها غاندي منه تقول: أنا هذا البخور الذي لا يضوع عطره ما لم يُحرق، أنا هذا القنديل الذي لا يشع ضوؤه ما لم يُشعَل. لقد تمتع طاغور بموهبة تحويل الألم إلى فرح. وكان يحب الحياة إلى حد أنه أراد ألا يضيع قداستها بالوقوف عند ما تسببه حركتها من شعور بالألم. كانت مهمته مزدوجة: اكتشاف ربه، إله الجمال، في الطبيعة والجسد والفكر والقول والفعل، وتحويل الحياة وتعديلها لتصبح جميلة بكليتها.

          وقد أصبحت هذه رسالته إلى البسطاء المتألمين، وما أكثرهم، مثلما انعكست روحه على مركز التربية شانتي نيكيتان (أو «مرفأ السلام») الذي أسسه عام 1901، فأصبح بؤرة ديناميّة خلاقة لهذا الجمال، حيث تفتح فيه الشعر والرسم والموسيقى والرقص والمسرح والعلوم. لقد حقق طاغور من خلال هذه المدرسة الرؤيا التي عبر عنها في مؤلفه الوحدة المبدعة، حيث تعطي الطبيعة للإنسان معنى التوق إلى اللانهائي. فالإنسان في الطبيعة إنسان حرّ.

          حين بلغ طاغور الثمانين، وكان يرتقب الموت مريضًا، وسط أتون الحرب العالمية الثانية قال: عندما أجول ببصري من حولي، أقع على أطلال مدنية مغرورة تنهار وتتبعثر في أكوام هائلة من التفاهة والعبث. ومع ذلك فلن أذعن للخطيئة المميتة في فقدان الإيمان بالإنسان؛ بل إنني على الأحرى سأثبِّت نظري نحو مطلع فصل جديد من فصول تاريخه، عندما تنتهي الكارثة.. وسيأتي يوم يعاود فيه الإنسان، ذلك الكائن الأبيّ، خطّ مسيرته الظافرة على الرغم من كافة العراقيل، ليعثر على ميراثه الإنساني الضائع.

 

أشرف أبو اليزيد